" " " " " " " " رواية سر الطلسم (الفصل الثاث)
📁 آحدث المقالات

رواية سر الطلسم (الفصل الثاث)


المقبرة

- يا مصيحلي .. أنت يا واد .. أنت نايم في مية يخرب مطنك.. مصيلحي اصحى يا واد..

جلس في فراشه مجفلًا متلفتًا حوله:

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. سلام قول من رب رحيم، دا كان حلم ولا علم؟ إيه اللي بيوحصل ده؟ لا الكلام ده مينسكتش عليه واصل.

طرقات الباب تتواصل مع صراخ منادي باسمه:

- يا مصليحي جوم يا وله كلات دا نوم .. نامت عليك حيطة يا بعيد.

- يا فتاح يا عليم يا رزاج يا كريم .. اصطبحنا بأم لكلوك ربنا يستر.

فتح الباب وهو يفرك عينيه بقبضتيه:

- خير يا أم لكوك على الصبح.

- طب جول صباح الخير لول.

- صباحك زي وشك.

- ربنا يسامحك ..إلا اللي سمعته صوح ..عم درديري ربنا افتكره.

- لهو كان ناسيه يا ولية يا جهلة.. اسمها اتوفى.

- ربنا يرحمه...خلينا في اللي عايشين ..أظن أنك مسكت مطرحه.

- إيوة .. مسكت وممسكتش .. ماشي فايتهالكو مخضرة.

- ليه كفى الله الشر ؟

تلفت حوله بارتياب ثم تمتم هامسًا:

- سكان المكان مش فايتني في حالي.

بصقت في صدرها، ثم أصدرت صوتًا من بين شفتيها المضمومتين:،

- أشتاتًا أشتوت ..حابس حابس .. ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم ..كلام إيه اللي بتجوله دا يا مصيلحي؟

- تلاتة بالله العظيم اللي بجولك عليه حوصل.

- تلاجيك بس لساتك حزنان على عم درديري ..بجولك إيه عندينا النهاردة جتة حريمي .. رايحة أغسلها وأنت جهز حالك، الناس هيكلموك علشان تجهز المدفن.

- ما جولتلك أني فت الشغلانة دي يا أم لكلوك.

- بجولك إيه يا وش الفجر أنت ..لحد ما يجي واحد مكانك هتفضل شغلانتك هنا الدفان.. فوتك بعافية.. سلام قول من رب رحيم ..متأخذوناش يا أهل المكان ..حابس حابس عفريت كابس ينزل قالع يطلع لابس واللي بيرقص ع المسامير واللي بإبره بيفحت بير واللي بينفخ في المزامير يفضل ينفخ لما يموت...أشتاتًا أشتوت.

ضرب كفًا بكف وهي تنشد تراتيلها مبتعدة، جلس خلف الباب يضرب رأسه بكفيه مولولًا:

- هتعمل إيه يا مصيلحي في وجعتك السودا دي؟ ... عمك درديري الله يرحمه من جيهة.. والجنية الملعونة دي من جيهة تانية.. آني لازمن أوجف على حيلي ..ولازمن أواجه ..لو هربت منيهم هيجروا ورايا،كيف الكلاب السعرانة، بس لو وجفت جصادهم هيجروا من جدامي زي الخرفان.. أنا ابن آدم، وهم ولاد جن أبالسة ..أجوم أشوف شغلي وأتوكل على الله.

كان قد اعتاد بكاء ونواح الفراق، ولكن هذه المرة شيء ما مس قلبه، كان الميت امرأة في متوسط العمر، بعد دفنها وانصراف كل المشيعين إلا فتاة بدت في العقد الثاني من عمرها، ظلت قابعة بجوار القبر تقرأ القرآن ببكاء مكتوم.

ابتعد قليلًا حتى لا يضايقها وجوده، تأخر الوقت واقترب آذان المغرب.. تسلل يراقبها من بعيد كانت كما هي منكفئة بجوار القبر تتمتم بآيات من القرآن.. تلفت حوله وتعجب كيف يتركها ذووها في هذا المكان.. تسلل بهدوء يقترب منها، كان على بعد عدة أمتار منها عندما اخترق جدار القبر من الداخل ذراع أمسكت برأس الفتاة التي صرخت بهلع وحاولت المقاومة، والذراع تجذبها للقبر في مشهد اقشعر له بدن الدفّان وهو واقف مكانه وقد تجمدت أوصاله وعجز حتى عن التنفس.. وعندما بدأ عقله يعمل من جديد لم يكن قد تبقى من جسد الفتاة خارج القبر إلا قدميها.. أسرع نحوها يحاول جذبها وصراخها ما يزال يدوي مكتومًا من داخل القبر.. كأن قوى جبارة كانت تجذبها فلم يستطع إخراجها.. ورغم بذله لكل جهده لم يستطع إنقاذها.

جلس مذهولًا أمام القبر الذي أغلق مرة أخرى بعد أن التهم الفتاة وكأن شيئًا لم يكن.. تحسس جداره الملتئم، ثم وضع أذنه عليه، وازداد هلعه عندما سمع صراخ الفتاة، تلفت حوله بعجز لا يعرف ماذا يفعل.. لو فتح القبر لإخراجها مسؤولية لو اكتشف أحد وربما يتهموه بنبش القبر، ولو أخبر عما حدث لن يصدقه أحد.

توهجت وسط ظلام عقله الدامس فكرة مدهشة، أخرج هاتفه من سيالة جلبابه واتصل بأم لكلوك، شرح لها ما حدث بجمل مفككة غير مترابطة، لم تفهم منه أي شيء، استهلك ما تبقى من أعصابه حتى استطاع إقناعها أن تسأل أهل الميتة أن كانوا يفتقدون أحدًا.

جلس في آخر مكان في المدفن يراقبه من بعيد بعين، وعينه الأخرى على هاتفه ينتظر الاتصال في أي وقت.

وأخيرًا بعد انتظار دام كأنه دهرًا، جاء اتصال أم لكلوك بخبر لم يتوقعه ولا في أحلك كوابيسه:

- إيوة يا مصيلحي .. الجماعة مافيش حد منهم ناجص، كلاتهم موجودين.. لو تجولي إيه اللي حوصل؟

صرخ باهتياج:

- يعني إيه كلاتهم موجودين؟.. والبت اللي كانت بتجرا على المدفن دي كانت مين؟.. كانت مين؟

سقط التليفون من يديه وركض غير مبالي متجهًا لكوخه وهو يسمع آذان العشاء يعلو في المآذن، أغلق الباب وجلس خلفه لاهثًا، يتلفت حوله ثم صرخ:

- أنتم بتعملوا اكدة ليه...أنا كت عملت إيه؟

- مش أنا قلت لك مش هيخلوك في حالك يا مسكين!

تراجع زاحفًا على الأرض عندما ظهرت له من العدم:

- بسم الله الرحمن الرحيم.. أنتي تاني؟

- إيه زهقت مني؟

- أنتي اللي عملتي العملة دي؟

قهقهت بدلال:

- قصدك الفيلم بتاع البنت.. كان حلو قوي مش كدة.. ومنظرك وأنت بتحاول تنقذها كان تحفة.

 وقف صارخًا:

- أنتي عاوزة مني إيه؟

- إيه يا مصيلحي؟.. أنت زعلت؟.. أنا كنت بهزر معاك؟

- بتهزري معايا؟!..يعني اللي حوصل دا.. محصولش؟

- لأ طبعًا.. أنا اللي عملت كل دا.

أعماه غضبه فاقترب منها محاولًا ضربها فتراجعت واشتعلت عيناها بوهج ناري، وافترت شفتيها عن نابين طويلين قائلة بفحيح:

- إياك تحاول تقرب مني تاني.. لا بخير ولا بشر.. مش هتلاقي نفسك إلا مسجون في جوف الأرض، محدش هيسمع صوتك ومحدش هينجدك مني.. كفاية عليك الليلة، وبكرة هاجي تاني.. ادعي ربك أني أكون نسيت عملتك السودا.

وقع على ركبتيه وهو يهتف بلهاث كاد يشق صدره نصفين:

- يا بت المجنونة.

 

آخر ليالي القمر

 

- واد يا مصيلحي...جوم فز من موطرحك.

- مين؟.. مين اللي بينادي عليا؟

- معارفش صوتي يا ويلد...أنا عمك درديري.

رفع الغطاء على رأسه مرتعشًا:

- معرفش...ومش عاوز أعرف، بعِّد عني يا عم درديري الله يستر آخرتك.. أنا خلاص جتتي دابت من الخوف.

- جوم فز يا ويلد.

أزاح الغطاء قليلًا ليلمح درديري بقامته الفارعة ووجهه الأسمر ولكنه يبدو مضيئًا بشكل غريب، تمتم وفمه أسفل الغطاء:

- جولي الأول.. أنا بحلم؟! ولا أنا شايفك صوح؟

- أنت مش دفنتني بيدك يا ويلد؟

- إيوة حوصل!!

- ولما أنت دفنتني، أنا واجف جدامك كيف؟

صرخ مصيلحي بارتعاش:

- وأنا اش عرفني!!

- طول عمرك هتفضل ناجص مخ وتفكير.. نهايته الكلام معادش يجيب همه.. عاوز تطلع من الورطة دي؟.. افتح كتبي واجراها.. هتلاجي الحل فيها.

- كتب إيه؟

لم يجبه وظل يحدق به بابتسامته الوضاءة.. أزاح مصيلحي الغطاء كاملًا وسأله مرة أخرى:

- عم درديري.. هو دا حلم ولا كابوس؟

قهقه العم الميت ثم مد يديه وخلع العمامة وألقاها نحو مصيلحي.. الذي حدق بها بذهول ثم أعاد النظر للعجوز الذي مد يديه مرة أخرى وأخذ يحرك رأسه يمينًا ويسارًا كما لو كانت رأس عروس لعبة.. فغر مصيلحي فاه مشدوهًا والرأس تنخلع بين اليدين ثم قذف بالرأس نحوه فأمسكها يحدق بها بذعر شديد، ارتفع صراخه والرأس تحدثه:

- ها.. عرفت دا حلم ولا كابوس ولا لسة عاوز دليل تاني؟

قفز من مكانه ليقع على الأرض الصلبة فيتأوه من الألم، تلفت حوله بحذر، كان المكان هادئ تمامًا ولا أثر لعم درديري.. ولا لرأسه، أشعة الشمس تغزو الكوخ الصغير ويبدو كل شيء طبيعيًا تمامًا... أخذ يلهث بانفعال:

- الليلة آخر ليلة، وكل الوغش دا هيتخبى في جحوره.

طرقات على بابه أجفلته، تنهد بزفير منزعج وهو ينهض ليفتح:

- صباح الخير يا مصيلحي.. لسة نايم لحد دلوقتي؟.. في ميت جابوه وهيصلوا عليه الضهر، جهز المدفن واستعد يا بلدينا.

- صباحك زي خبرك يا فهمي.. ومين الميت دا؟

- أنت هتناسبه...أهه ميت والسلام...عنوان مدفن عيلته أهه.

وناوله ورقة، فضها ليقرأها، ثم رفع رأسه لصديقه، ولكنه اختفى تمامًا، تلفت حوله باندهاش:

- يوج تك إيه يا فهمي.. الواد فص ملح وداب.. أما أروح أجهز المدفن.

ثم دقق بالورقة متمتمًا:

- عجيبة دي.. المدفن دا لعيلة فهمي.. أمال بسأله مين، رد عليا الرد الماصخ دا ليه؟ جبر يلمك صاحب عفش صحيح.

وقف على بوابة المدفن بانتظار الجنازة التي كانت تقترب منه بتهليل مشيعيها:

-يا دايم هو الدايم ولا دايم غير الله، الله يا دايم هو الدايم ولا دايم غير الله.

وقف وقفة الخشوع لجلال الموت حتى بدأت الوجوه تقترب، وقد بدا بعضها مألوفًا بشكل مريب.

وصل أول المشيعين وقد كان يعرفه حق المعرفة، اقترب منه بعينين مبللة بالدموع ثم أجهش بالبكاء عندما رأى مصيلحي:

- شوفت اللي جرا لصاحبك يا مصيلحي؟

لم يفهم شيئًا، كان ما يزال يحدق النظر بوجهه، ثم يجيل النظر بالوجوه الحزينة التي أخذت تتدفق، ولم يره بعد..

- هو فين يا محمد؟؟

وضع محمد يده على كتفه ثم أشار للنعش:

- صاحبك هنا يا مصيلحي، وهتدفنه بيدك.

صرخ مصيلحي بهلع:

- لا.. لا.. مش ممكن.. كيف يعني؟

- قضا ربنا يا مصيلحي، وملناش يد فيه.

- لا يا محمد افهم.. فهمي كان حدايا من نص ساعة، وهو اللي جالي أفتح المدفن وعطاني العنوان...أهه.

أدخل يده في سيالة جلبابه وأخرج الورقة وأعطاها لمحمد.. أمسكها وفضها ثم نظر لمصيلحي المذهول:

- الورقة فاضية يا مصيلحي.

جذبها منه وقلبها عدة مرات قبل أن يتأكد أنها فعلًا خالية من أي كتابة:

- كيف يعني؟.. وهو أنا عرفت العنوان إزاي يعني؟

ثم أمسك بتلابيب محمد بقوة:

- بجولك فهمي هو اللي جاني من نص ساعة.. أنت ليه ما عايزش تفهم؟

أمسك محمد بذراعيه وأبعده:

- احنا فينا اللي مكفينا، أخويا مات وأنا كنت واقف على غسله.. يالا يا مصيلحي، إكرام الميت دفنه.. أنا عارف فهمي كان غالي عليك قد إيه.

تحرك كالإنسان الآلي باتجاه القبر.. ونزل إليه يتمتم بآيات القرآن الكريم، ثم ناولوه الجثمان، تلقفه بقلب مخلوع لا يكاد يصدق، ولولا حرمة الميت لكان فتح الكفن ليرى وجه صديقه، خرج وبدأ بغلق القبر عندما سمع صوت صديقه يناديه من الداخل:

- وهان عليك تدفن صاحب عمرك يا مصيلحي؟

تراجع زاحفًا فأجفل أهل الميت، أجال فيهم النظر وصاح:

- أنا سامع صوته.. فهمي مماتش.

علا صراخ النساء وهاج الرجال ما بين مصدق ومكذب، وما بين اقتراح فتح القبر واستدعاء طبيب، أو ترجيح كفة أن الدفان لابد أنه مصاب بذهان ثنائي القطب، يتخيل أشياء لا تحدث.


 

الكاتبة ميرفت البلتاجي
الكاتبة ميرفت البلتاجي
ميرفت البلتاجي عضو اتحاد كتاب مصر و كاتبة في مجالات أدبية متنوعة المجال الروائي روايات اجتماعية وفانتازيا ورومانسي وصدر لها على سبيل المثال لا الحصر أماليا \ ناريسا \ ألا تلاقيا \ لقاء مع توت شاركت مع الهيئة العامة للكتاب في سلسلة ثلاث حواديت نشر لها قصص مصورة في مجلة فارس، ومجلة علاء الدين..ومجلة شليل وكتبت في مجال أدب الطفل عشرات القصص إلكترونيا وورقيا. ولها العديد من الإصدارات الإلكترونية لعدة مواقع عربية موقع مدرسة Madrasa تطبيق عصافير شركة وتطبيق Alef Education
تعليقات