" " " " " " " " رواية سر الطلسم ( الفصل الأول)
📁 آحدث المقالات

رواية سر الطلسم ( الفصل الأول)

 

البــــدايــة

 

أثار صفير سارينة الإسعاف في هدوء المكان إزعاج غير مألوف، فاليوم هو أول الأسبوع، حيث لا زوار ولا مقرئين، فقط حفيف الأشجار ومواء قطة تفر مسرعة وكأن شيئًـا ما يسعى في إثرها، وربما تلك النسمة الغريبة التي تطير أوراق الشجر الجافة عبر طرقات المدافن الصامتة.

أمسك الشاب بكف العجوز بينما يحمله المسعفون على المحفة ويركضون باتجاه السيارة:

- عم درديري، شد حيلك يا راجل يا عجوز، أنت عضمة كبيرة وجعة زي دي متجيبش معاك واطي.

سعل العجوز بينما يضعه المسعفان داخل السيارة، يحاولان منع الشاب من اللحاق به، ولكن تمسكه بكف العجوز يزداد:

- شوية بس يا واد عمي، هجول للراجل كلمتين.

تبرّم المسعف بينما هتف الشاب:

- عم درديري...أعمل إيه في الورطة دي لحد ما تعاود بالسلامة؟

قبضت أصابعه النحيلة المتعرقة على يده:

- زي ما وصيتك يا مصيلحي.

- وصيتني أيه بس يا عمي .. أنت خابر آني بخاف من خيالي، وكنت أنت اللي مونسني في المخروبة دي.

- يا واد يا غشيم .. معايا في الشغلانة دي من خمس سنين ولساك زي ما أنت، بس خليك فاكر .. بعد صلاة العشا ... كان ما كان لو عدى ورمى عليك السلام ما تردش عليه ...خليك واعي يا ويلد ..لو حد نادى باسمك ولا سمعت حد بيستنجد، اعمل ودن من طين وودن من عجين...

- خابر يا عمي والله خابر...سايج عليك اللي هيشفع فيك متعوّجش.

- وهو بخوطري يا واد ؟ .. هو جلبي اللي معادش متحمل، بس أنت جول يا رب..

صوت أحد المسعفين:

- إيه يا عم أنت وهو خلصتوا فيلم الرعب ولا لسة ؟

لوّح مصيلحي في وجهه:

- خلصنا يا عم إيه هي الدنيا طارت...أشوف وشك بخير يا عم درديري.

ونزل من سيارة الإسعاف ولوّح للرجل العجوز الذي هتف وهم يضعون فوق فمه قناع الأكسجين، كان يبدو وكأنه يقول لمصليحي شيئًا هامًا ، حاول الشاب الصعود لسماعه ولكنهم أغلقوا الباب دونه وانطلقت السيارة مبتعدة عنه.

حك فكه يفكر " ترى ماذا كان يقول له العجوز ؟ ، كانت عيناه متسعتان بخوف، وكأنه يحذره من شيء هام"

بدأ يشعر بقشعريرة تسري بجسده، خاصة وقد قاربت الشمس على الغروب وبدأت نسمات الهواء تتلاعب بأوراق الشجر في الطرقات، وها هي القطة تركض بين شواهد القبور وقد وقف شعرها رعبًا.

رفع رأسه للسماء فوقف شعره هو الآخر عندما وجد القمر يطل عليه بدرًا، هتف وهو يركض ليختبئ في غرفته الخشبية:

- يا ليلة سودا...الجمر بدر الليلة...دي عملة تعملها فيا يا عم درديري...

 

 

 

ليلة البدر الأولى

" عم درديري "

 

عاد من صلاة العشاء سعيدًا فالليلة ستمر بدون أن يضطر لدفن ميت، ولعل حظه سيبتسم له حتى يعود عم درديري، يتولى المهمة بدلًا منه، سار يتلفت حوله، يتخيل كل فرع شجرة متمايل، شبح يهم بالانقضاض عليه، وصوت الريح ينادي باسمه.

دخل كوخه الخشبي وأوصد الباب خلفه بالرتاج، تأمل فراغ الغرفة وتذكر بحزن صديقه الشيخ العجوز...ترى ماذا كانت آخر كلماته ؟ .. هل أراد أن يحذره من شيء؟  .. أم يوصيه بوصية؟

غدًا سيذهب له في زيارة سريعة يطمئن عن أحواله، ويسأله ماذا أراد أن يخبره، اشتدت الرياح بالخارج وبدأت تزمجر وتصدر أصوات كالنواح .. هل كانت هذه الأصوات موجودة من قبل ؟ أم أن ثرثرة عم درديري كانت تخفف من وحشة المكان ، ارتشف من كوب الشاي الصعيدي رشفة قوية ذات صوت غلب على صراخ الرياح بالخارج ، بدأ في الرشفة الثانية بعد أن بدأ مفعول الأولى تؤتي ثمارها .. ضحك متأملًا السائل الأسود متراقصًا في الكوب:

- يو دتك إيه يا عم درديري ؟ ..كَن كوباية الشاي دي بتعمل مزاج صوح ، ولا كنها محشية البتاع ده اللي بيشعشع في النافوخ....هع ..هع..هع.

همّ بارتشاف الرشفة الثالثة عندما تجمدت شفتاه على حافة الكوب، وتجمدت كل أوصاله لدى سماعه طرقات على الباب ، بدأ قلبه بعزف منفرد حتى شعر كأنه سيخترق صدره مختبئًا أسفل الفراش .. انتظر لحظات .. لابد أنه يتخيل أن أحدًا ما يطرق الباب ...

رفع الكوب مرة أخرى يرتشف السائل الساخن بمزاج عندما عاد الطارق يضرب الباب بإلحاح، اهتز الكوب من بين يديه وسقط مريقًا الشاي على الأرض، وقف يرتجف حائرًا ماذا يفعل ؟ .. هل يجيب الطارق ؟ .. هل يفتح الباب ؟ .. ولكن صديقه العجوز حذّره من الرد على أي طارق أو منادٍ بعد صلاة العشاء ، جلس على الفراش الذي أصدر أصوات تستغيث من ثقله، لم يبالي فقد اعتاد على تعذيب هذا المسكين في كل ليلة، ولكنه الليلة يئن بصوت أعلى.

قرر أن يلجأ للنوم .. ربما يأخذه النعاس لأماكن أحلامه بعيدًا عن رعب هذا المكان وسكانه ، ما كاد يضع الغطاء على رأسه حتى عاد الطارق يضرب الباب مرة أخرى يصحبه صوت مألوف:

- افتح الباب يا ويلد يا مصيلحي.

انتفض مصيلحي دافعًا الغطاء بعيدًا لا يصدق ما يسمع بأذنيه ، ركض نحو الباب مجيبًا:

-  حاضر يا عم درديري ، والله ما كت خابر إنك عم درديري يا عم درديري.

ثم فتح الباب وانقض معانقًا الشيخ بلهفة طفل صغير، ولم يلاحظ أن العجوز لم يبادله العناق.

دفعه للداخل وأغلق الباب وصاح مبتهجًا:

- والله لك وحشة يا راجل يا عجوز ، مكتش عارف أعمل إيه من غيرك ، ما تجعد يا عم درديري بيتك وموطرحك.

وضحك وحده ما ظنه نكتة مضحكة ، جلس العجوز على الفراش بينما جلس مصيلحي على الأرض أمام راكية النار:

- هعمل لك كوباية شاي تجيل سكر تجيل تستاهل حنكك.

وضحك مرة أخرى ولكن هذه المرة لاحظ عدم تفاعل الشيخ مع حديثه ، فالتفت متسائلًا باستغراب:

- إلا أنت مجلتليش تجيل زي دمك ليه زي عوايدك ؟

أومأ العجوز بدون أن يتكلم ، فتابع مصيلحي:

-  لازمن أنت تعبان يا حبة عيني ، ماهو اللي حوصل مش شوية ، إلا هو الداكتور جالك إية ؟ وطلعك على طول من المشتشفشى كدة من غير فحوصات والذي منه ؟ .. إيوة أمال إيه ؟ .. ما احنا من الغلابة اللي ملهمش ضهر ..حسرة علينا .. طب ومجام سيدي عبد الرحيم أنا كت جايلك من النجمة ، اتفضل الشاي ..إيوة عارف تجيل زي دمي .. هنكت أنا لحد ما تجوم بالسلامة .. اتفضل يا عم درديري.

لم تمتد يده لكوب الشاي، وسأل مصيلحي بصوت بدا غريبًا على أذنيه:

- كت هتسألني عن إيه يا مصيلحي ؟

- إيوة الله ينور عليك ..كت هسألك .. والله أنت شيخ عندك كرامات .. عرفت منين أني كت جاي أسألك؟ .. ما علينا كت عاوز أعرف أنت كت هتجولي إيه جبل ما يخادوك النفرين بتوع الاسعاف؟

- كت هجولك .. ما تفتحش الباب بعد صلاة العشا .. حتى لو كت أنا اللي بخبط على الباب.

انتفض مصيلحي من مكانه دافعًا بالغطاء عن رأسه ، تلفت حوله بارتياب، كانت أشعة الشمس تغزو شقوق كوخه الخشبي ، وضع يده على صدره محوقلًا، أنزل قدميه ليكتشف كوبًا من الشاي على الأرض بجواره ، ازداد ارتجافه وهو ينادي بصوت مرتعش:

- عم درديري...عم....

انتفض مرة أخرى ليكتشف ضاحكًا من نفسه أن الصوت هذه المرة لتليفونه المحمول ، ورقم عم درديري يظهر على شاشته الصغيرة..

- ألوووو يا عم درديري ، تصدج أنك ابن حلال مصفي، كنت لسة معايا في الحلم .. ألوووو

- ألو يا افندم...حضرتك تعرف المدعو درديري حجازي.

- إيوة...مين أنتي وبتتكلمي من تلفون عمي درديري ليه ؟

- أنا آسفة بس عمك درديري توفى وكنا عاوزينك تيجي تستلم الجثة.

صرخ بهلع:

" جثة ؟!!  .. جثة إيه ؟ ... هو عمي مات ؟

- امبارح بعد ما صلى العشا على طول.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 ليلة البدر الثانية

" انكشف الساتر "

 

- شد حيلك يا مصيلحي ، الموت علينا حج يا ولدي.

هتف بعينين زائغتين:

- مش مصدج اللي بيوحصل يا عم جميل ، دا كان جاعد جاري ليلة عمنول بيتحدت معايا زي عوايده ، وليلة امبارح زارني عشية.

- وحد الله يا ويلد ، هتكفر ولا ايه ؟ .. استعيذ بالله من الشيطان الرجيم .

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بس والله والختمة الشريفة كان معايا ووشه أبيض زي الفل.

- هيجيك كيف يعني يا مصليحي ؟ .. مكتوب في شهادة الوفاة أنه الله يرحمه سلم الروح من بعد صلاة العشا، وصلينا عليه ودفناه يا مصيلحي ، ادعي له يا ولدي ، وأنا هدعي ربنا يصبرك ، أشوف وشك بخير، خد بالك من نفسك، أنت دلوكيت بدال عمك درديري رسمي ، أنت الدفان الجديد.

جذب عم جميل الباب بقوة فانتفض مصيلحي جافلًا، وقد انتبه لتوه أنه أصبح وحيدًا في المكان...

تلفّت حوله بارتياب يعيد في ذاكرته كل ما حدث ليلة أمس .. الآن فقط أدرك أنه من فرحته برؤية صديقه العجوز، فاتته تصرفات كثيرة كانت غريبة صدورها من عم درديري ، قفز يختبئ أسفل غطاءه عندما بدأت أصوات رياح الليل تخترق خشب كوخه الصغير فتصدر طقطقات تجعل شعره يقف من الرعب.

- لحد ميتى هتفضل متخبي يا مصيلحي ؟

هل يتخيل أنه يسمع صوت عم درديري ؟ .. بالطبع يتخيل .. لقد دفن العجوز منذ ساعات قليلة فقط .. والأموات لا يتحدثون...

- بجالك معايا خمس سنين غلبت أفهّم فيك وأنت البعيد مافيش فيك فايدة ... الأموات يا مصيلحي يا ولدي بيتكلموا بس أحنا اللي مكناش بنسمع .. أو خايفين نسمع.

صرخ بارتجاف من دون أن يرفع رأسه من أسفل الغطاء:

- لا .. لا يا عم درديري .. لأ أنا مش سامعك .. وأنت مبتتحدتش معايا .. أنا بخترف .. أنا بخترف.

- لا يا مصيلحي .. أنت صاحى ... وسامع ... وخليك فاكر أنت اللي فتحت الباب ورديت عليا.

صرخ من أسفل الغطاء وهو يلطم خديه:

- مكتش خابر.

- يا ريتك سمعت الكلام .. أنت فتحت على نفسك باب مش هتعرف تجفله.

- لا يا عم درديري .. معتش هرد على حد تاني واصل.

- معادش ينفع يا ولدي .. لما رديت عليا الباب اللي بينك وبين سكان المكان انفتح .. سواء رديت ولا مرديتش، خلاص الساتر اللي بينك وبينهم انكشف.

قفز واقفًا صارخًا:

- لااااااااااااا

تلفت حوله ولكن المكان خالي تمامًا .. ولا وجود لعم درديري .. هل كان يحلم؟ .. لابد أن يتخلص من هذا الهذيان .. وقرر أن يترك المكان .. وبدأ يجمع حاجياته القليلة في صرة ، حاول أن يستجمع شتات شجاعته المفقودة بصعوبة، ولكن الأصوات تزداد صخبًا من حوله بشكل مريب ، وأخذ يقنع نفسه أن هذا هو الحال دائمًا، حفيف أفرع الأشجار تتخبط في بعضها ،

 ولكن هذه الليلة تبدو وكأنها تتعارك مع بعضها ، نسمات الرياح في الطرقات تطير أوراق الأشجار الجافة ، رغم أنها تبدو وكأنها من قوتها تقذف بالأحجار، حتى مواء القطة تصرخ مستنجدة من شيء ما يطاردها ، ولكنها هذه الليلة تبدو مرتعبة أكثر من أي ليلة أخرى حتى أن صوتها يقترب ويقترب ويقترب....

قفز صارخًا من الفزع عندما فاجأه طرقات قوية على الباب .. هز رأسه بقوة وهو يحدق في الباب كأنه تحول لمسخ وعلى وشك الانقضاض عليه ، زادت قوة الطرقات حتى شعر أن الباب سينخلع في أي لحظة ، بحث حوله عن أي شيء يضعه خلف الباب ..

 لم يجد أي شيء عدا صندوق خشبي كان عم درديري يضع فيه ملابسه ، حمله بين ذراعيه واتجه للباب ، وقبل أن يضعه انفتح الباب على مصراعيه.

وقف مذهولًا وقد اقتحم الباب فتاة من شدة جمالها لم يصدق أن كان يحلم أم أنه في حالة متطورة من الهذيان .. هل يصرخ من الفزع أم .... ؟

دخلت الفتاة وأغلقت الباب خلفها وسدته بظهرها ووقفت تنظر له يكاد صدرها يتمزق من اللهاث...

- أنت مش بتفتح الباب ليه ؟ .. هتفضل واقف تبص لي كدة ، طب حط الصندوق اللي في إيدك دا.

أفلت الصندوق فلن يشعر إلا بألم رهيب في قدميه عندما سقط الصندوق علي أصابعه ، قفز يتأوه ثم نسي الألم والخوف وحتى اسمه عندما رنت نغمات ضحكاتها في أذنيه التي لم تسمع منذ مولده صوتًا بكل هذه الرقة ، وعادت تسأله برقة:

- أنت مش بتفتح  الباب ليه ؟

فغر فمه مشدوهًا ولم يستطع إخراج كلمة واحدة ، تركت الباب عندما استمعت وتأكدت أن لا أحد يلاحقها ، اقتربت منه .. كانت ترتدي غلالة رقيقة شبه شفافة، تكشف عن ذراعيها وجزء كبير من صدرها .. اقتربت من أذنيه تهمس:

- أنت مش بتعرف تتكلم ؟

أغمض عينيه عندما أثمله عطرها المسكي...ازدرد لعابه ثم حاول الرد:

- لع...بعرف.

- ومش بترد ليه ؟

-  مش .. عارف .. أنتي إيه؟ أنسية ولا.... ؟!!

قاطعته بضحكتها المغناجة ثم همست:

- أنا قطة .

ردد ما قالته:

- جطة...جطة يعني إيه ؟

دارت حول نفسها بدلال تتراقص:

- قطة يعني قطة .. بس أنا زعلانة منك قوي على فكرة .. كل يوم بستنجد بيك وأنادي عليك وأنت ولا أنت هنا.

- بتستنجدي بيا كيف يعني ؟

- من زنقط .

- زنقط مين ؟

- زنقط جن يهودي .. بيجري ورايا عاوز يتجوزني .. ولما رفضت قرر يقتلني .. مصيلحي .. أنت مش سامعني ؟

أومأ برأسه ثم زاغت عيناه وسقط فاقد الوعي....


انتظروا قريبا على حكايتنا...سر الطلسم...

 

الكاتبة ميرفت البلتاجي
الكاتبة ميرفت البلتاجي
ميرفت البلتاجي عضو اتحاد كتاب مصر و كاتبة في مجالات أدبية متنوعة المجال الروائي روايات اجتماعية وفانتازيا ورومانسي وصدر لها على سبيل المثال لا الحصر أماليا \ ناريسا \ ألا تلاقيا \ لقاء مع توت شاركت مع الهيئة العامة للكتاب في سلسلة ثلاث حواديت نشر لها قصص مصورة في مجلة فارس، ومجلة علاء الدين..ومجلة شليل وكتبت في مجال أدب الطفل عشرات القصص إلكترونيا وورقيا. ولها العديد من الإصدارات الإلكترونية لعدة مواقع عربية موقع مدرسة Madrasa تطبيق عصافير شركة وتطبيق Alef Education
تعليقات