أمّنا
الغولة
لم
يدرِ ما الذي دهاه؟.. تسمرت قدميه في الأرض المرتجة وأبت تنفيذ مسعاه في الهروب،
بينما اتخذ المذوؤب وضع الهجوم وكشر عن أنيابه وبدأت زمجرته تعلو وشعر جسده ينتصب
مع تقوس ظهره، حاول مرة بعد مرة بلا فائدة، ازداد جنون المذؤب عندما لمحه بطرف
عينه ما يزال مكانه فصرخ بصوت متحشرج:
- اهرب
يا إنسى .. أنت عاوز تموت هنا ؟.. مالك؟
-
معارفش أتحرك يا عم أنت.. رجلية معيتحركوش.
لم يجد
الوقت لمساعدته فقد بات المهاجمين على مرمى البصر.. وفجأة اتضحت الرؤيا .. لم
يتغير وضعية المذؤب الهجومية بينما كف مصيلحي عن محاولاته في الهروب وعيناه تتسعان
بانشكاح وتلك البارعة الجمال تقترب وكأنها تطير من فوق الأرض، بل أنها تطير بالفعل
بأجنحتها الرقيقة الأشبه بفراشة..
- وكت
عاوزني أهرب؟.. ياخي هع.. اللي ياكل لوحده يزور يابو عمه.
- أنت
فهمت إيه يا غبي؟ أنت مش عارف مين دي؟
- باين
زي نور الشمش.. ملاك من الجنة جاية تنجدنا.. تعالي يا زينة.. تعالي.
ازدادت
زمجرت المذؤب عندما توقفت عن التحليق ووقفت أمامه.. وبأنامل شديدة الرقة والأناقة
ربتت على أنف المذوؤب:
- إزيك
يا شعلان؟.. عامل إيه في المنفى؟.. تصدق سايب فراغ كبير قوي.
ثم
قهقهت بضحكة طويلة:
- بس
زنقط مالي مركزك.. إهدى إهدى أنت عارف أنت متقدرش تأذيني.
- دا
اللي أنا مستغرب له.. أنتي عارفة كويس أني الوحيد في الكون دا اللي أقدر أقتلك.
قهقهت
بضحكة أخرى رن صداها بين الجبال المحيطة:
-
مشكلتك أنك فاكر كل الجن أغبيا، وأنت الذكي الوحيد.. ونفيك هنا أكبر دليل على
غباءك الشديد.
بهت
قليلًا:
- قصدك
إيه؟
رفعت
إصبعها لأعلى:
-
شوف.. القمر بتاعك هيختفي.. حالًا.. بنات الحور هيلفوا حواليه ويخنقوه.. طبعًا مش
بمزاجهم.. الملعونين كلفوني كتير قوي علشان يساعدوني.. وطبعًا أنت عارف لما القمر
يختفي.. هيحصل إيه؟
شهق
بخوف وقد بدأ يتحول مرة أخرى لأنسي، شهق مصيلحي بانبهار وابتسامة بلهاء ترتسم على
وجهه:
- يا
بووووووى.
زحف
شعلان على الأرض للخلف حتى وقف بجوار مصيلحي:
- يخرب
بيتك فوق بقى.. دي جاية وناوية على الشر.
هتف
وعيناه تحدقان فيها بانجذاب:
-
والله انا مشفتش شر بالحلاوة دي.. جولها.. جولها أنا من يدها اليمين.. ليدها
الشمال.
جذب
شعلان شعره بغيظ:
- يا مصيلحي
دي تبقى السعلوة.. ساكنة القفار والصحاري.. دي غولة.. أو زي ما بتقولوا عنها
"أمنا الغولة" لو مسكتك هتخنقك وتقتلك وتلعب بيك زي القط ما بيلعب
بالفار.. وبعدها هتنهش لحمك بأنيابها.
- لا
لا منكن.. أنت بتضحك عليا.. في ملاك بالحلاوة دي يعمل كلات الحاجات دي؟.. طب
كلمها.
- أنت
مشفتش عملت فيا إيه؟
نظر له
مصيلحي باستغراب:
- عملت
إيه يعني؟
- إدت
رشوة لبنات الحور علشان يحجبوا القمر، وأرجع إنسي تاني، علشان الكائن الوحيد اللي
يقدر يوقفها عند حدها هو الديب.. وأنا مبقتش ديب.
- يعني
إيه؟.. إيه دا؟.. هي بتعمل إيه؟
ووقف
مشدوهًا يراقب جمالها الذي أخذ يذوي ويحل محاله عجوزًا شمطاء عوراء ذات شعر كأذناب
الفئران، وأسنانها اللؤلؤية تحولت لأسنان مدببة مفترسة ولسان حرباء لعقت به شفتيها
السوداوين:
-
تعالى يا مصيلحي، هقولك كلمتين.. تعالى متخافش.
كان لا
يزال مسمرًا في مكانه عندما اقتلعه المذؤوب من مكانه جاذبًا ذراعه فشعر وكأنه
سينخلع من مكانه، لم يعترض خاصة وأنه أنقذه في اللحظة الأخيرة قبل أن تنقض
بأسنانها المدببة على عنقه.
بالكاد
كان يحاول اللحاق بخطى شعلان السريعة والسعلوة في إثرهما وقد ارتسم في عمق حدقتيها
الدمويتان الإصرار على نيل طريدتها، هدر مصيلحي لاهثًا:
- ما
ترجع ديب من تاني يا عم شعلان أنت.
استرق
شعلان نظرة للخلف ليصرخ:
- اجري
يا مصيلحي.
نبرة
الفزع في صوت شعلان أشعلت فتيل الأدرينالين في قلب الصعيدي الذي رفع طرف جلبابه
وأمسكه بأسنانه ليفاجيء شعلان بسرعته التي فاقت سرعة الجني المنفي، توقفا لاهثان
ينهتان تكاد رئتيهما تنفجر من الألم، لوح له شعلان بصوت متقطع:
-
أنت.. جبت السرعة دي منين؟
شد مصيلحي
قامته بافتخار:
- لا..
ما أنا واخد الميدالية البرونزية في اختراق الفرئلة.
- إيه
الفرئلة دي؟
استخدم
مصيلحي كلتا يديه يحاول أن يشرح المعنى:
- هي
يعني لما بتاجي تدخل.. تلاجي نفسك خارج.. ولما بنكون واجفين..
أكمل
شعلان مازحًا:
-
تلاقوا نفسكم قاعدين.. إيه الهبل اللي بتقوله دا؟د؟
- مش
مهم.. المهم إحنا فين؟
- مش
مهم...المهم إننا قدرنا نهرب منها.
- إيوة
صوح.. أنا طولت جوي ولازمن أعاود.
-
مستعجل ليه يا مصيلحي؟.. ما إحنا متأنسين بوجودك.
التفت
كلاهما وقد كادت المفاجأة أن توقف قلبيهما والسعلوة واقفة أمامهما وكأنها ظهرت من
العدم.. تحدج مصيلحي بنظراتها الدموية ولسانها المشقوق يلعق سواد شفتيها:
-
لحجتينا إزاي يا بت المركوبة أنتي؟
وقف
شعلان يتصدى لها ويحول بينها وبين مصيلحي:
- سيبك
من الإنسي واتفاهمي معايا، عاوزة ايه يا سعلوة؟
حدجته
بنظرة نارية:
- مش
وقتك يا شعلان.. أوعي من وشي أنا مرصودة للإنسي دا ومش همشي إلا لما أنهش لحمه
بسناني...أو...
قطب
شعلان ومصلحي حواجبهم بانتظار ما سيلي:
- أو
يسلمني الطلسم.
هب مصيلحي
باهتياج:
- الله
يخرب بيتك على بيت الطلسم على بيت عم درديري على اليوم اللي شوفتكوا فيه.
أوقفه
شعلان يسأله بحيرة:
- إيه
حكاية الطلسم دي؟
-
والله ما أنا عارف.. من اليوم الأغبر اللي فتحت فيه الباب لعم درديري بعد ما مات..
ووروني أيام أسود من جرن الخروب علشان البتاع اللي اسمه الطلسم دا.
خرج من
فمها ريحًا صفراء كريهة الرائحة وهي تصرخ:
- مش
فاضية لنواحك دا.. يا تسلمني الطلسم يا أما هتموت حالًا.
-
وأجيبهولك منين الزفت دا؟
- يعني
أنت متعرفش مكانه؟
- لا
طبعًا عارف.. أنتي فاكراني إيه؟.. خرونج علشان أجولك على مكانه.. الطلسم بين جلدي
ولحمي ولا منكن أبدًا أ...
فوجيء
بهجومها عليه وقد أخرجت مخالبها الطويلة وهمت بشق بطنه باستمتاع سادي وشعلان يصرخ:
- عملت
إيه يا إنسي يا مجنون.. وديت نفسك في داهية.
كان مصيلحي
يصرخ والموت يفتح شدقيه لابتلاعه لا محالة وضحكات السعلوة السادية تعمل كمؤثرات
خلفية للمشهد بينما شعلان واقفًا لا يعلم ما يفعل، فجأة زلزلت الأرض من تحتهم
وبدأت تتشقق، تشتت انتباه السعلوة ولكنها لم تفلت ضحيتها من بين مخالبها وهي تتلفت
حولها لترى ما يخرج من الأرض، وإذا بأقزام
لا يزيد طولهم عن المتر بجلودهم السوداء
وعيونهم الفضية الوامضة ينتشرون حولها بالعشرات، حدجتهم باستهانة:
- ابعد
عني يا جن الأرض منك له، أنا مش فاضية لكم.
هتف
قائدهم:
-
ابعدي عن مصيلحي يا سعلوة.. الملك زنقط عرف مرادك، وبعت لك معانا تحذير.. ابعدي عن
الإنسي أحسن لك.
قهقهت
ضحكة طويلة ومخالبها تزداد تمسكًا بمصيلحي وهو بين براثنها كالخرقة البالية:
- خلاص
يا جن الأرض.. زنقط مش هيبقى له اسم في الوجود..
الطلسم معايا ومش ممكن أفلته، وأنا السعلوة هكون ملكة الجن والإنس.. محدش
هيقدر يقف في سكتي.
- يا
غبية الإنسي ميقدرش يحتفظ بالطلسم بين لحمه وجلده.. معندوش القدرة دي، بس علشان
غباءك فاتتك المعلومة دي، وبانت نيتك السودا.
ازداد
اتساع عينيها بذهول وهي تجيل النظر بين مصيلحي والأقزام السود:
- يعني
إيه؟.. مافيش طلسم؟
وأخذت
تهز جسد مصيلحي بقوة فهدر بصوت متحشرج:
- طلسم
إيه يا بت المجنونة؟، أنتي صدجتي؟
رفعت
عيناها للسماء وأطلقت صرخة غاضبة، وفجأة انقشعت بنات الحور عن القمر الذي عاد
لينشر بضيائه ظلام أرض نهاية المطاف، ازداد ذهولها وهي تصيح:
-
لا...لا.. مش قصدي.. مش دي الصرخة اللي اتفقنا عليها يا غبية منك ليها.
عواء
ذئب متعطش لدمائها عوى في الخلفية:
- خلاص
يا سعلوة.. لعبتك خلصت.. خلي الإنسي يروح لحاله.. من غير نقطة دم واحدة تخرج منه.
اذدردت
لعابها بخوف وهي تلتفت بابتسامة متذلفة:
- أنت
صدقت يا شعلان إني ممكن أتسبب بأذية لأي إنسي.. أهو اتفضل الإنسي بتاعك إشبع به.
تجاهل مصيلحي
الذي ألقته ليعترض طريقه وقفز في الهواء لينقض على عنقها وقبل أن يستمتع بكسره هتف
جن الأرض:
-
عقابها عند زنقط يا شعلان.. الموت رحمة ليها.
بعد
تفكير قرر شعلان أنه سيستمتع أكثر بطريقة زنقط في عقابها فسلّمها لجن الأرض الذين
كبلوها بأغلال متوهجة من الحرارة ثم اصطحبوها معهم من خلال الشقوق التي التئمت
فورًا بعد نزولهم.
التفت
شعلان لمصيلحي الذي لا يزال يحاول استجماع أعصابه وتصديقه أنه ما يزال على قيد
الحياة:
- أنت
كويس؟
-
مخابرش.
- تبقى
كويس.. أقعد بقى وإحكي لي على رواقة حكاية الطلسم.
