" " " " " " " " رواية سر الطلسم (الفصل العاشر)
📁 آحدث المقالات

رواية سر الطلسم (الفصل العاشر)

 


شبح في القطار

 

راقب مصيلحي انصراف الكمسري بصحبة الناس الذين تجمعوا لمشاهدة الرجل الذي يتحدث مع نفسه، وقد انصرفوا يمصمصون الشفاه ويدعون له بالشفاء، ثم نظر للفتاة المذهولة أمامه وقد جلست على المقعد بجوار النافذة تحملق بالدماء التي تتقاطر من رأسها المهشم، ورغمًا عنه شعر بالشفقة نحوها، أيًا كان ما يهرب منه لابد أن لقاءه بها ليس صدفة أبدًا:

- اسمعي يا بنت الناس.

رفعت عيناها المغروقتان بالدموع نحوه باستغراب:

- دلوقتي بس فهمت معنى سؤالك ليا في الأول.. هو أنتي بنت ناس بجد؟.. أنا طلعت ميتة يا مصيلحي.. وأنتي شايفني لوحدك، وكمان مش فاكرة أنا مين ومت ازاي؟

- هدي حالك والبسي الطاجية بس علشان الدم اللي سايل ده.

- أنا ...آسفة.

وضعت القبعة على رأسها، واستمرت مطرقة الرأس حتى هتف:

- ارفعي راسك، الأعمار بيد الله، ويمكن الآخرة اللي أنتي فيها أحسن من دنيتنا.

- أيوة...طيب أنا ليه مش بروح الجنة أو النار.. ليه أنا هنا بالمنظر دا؟

تنحنح وأجلى صوته بعد تفكير:

- والله أعلم.. يمكن تكوني زي ماهو واضح من شكلك أنك إما ميتة في حادثة أو....مجتولة.

- مقتولة؟.. ومين هيكون قتلني؟

- وأنا إيش عرفني؟

نظر بجانبه ليجد العيون الفضولية تتابعه بشغف:

- عاجبكم الفيلم، طبعا متعرفوش أنا بكلم مين؟ اللي بكلمه جني ماسك في خناجي مراضيش يحل عني.. بس ممكن أسلطه عليكم يوريكم النجوم في عز الضهر.. كيف ما أنا شايفها.

وفي لمح البصر بدأ الناس من حوله بعملية إخلاء سريعة لعربة القطار التي أصبحت فارغة تمامًا في غضون خمس دقائق..

التفت للفتاة التي سألته باستغراب:

- أنت عملت كدة ليه؟

- علشان ناخد راحتنا.

- وليه مقلتش على الحقيقة؟

قهقه:

- أصله مرار طافح من زمان...وأنا جلت الحجيجة بس مش كلاتها.

- يعني أنت فعلًا بتشوف جن؟

- مش جن واحد، أنا متسلط عليا جبيلة بحالها، واحدة منهم طلبت يدي، بس أنا جلت لها عاوز مهلة أفكر.

فوجيء بها تغط في ضحك متواصل، استغرب في البداية ثم بدأ يبتسم وانتهى بمشاركتها الضحك حتى توقف الاثنان مرة واحدة يتبادلان النظرات الحائرة، بادرته بالسؤال:

- ليه أنت؟

- حظي ونصيبي.

- هتساعدني؟

- مش عارف.

- هعمل إيه؟

- مش عارف؟

سألته بابتسامة ساخرة والقطار يقترب من المحطة:

- لسة هتسلمني لقسم الشرطة؟

سرح في المناظر المتتابعة من نافذة القطار ثم ندت عنه زفرة ساخرة:

- عارفة الحل الوحيد فين؟

- فين؟؟

- هناك.. في المكان اللي هربت منيه.. في الترب.

- أنت عايش في الترب؟

- إيوة...أنا الدفان.

- يعني أنت اللي بتدفن الميتين؟.. ومستغرب قوي أنك شايفني؟

- على فكرة.. أنا بدفن الميتين.. وماليش صالح بأرواحهم.

- وهربت ليه؟

- علشان مشوفش اللي أنا شايفه.. بس يظهر أنه جدر ومكتوب على الجبين.. يالا ننزل ناخد الجطر اللي راجع.

هزت رأسها بأسى:

- مش لازم.. أنا هكمل مشواري في القطر يمكن هو دا نصيبي.

- طالما اتعترت فيكي يوبجى هو دا نصيبي اللي هربان منيه.. يالا جدامي نشوف هترسي على فين؟

طاوعته بصمت.. نزلا من القطار انتقلا للرصيف المقابل بعد السؤال عن القطار العائد..

جلسا على أحد المقاعد الحديدية المنتشرة في محطات القطار.. كانت تراقب كل ما حولها بنظرات طفولية كأنها تشتاق الحياة من جديد.. اقترب بائع الجرائد يلوح بجريدة هاتفًا:

- إقرا الحادثة... إقرا الحادثة.. بنت في عمر الزهور بيرموها من الدور السابع.. إقرا الحادثة.

- هات الجرنان يا بني.. ورينا الحادثة دي.. ربنا يكفينا شر المستخبي.. فين خبر الحادث؟؟

فتح البائع الجريدة وأشار له على الخبر تتصدره صورة واضحة للقتيلة، أجفل مصيلحي فسأله بائع الجريدة:

- خير يا بلدينا..أنت تعرفها؟

نظر للفتاة بجواره ثم غمغم بكلمات غير واضحة وهو ينقد البائع ثمن الجريدة ويلوح له ليبتعد، أشارت للجريدة:

- الخبر دا عني...صح؟

- إيوة.

- طب زعلان ليه؟... إحنا عارفين أني ميتة .. افتح واعرف اسمي إيه؟

فض الجريدة مرة أخرى وبدأ يقرأ:

-قام مجهولون في صباح اليوم بالهجوم على شقة بمدينة 6أكتوبر وإلقاء ساكنتها من الشرفة.

شهقة قوية بجواره أجبرته على السكوت.. كانت تضع يدها على فمها وعيناها مغرورقتان بالدموع وهي ترى صورتها وبجوارها صورة للشرفة التي تم إلقاءها منها، أخرج تنهيدة كبيرة وأكمل:

- المجني عليها اسمها هند سيف الدين، ابنة القاضي سيف الدين يزن في المحكمة الجنائية العليا، ولم يتم الاستدلال على الجناة حتى الوقت الراهن.

- أنا افتكرت يا مصيلحي.. افتكرت كل حاجة.

- زين.. الجطر وصل خلينا نرجع اللول وبعدين تتيسر.. اتفضلي يا.. هند.

أومأت برأسها وهي تتبعه بهدوء، وبدأت تحكي حكايتها مع انطلاق القطار عائدًا لنقطة البداية.

- ماما ماتت من زمان.. وعايشة مع بابا من خمس سنين .. من فترة بابا جاله تهديدات في قضية هو بيشتغل فيها، بس بابا مسمعش كلامهم ورضا ضميره كان عنده أهم من أي حاجة، وتاني يوم الحكم في القضية بعد ما بابا خرج الشغل، اتهجموا عليا و...حصل اللي حصل.

- متخافيش يا هند.. حجك مش هيروح هدر.. أكيد أبوكي مش هيسكت.

- أنا خايفة يعملوا فيه حاجة.

- طب هنعمل ايه؟

- لازم نحذره.

- كيف يعني؟

- نروح له ونقوله؟

- يا صلاة الزين.. أروح أجوله بتك المجتولة بتجولك خد بالك.. إيه الحلاوة دي؟

- وهنعمل إيه يعني؟

- بس نوصل وربنا الستار.

- مصيلحي.. مينفعش تتخلى عني، أنا لازم روحي ترتاح.. لازم تساعدني.

- جولي حاجة جديدة إلهي ينجح لك المجاصد.. من يوم النحس إللي مات فيه عم درديري وأنا مبسمعش إلا الجملة دي.. لازم تساعدني، ربنا يساعدنا كلنا جولي آمين.

- آمين.. بس مين اللي عاوزينك تساعدهم.

عد على أصابعه:

- الأولانية مسجورة.. وبعدها زغدانة... وبعدين فهمي وعم درديري.. والأخراني اللي ميتسماش زنجط.

- ومين دول؟

- دول جسمتي ونصيبي اللي كت بهرب منيهم... وصلنا المحطة... هنروح فين؟

- على بابا.

- يا منجي من المهالك يا رب.

وصل للعنوان الذي أعطته له.. كان يضرب أخماس في أسداس وهو يركب المصعد للدور السابع...-ماذا سيخبره؟.. وكيف سيشرح له؟.. وقفت جواره تفرك يديها متوترة...حتى فتح الباب، عجوز أحنت الأحزان كاهله:

- أفندم؟!

تنحنح مصيلحي واختلس نظرة للفتاة التي كادت تنقض على والدها معانقة..

- لو سمحت يا سعاة الباشا ممكن أتحدت معاك في موضوع؟

شمله بنظرة فوقية وسأله ببرود:

- خد من البواب.. هتلاقي معاه أكل وفلوس.

هم بغلق الباب في وجهه فأوقفه مصيلحي:

- أنا جاي من حدا بتك...هند.

تسمر مكانه مصدوم:

- أنت جاي تسخر مني.. أنت مافيش عندك دم؟

هتفت هند:

- قوله أنك بتشوفني.

- أنا بشوفها.. بالأمارة كانت عاملة لك فطار بيض عيون زي ما بتحبه.. وقالت لك كلمة في ودنك قبل ما تخرج.. نظر له القاضي بذهول فأكمل مصيلحي بعد أن أخبرته هند بالكلمة:

- جالت لك.. متتأخرش يا بابا علشان بتوحشني.

أمسكه مصيلحي قبل أن ينهار وأدخله، بكى الرجل ثم سأله بلهفة:

- هي موجودة دلوقتي.

نظر لها كانت تبكي هي الأخرى:

- إيوة..موجودة وبتبكي.

- هي كويسة؟

- لازم نلاجي اللي جتلوها علشان ترتاح.

- ألاقيهم إزاي؟

- هي جالت لي أجولك عليهم.. وأنت تبلغ.. في واحد منيهم أنت عارفه كويس جوي وهو اللي هيدلك على الباجي.

- مين؟

- السكرتير بتاعك.. كانوا بيكلموه في التلفون جبل ما....

أجرى القاضي اتصالاته..وتأكد من القبض على سكرتيره الخائن...

نظر لمصيلحي بحزن:

- هند عاملة إيه دلوقتي؟

انبهر مصيلحي بشكلها الذي تبدل تمامًا.. أصبحت نظيفة متوردة الملامح.. بثوب وردي وطوق من الزهور حول شعرها الأسود..

- بجت زينة جوي.. وبتسلم عليك وبتجولك متزعلش هي عمرها ما هتفوتك.

أغمض عيناه على دموع غزيرة:

- قولها أنا بحبها قوي...قوي.

- وهي سامعاك.. فوتك بعافية.. اتوخرت جوي.

- مش هتحضر الدفنة يا مصيلحي؟ بس المشكلة أننا مش لاقيين الدفان.

تبادل مصيلحي مع هند النظرات ثم ضرب على صدره:

- متخافش.. الدفان موجود...كان في مشوار محطة واحدة ورجع على ملا وشه علشان حج هند ميروحش.

عاد حزينًا مهمومًا بعد الدفن ووداع هند الوداع الأخير، لقد عرفها ليوم واحد فقط ويشعر كأنه على علاقة بها منذ سنوات، اقشعر جسده للبرودة الشديدة التي استقبلته عندما فتح الباب:

- حمد الله على السلامة ما لسة بدري.

إلى القاء في الجزء الثاني من سر الطلسم

قريبًا 


الكاتبة ميرفت البلتاجي
الكاتبة ميرفت البلتاجي
ميرفت البلتاجي عضو اتحاد كتاب مصر و كاتبة في مجالات أدبية متنوعة المجال الروائي روايات اجتماعية وفانتازيا ورومانسي وصدر لها على سبيل المثال لا الحصر أماليا \ ناريسا \ ألا تلاقيا \ لقاء مع توت شاركت مع الهيئة العامة للكتاب في سلسلة ثلاث حواديت نشر لها قصص مصورة في مجلة فارس، ومجلة علاء الدين..ومجلة شليل وكتبت في مجال أدب الطفل عشرات القصص إلكترونيا وورقيا. ولها العديد من الإصدارات الإلكترونية لعدة مواقع عربية موقع مدرسة Madrasa تطبيق عصافير شركة وتطبيق Alef Education
تعليقات