شبح
فهمي
دخل
كوخه الخشبي، تلفت حوله يمينًا ويسارًا ثم اتجه نحو صندوق عم درديري فتحه بحماس
وأخذ ينثر محتوياته حوله.. كانت كلها عبارة عن ملابس للشيخ.. أخرجها كلها حتى قعر
الصندوق.. حدق به في بلاهة لا يصدق ما يرى.. لا شيء.. دفع الصندوق بقدمه ليتدحرج
بعيدًا:
- خبر
إيه عاد؟.. أمال فين كتبات عم درديري اللي كان ممجج عينيه فيها كل ليلة؟ لو مكانتش
محجوبة عن ولاد الأبالسة دول كت جلت هم اللي خافينها.. أمال راحت فين دي؟
-
بتدور على إيه يا مصيلحي؟
أجفل
في مكانه حتى رآها:
- سلام
قولًا من رب رحيم.
- أنت
اتخضيت ولا إيه؟.. بحسب أنك اتعودت خلاص.. زوارك بقوا كتير.
-
أهلًا وسهلًا.. وانا اللي اتفكرت أنك طلعتيني من دماغك.
- تؤ
تؤ تؤ.. دا كلام بردو؟.. احنا بينا اتفاق؟
-
محصلش.. أنا جلت هفكر.
- وأنت
هتقعد العمر كله بتفكر؟ ما تنجز.
- أنجز
أيه بس؟.. هو أنتي طالبة مني أكتل فروج؟... دا جني ومش أي جن على حسب كلامكم يعني
جن واعر جوي.
- واعر
ولا مش واعر هي كلها كام تعويذة على كام طلسم هتقراهم يقوم يتحرق في التو واللحظة.
- ما
تاخديها وتجريها أنتي يا ناصحة.
- يا
ريت كان ينفع.. ممنوع في قانونا أننا نستخدم تعاويذ الإنس في أذية بني جنسنا.
- لا
والله .. وأنتي مواطنة شريفة ومبتتخطيش الجانون واصل.. ونعم الجن.
- أنت
بتتريق؟
- لا
العفو.. بس مابينيش هفوت في الشغلانة دي.
- ليه
إن شاء الله؟.. تكون اتفقت مع البت زغدانة المسهوكة على اتفاق تاني؟
- لا
تاني ولا أولاني.. أنا معتفجش مع جنسكم الملعون دا واصل.
احمر
وجهها وهي تهتف بانزعاج واضح:
- تبقى
مش لاقي التعاويذ.. وساعتها...
تراجع
خطوة يسألها بخوف:
-
ساعتها هتعملي إيه يعني؟
-
ساعتها يا إنسي ملاكش عندنا دية.. ماهو يا تقتل زنقط يا الدبان الأحمر ما يعرفش
طريقك.
- جصدك
الدبان الأزرج.
- لا
الأحمر.. الأزرج دا تبع حبيبة القلب إنما إحنا الجن الأحمر والدبان بتاعنا أحمر.
- أنعم
وأكرم.
- قلت
إيه؟. فيه تعاويذ وطلاسم.. ولا دبان أحمر.
ابتلع
لعابه بصعوبة:
- لا
طبعًا موجود.. بس زي ما تجولي مكتوب بطريجة ميعرفهاش ألا عم درديري الله يرحمه..
محتاج وجت بس لحد ما أفك رموزه.
- هي
الحكاية كدة ولا أنت بتلعب بيا؟
- وهو
أنا أجدر ألعب مع الجن الاحمر .. العفو يا.. ألا أنتي اسمك إيه؟
- اللي
بيعرف أسمي مبيلحقش ينادي به لسانه.
هتف
بدون أن يستطيع ابتلاع لعابه هذه المرة:
-
ليه؟.. بيحصول له إيه؟.. الدبان الاحمر برديكي؟
- لأ..
بيختفي.. بيتحرق وهو واقف مكانه.. تحب تجرب؟!
- لا..
العفو والسماح.. إن شالله ما اتسميتي.
-
هفوتك وهرجعلك كمان كام يوم تكون فكيت الرموز.. وقرأت الطلاسم.
- مع
ألف سلامة.
- مصيلحي..
سيبك من زغدانة.. مافيش وراها إلا المتاعب.. بلاش تضحك عليك بلسانها المعووج
والبراءة اللي طلّة من عيونها.. وصدقني مش هتنفعك.
سارت
خطوة أخرى ثم حدجته بنظرة مفعمة بالشر:
-
وإياك أنك تكررها تاني أنك تحكي لأي حد عنا.
شهق
بارتياع:
- لهو
أنتي اللي...؟!
-
أيوة.. المرة دي فوتها بمزاجي وخدتها لعب وهزار.. المرة الجاية مش هتلحق تسمي على
روحك.
- بس
أنا م.... أنتي رحتي فين يا....؟ .. يا اللي متتسميش.
نظر
للصندوق الخالي ثم للجدار الذي اختفت فيه وشعر كأن روحه تنسل من جسده رويدًا
رويدًا، استمر شعوره بالإعياء طوال اليوم التالي، كلما تذكر تهديد الجنية الحمراء،
نعم هو قرر تسميتها بهذا الاسم طالما ترفض إطلاعه على اسمها، كلما تذكر ملامحها
المنذرة بالوعيد تنقلب أمعاؤه، مر بالقرب من قبر صديقه فهمي فقرر أن يقرأ له
الفاتحة لعل روحه تهدأ، وقف أمام القبر وهم بالقراءة عندما تراءت له هالة نور
تغادر القبر.
تراجع
بخطوات سريعة فتعثر بحجر خلفه ليجد نفسه يهوي على الأرض ..لم يشعر بعظامه التي
ارتجت من السقوط المدوي، فقد كان يزحف للخلف والهالة تقترب منه حتى وقفت فوقه
تمامًا...
حاول
الصراخ بعزمه ولكن صوته اختفي، وبدأت الهالة تتشكل على جسم إنسان، كان ما يزال
يحاول الصراخ بلا جدوى، خاصة عندما بدأت ملامح الجسد تتضح ليرى وجه صديقه فهمي
بملامح حزن وأسى:
-
سامحني يا صديقي، ولكن أنا مضطر، أرجوك سامحني.
فتح
فمه يحاول سؤاله عما يقصد عندها عاد جسد فهمي يتحول لهالة نورانية مرة أخرى
وانطلقت كالقذيفة لفم مصيلحي الفاغر، جحظت عيناه رعبًا وقد أدرك أخيرًا ما يعنيه
صديقه، وقف مصدومًا يحاول استدراك شعوره.. تحسس جسده من رأسه لقدميه حتى سمع قهقهة
خلفه إذا بشبح فهمي يضحك:
- كنت
فاكرني هلبسك بجد ولا إيه؟
هتف مصيلحي:
-
واللي حصل دلوكيت دا كان إيه؟
- كنت
بس عاوز أفهمك أن الحكاية أبسط من شكة الدبوس.
-
حكاية إيه؟
- أنت
عارف.. أنا مش هلبسك.. أنا همشي معاك.
- تمشي
معايا كيف يعني؟
- يعني
اللي كنت هعمله وأنا لابسك.. هعمله وأنا معاك.. بشرط أنك تنفذ كل اللي بقوله.
- أنت
إنجنيت يا فهمي؟
-
صدقني يا صاحبي أنت هتعمل فيا جميلة كبيرة قوي.. الحادثة حصلت فجأة وروحي مش
هترتاح إلا لما أخلص ضميري.
- عاوز
إيه يا فهمي؟
-
مراتي يا مصيلحي.
- اشمعنى؟
-
عاوزك تروح تطلب إيدها.
ضرب
رأسه بكفيه مولولًا:
- يا
سنتك السوخة يا مصيلحي.. أنا كت عملت إيه في دنيتي علشان يحصولي اللي بيحوصل دا؟
- شد
حيلك يا صاحبي يمكن ربنا سخرك علشان تساعد الناس اللي زيي.
- مش
فاكر يا فهمي لما جلت لي سيبك من الشغلانة دي؟ .. وكت هتجيب لي شغلانة تانية في
مصنع العصير اللي بتشتغل فيه؟.. يا ريتني سمعت كلامك ولا أني أجف دلوكيت علشان
تجولي اتجوز مرتي.
- ما
أنت لازم تعمل كدة يا مصيلحي.
- وليه
لازم؟... ليه؟
- أنا
بحبها قوي وهي كمان، وكنا متفقين لو واحد منا مات التاني مش هيتجوز أبدًا، وحرام
هي لسة صغيرة.
- وأنا
المصلح الاجتماعي بتاعك أنت ومرتك.
-
أرجوك يا مصيلحي.. لازم تتجوز منة مراتي.
-
بذمتك مش مكسوف من نفسك.. كيف منة تتجوز مصيلحي؟ .. حتى مش راكبين على بعض.
- مصيلحي...هتروح
تطلب إيدها ولا...؟!!
- بلاش
ولا دي...أنت وأنت ميت مش حلو على فكرة.
سار
عدة خطوات ثم توقف:
- يعني
بالعجل أنت لسة دمك منشفش في التربة، أروح أطلب يدها كيف؟
- امشي
معايا وأنت تعرف.
- يا
مثبت العجل والدين يا رب.
كما
توقع مصيلحي كان الحزن يلون بسواده كل الوجوه، دخل وصافح إخوته ووالده ثم جلس
مطأطئ الرأس.. لكزه فهمي الذي يجلس بجواره:
- اسأل
عليها.
هتف مصيلحي:
- أسأل
على مين؟
استدارت
الوجوه مستنكرة صوته العالي، فنظر لشبح صديقه الذي حدجه بنظرة غاضبة، فمال على
أقرب إخوته إليه:
- هي
مرت المرحوم عاملة إيه؟
-
والله حالها لا يسر عدو ولا حبيب.. ربنا يكون في عونها.
أومأ مصيلحي
وعاد بظهره فزمجر فهمي:
- اطلب
أنك تشوفها.
- كيف؟
صمت
عندما لاحظ صوته العالي وأعاد السؤال بنبرة أقل حدة:
- كيف
يعني؟ أنت مجنون؟
انتبه مصيلحي
لحديث أخو فهمي الذي تجدد:
-
إخواتي أخدوها للدكتور من شوية، أغمى عليها المسكينة متحملتش.
فتح مصيلحي
فمه ليتكلم فلم يمهله فهمي وتحول لوهج نوراني ودخل عبر فمه المفتوح، شهق مصيلحي
وأمسك بعنقه عاجزًا عن التنفس، سقط على ركبتيه وقد جحظت عيناه وفمه مفتوح عن آخره،
تجمع الناس حوله يحاولون إسعافه، ولكنه
فقد الوعي بين أيديهم، فتح عينيه وهم يحاولون إفاقته.. كان إحساسًا جميلًا
ومختلفًا أن يرى إخوته حوله من جديد.. ربت على كتف أقربهم:
- أنا
بخير يا حسن.
- قوم
يا عم مصيلحي خوفتنا عليك.. المرحوم كان عزيز عليك قوي كدة؟
- كان
عزيز علينا كلنا، هي مرات المرحوم راحت عند دكتور مين؟
ارتفعت
حواجب إخوته المحيطين وتبادلوا النظرات المستغربة، وسأله حسن:
- أنت
من امتي مش بتتكلم باللغوة الصعيدي بتاعتك؟
تنحنح مصيلحي
وأجلى صوته:
- يا
عم حسن من عاشر القوم أربعين يوم، واحنا عشرة من.... هو الدكتور اللي راحت له
منة... أقصد مرات المرحوم كويس يعني؟
-
أه..الدكتور رؤوف اللي في أول الحارة...كان فهمي.... مصيلحي...مصيلح...
ووقف
الإخوة يتبادلون نظرات الاستغراب مرة أخرى وهو يركض مبتعدًا عنهم، بلهفة شديدة
كانت خطوات تطير من فوق الأرض حتى وصل لعيادة الطبيب، استدارت الرؤوس نحوه وهو
يدخل العيادة .. حتى رآها.. كانت مستندة برأسها على كتف إحدى أخواته التي حدجته
بنظرة مستنكرة:
- مصيلحي...إيه
اللي جابك؟
أجلى
صوته وجلس بجوارهم يكاد يلتهم زوجته بعينيه:
-
قالولي أن مرا... مرت المرحوم تعبانة... خير فيها إيه؟
- فيك
الخير يا مصيلحي.. اطمن يا خويا.. منة حامل.. أخويا الله يرحمه مات وهو بيحلم
باليوم دا، لم يصدق أذنيه وتسابقت الدموع
تفيض من عينيه، مما أثار دهشة أخته..
- مالك
يا مصيلحي؟
- لا
ولا حاجة.. تحبوا أوصلكم البيت؟
- لا
متشكرين.. أخويا سيد هيجيب العربية وهياخدنا.. كلمة في سرك.. كويس أنها نايمة ومش
سامعانا.. أبويا ناوي يجوزها لسيد بعد ما عرف أنها حامل.. أنا عارفة أنها مش
هترضى.. بس أبويا ناوي يحلفها بالغالي.. وهي هتوافق بس علشان خاطره.
رمقها
بنظرة حنان:
-
أصيلة يا منة.
-
بتقول حاجة يا مصيلحي؟
-
لا...فوتكم بعافية.
******
وصل
للمقابر وفهمي يسير بجواره:
- خلاص
يا فهمي، عملت اللي أنت عاوزه؟
-
متأخذنيش يا مصيلحي، كان لازم أعمل اللي عملته.
-
ومطلبتش يدها ليه؟
- خلاص
أخويا سيد هيتجوزها، هو ميتخيرش عنك.
-
الحمد لله جت من عند ربنا.
-
الحمد لله.. أشوف وشك بخير.. خد بالك من نفسك يا مصيلحي.
- خلاص
ماشي يا فهمي؟
-
مهمتي خلصت.. ربنا يعينك على اللي بعدي.
- هو
فيه بعدك؟
- ناس
كتير محتاجة مساعدة ومافيش قدامهم غيرك.. أنت الوحيد اللي الساتر بينه وبين عالمنا
مكشوف.
- بس
يا فهمي... فهمي... رحت فين؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.. الله يرحمك يا فهمي
ويبشبش الدبشة اللي تحت راسك.
وصل
لبيته ثم بدأت خطواته تتثاقل بحذر، فتح الباب ليسمع صوت من خلفه يناديه:
- مصيلحي
يا ابن بهانة.
التفت
يبحث بعينيه عن مصدر الصوت... لا شيء.. هم بالدخول مجددًا ليرتفع الصوت بنبرة
أعلى:
- مصيلحي
يا ابن بهانة.
حدق
النظر بالظلام وإذا بهالة ضخمة من دخان أسود تقترب، هتف بصوت مرتعش:
- أنت
مين؟
قهقه
الصوت ثم برقت عينان شيطانيتان من وسط الدخان الأسود ليصرخ الصوت مجددًا:
- أنا
زنقط ابن بهادير.
أخرج مصيلحي
زفرة راحة وقال ملوحًا بيده:
- العب
غيرها.. المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.. تصبح على خير..هع ..هع..
