الخاتمة
أنت مليكتي
****
وخلال الشهور التالية عاشت كالميتة الحية, بعيدة عن
الحياة وبعيدة عن نفسها, تعذبها كل يوم لتلك اللحظة الملعونة التي فكرت فيها أنها
تستطيع تعذيب هذا الرجل بدون أن تعذب نفسها معه.
دخلت زوزو وشهقت باستياء
"يا
إلهي ألم تنتهي من ارتداء ثيابك بعد؟"
زفرت روجينا بضيق
"زوزو لقد راجعت نفسي, لن أستطيع الخروج معك"
تذمرت زوزو بعتاب
"لقد وعدتني, وسألزمك بوعدك"
حاولت روجينا استعطافها
"اسمعي سأعطيك ما تشائين من مال واشتري الهدية
لحفيدتك نيابة عني"
أصرت زوزو
"بل ستشتريهم بنفسك, هيا تفضلي ارتدي ثيابك أم
أساعدك كما كنت أساعدك وأنت طفلة, ولا تقلقي لن يلاحظ أحد يدك هذه التي لا تتحرك,
أنت تحتفظن بها على صدرك, لن يلاحظها أحد, كفي عن ارتجال الأعذار وهيا بنا"
طاوعتها روجينا مرغمة فهي قد وعدتها فعلاً ولكنها جبنت
عندما جاء وقت تنفيذ الوعد, فهي لم تغادر بيتها منذ عودتها من المشفى وكان هذا منذ
شهور.
صاحت زوزو بسعادة وهي تراقب روجينا تقود السيارة بمهارة معتمدة على يدها السليمة
فقط
"ألم
اقل لك, انظري لنفسك, لن يعوقك شئ إذا صممت بقوة على تحقيقه"
ابتسمت روجينا لحماسة مربيتها وتابعت القيادة بعد أن
زادت ثقتها بنفسها فازدادت سرعتها حتى توقفت في موقف محل الألعاب الذي يقصدانه
مدت لزوزو يدها ببعض المال
"خذي يا زوزو هاتي ما ترينه مناسباً, ولا تحاولي
إخراجي من السيارة, لقد نفذت وعدي لك وخرجت من البيت ولن أتحرك من هنا متراً
واحدً, سأنتظرك ولا تتأخري"
تنهدت المربية العجوز ثم هزت رأسها
"حسناً لا بأس بهذا التقدم كأول مرة, لن
أتأخر"
أغمضت عيناها باسترخاء تبتسم لنفسها وتتذكر كيف احتالت
عليها زوزو حتى وافقت على الخروج بعد أشهر من الحبس الإلزامي الذي عاقبت به نفسها,
فتحت عيناها تترقب باب المتجر ولكن العجوز لم تظهر بعد, تأفأفت عندما طال الانتظار
وبدأ الشعور بالملل يزحف عليها وكادت تخرج لتتعجلها ولكن سيارة توقفت أمام
سيارتها, سيارة لا يمكن أن تخطئها ولا تخطأ سائقها ولو بعد مائة عام, ضربت المقود
بيدها تلعن حظها العاثر, ومن بين لعناتها استرقت النظرات له من بين دموعها
المسجونة خلف قضبان رموشها, ولأول مرة تلاحظ تلك الحسناء جواره يتبادلان الضحكات, نزلت بجسدها لأسفل خلف
المقود كي لا يراها, وربما لن يفعل فعيناه تكاد تلتهم صديقته وهي تبتعد داخل أبواب
المتجر, وفجأة خطر لها أن هذه الفتاة ربما
لا تكون صديقته, قد تكون ...زوجته, تمتمت بانزعاج:
"أين أنت يا زوزو؟"
وفجأة حصل ما لم تحسب حسابه فقد خرجت زوزو أخيراً محملة
بما فوق طاقتها من الألعاب والأكياس مختلفة الأحجام, تمنت لو يظل آدم مكانه ولا
يلاحظها, اطمأنت أنه مغمض العينان كما كانت هي منذ قليل, لابد أنه يرهق نفسه
كثيراً بالعمل, وغص قلبها بألم الحنين, فتح عينيه فجأة على صوت العجوز تسب وتشتم
عندما سقطت بعض من أحمالها, خرج على الفور من سيارته وركض نحوها, راقبتهم روجينا
بقلب وجل مما سيحدث بعد, رفع آدم الألعاب من على الأرض وهو يناولهم لها بابتسامة
واسعة فأمسكتها بابتسامة مماثلة ما لبثت أن تحولت لعبوس شديد وهي تشيح بوجهها عنه
مبتعدة, فأوقفها مدهوشاً من ردة فعلها
"زوزو
انتظري"
وقفت صائحة بحدة
"ماذا تريد؟"
سألها بحذر
"يبدو أنك غير سعيدة برؤيتي"
"بالطبع لست سعيدة وقد أصبحت مثلهم, الذين تكرهم
طوال حياتك, والآن تفوقت عليهم قسوة وجبروت"
سألها بحدة غاضبة
"من حشى رأسك بهذه الأكاذيب, روجينا أليس
كذلك؟"
"صغيرتي لم تفتح فمها بكلمة واحدة ضدك, يكفي أن
أراها كل يوم لأعرف كم عذبتها"
ازدادت دقات قلبها سرعة وهي تترقب لأي حد وصلت حدة
المناقشة بينهم دون أن تسمع منها كلمة واحدة, يكفي أن تري تعابير وجوههم لتعرف أن زوزو
على وشك أن تبوح له بكل شئ"
وأخيراً تركته زوزو واقفاً مذهولاً مما سمع وتجاوزته
لتصل للسيارة فتحت الباب فبادرتها روجينا صارخة
"تباً
لك من عجوز ثرثارة ماذا قلت له؟"
صاحت العجوز بنزق
"لا شئ غير أنه شخص كريه ولا يحتمل"
"مرحبا روجينا"
صوته جمدها في مكانها فقد تبع زوزو إليها, التفتت نحوه
ببطئ تمسك يدها بيدها الأخرى في حضنها وكأنها تحميها من عينيه, ازدردت لعابها
بصعوبة وهي ترد ببرود
"أهلاً...أهلاً..آد...سيد آدم"
التهمته عيناها شوقاً رغم أنه يبدو مختلفاً
بفقده وزنه بشكل كبير ولكنه لم يفقد أياً من جاذبيته المدمرة
"كيف حالك؟"
ردت باختصار
"بخير"
"لا يبدو أن الزواج ناسب صحتك, تبدين شاحبة"
ردت العجوز حانقة
"ومن قال لك أنها تزوجت, رينا لم.."
حدجتها روجينا بنظرات نارية أخرستها ثم استدارت لتواجهه
"هل تسمح, لقد تأخرنا على موعدنا"
ابتعد عن السيارة يحدجها بنظرات غريبة كادت توقف قلبها
ثم أوقفها قبل أن تدير مفتاح الكونتاك
"انتظري, أريدك...."
التفتت له مصدومة عندما أردف بنبرة متلطفة
"أعني, على العشاء, هل تقبلي دعوتي؟ أتمنى ألا
ترفضي"
نظرت باتجاه السيارة قائلة بنبرة غيرة واضحة
"لا أعتقد أن زوجتك ستوافق أن..."
أجابها بهدوء
"سارة ليست زوجتي, سأنتظرك غداً في نفس المكان الذي
رأيتك فيه أول مرة الساعة الثامنة مساءاً تناسبك"
"ولكني لا أعرفه"
رد بثقة وهو يبتعد
"بل تعرفيه, سأمر عليك"
ردت بحدة
"لا, سآتي بسيارتي"
لم تبالي أن اقتنع فؤاد بسبب رغبتها بالخروج مع آدم, كان
عليها أن تراه ولو لآخر مرة, لابد أن تزيح ذلك الحمل الثقيل الذي ينوء به ضميرها,
ارتدت الثوب الكهرماني الذي أحبت نظراته لها عندما ارتدته, أمسكت يدها التي أبت أن
تطاوعها في الحركة كما تشاء, فوضعتها مختفية داخل دثارها, ثم نظرت للمرآة تقيم
شكلها, وتمتمت بتضرع : "لن يلاحظ شئ, وستمر الليلة بخير"
وقادت سيارتها مبتعدة
تتنفس الصعداء بعيداً عن قلق أخوها ومربيتها, كان ينتظرها على نفس المائدة التي كان
يراقبها منها, في ذلك اليوم الأول الذي رأته فيه وكانت نظراته المألوفة السبب في
إرباكها, رغم أنها لم تخبر رشيد أي شئ عنه, وتساءلت حقاً لماذ؟, الآن فقط عرفت
لماذا.
"آسفة, هل تأخرت؟"
رد بصوت مشحون
"لا, ولكنني جئت مبكراً"
حاول مساعدتها في نزع الدثار ولكنها تمسكت به مما أثار
دهشته
"لا شكراً, أشعر بالبرد, اتركه من فضلك"
هز كتفيه وجلس بعد أن تأكد من جلوسها
وطال الصمت بينهما هو يحدق فيها بتساؤلات كثيرة وحيرة لا
حدود لها, وهي لا تعرف من أين تبدأ الحوار حتى سألها
"جينا, لماذا جئت؟ لماذا وافقت على دعوتي"
ردت على سؤاله بسؤال
"ولماذا دعوتني؟؟"
أطرق برأسه للحظات ثم رفعها قائلاً
"لا أدري, شعرت أنني بحاجة لأن أراك..... ولو لآخر
مرة, وأنت لماذا قبلت دعوتي"
ردت بسرعة قبل أن تفقد شجاعتها
"لأعتذر منك"
تراجع من فرط دهشته وراح يدق بأصابعه على المائدة بتوتر
حتى أردفت
" أنا مدينة لك بهذا, ما فعلته في تلك الليلة, أردت
إيلامك وجرحك, ولكني آلمت نفسي بقدر ما تسببت لك بالألم و بجرح لن يبرأ حتى
الموت"
رد بسخرية ومرارة واضحة تقطر من كل حرف من حروفه
"ولكنك حققت حلمك في تلك الليلة انتقمت مني وسلمت
جسدك لحبيبك"
تسارعت أنفاسها وأحست بأنها ستفقد الوعي ولكنها تماسكت
ورتبت تفكيرها وردت بعد لحظات بصوت متهدج
"تلك الليلة, صدق أو لا تصدق, لم يحدث أي شئ, كل ما
فكرت فيه أن أؤذيك لرفضك لي, ولكن رشيد كان يفكر بشئ آخر, لقد...لقد..كاد أن
..يغتصبني..."
جلس منتبهاً وقد توترت كل عضلة في جسده وردد كلماتها بذهول
"كاد أن ...يغتصبك, ما هذا الهراء لقد صعدت معه
بملئ إرادتك"
وقفت بسرعة فسقط الدثار عن كتفيها قبل أن تستطيع الإمساك
به, فانحنى والتقطه ليعيده حتى توقف
محدقاً بيدها الساكنة حضنها, ارتبكت وتوترت والشحوب يسري في وجهه وعيناه تنتقلان
بين وجهها ويدها وكأنه يتذكر ما حدث في تلك الليلة الأخيرة, وسألها فجأة
"روجينا, تقولين أنه كاد أن ...ولكن لم يحدث أليس
كذلك؟, ما الذي حدث؟ أجيبيني قبل أن أصاب بالجنون"
وضعت يدها على فمها لتكتم شهقة وأسرعت بالخروج راكضة,
لحق بها يرغي ويزبد وهو يعيد تصور أبشع المشاهد الذي يمكن تخيلها قد حدثت في تلك
الليلة, ولكن لم يدر بخلده ولو للحظة أنها قد تكون بحاجة إليه لينقذها, أمسك بها
مستندة على سيارتها وأدارها نحوه صائحاً بحدة
"كلميني جينا, احكي لي, لقد كنت غبي لأصدق عيناي
وأكذب قلبي, كم مرة ناديتني, كم؟"
دفنت رأسها في صدره شاهقة بالبكاء ثم تمتمت
"كثير,,,كثيراً جداً يا آدم, ولكنك لم تسمعني"
ضمها بقوة وكأنه سيعتصرها متمتماً بحنق
"سمعتك حبيبتي سمعتك وكذبت ما أسمع, آخر ما أردته
أن أهب لنجدتك لأجدك في وضع الموت عندي أهون من رؤيته, وما الذي حدث لك, لماذا لم
تخبريني؟"
"لم أقدر, كنت, كنت قد...."
همس بغير تصديق
"أصبت بالشلل, هل هذا ما حدث؟"
دفنت رأسها مرة أخرى متمتمة من بين شهقاتها المنهارة
"آسفة يا آدم أرجوك سامحني, لم أقصد أن أسبب لك أي
ألم"
ردد كلامها بشبه ذهول
"آسفة, آسفة, على أي شئ تماماً, أي رجل غيري ما
تحمل ما أرغمتني على خوضه فقط من أجل إنقاذ كبريائك, أي رجل...رجل ..لقد فقدت ثقتي
برجولتي بسببك وبسبب حماقتك, وتقولين لي آسفة, كان يجب أن أتصرف كما قد يتصرف أي
رجل في مكاني, ولكني تجمدت أحرقت نفسي كي لا أمسك بأذى, وأنت الآن آسفة"
أشاحت بوجهها بعيداً عنه فأعاد هز جسدها بقوه
"انظري
في وجهي رينا, انظري لي وأخبريني بسبب واحد فقط, واحد فقط لأسامحك"
تمتمت بانين ضعيف من بين شفتيها
"لا أستحق سماحك, لا تغفر لي.."
تراخت ساقيها فساندها مصدوماً
"رينا ماذا بك؟"
دفعت صدره بيدها السليمة وهي تحاول الوقوف بدون مساعدته
"أنا بخير, سأذهب الآن لقد أخبرتك بكل شئ"
اختلس نظرة لذراعها المتوقفة عن الحركة على صدرها ثم رفع
رأسه بعلامات استفهام
ازداد توترها وارتباكها وهزت رأسها يمنة ويسرى بتوسل
"لا تشعر نحوي بالشفقة أرجوك, أنا لا..."
سألها بوجوم
"منذ متى؟؟"
نظرة من عينيها أعادته بالذاكرة لشهور ماضية فشهق
متراجعا خطوة للخلف وهو يردد بصدمة
"لا غير معقول..مستحيل, أنت...رينا"
حاولت الهروب بالدخول للسيارة فأمسكها
"شششش اهدئي حبيبتي, لقد كنت مذنباً مثلك, لو
أطلعتك على حبي وغرامي بك من أول لحظة ربما كنت..., أه لو يقع بيدي, لأذقته معنى
أن يفرض قوته على امرأة, في أكثر تخيلاتي جموحاً لم أتصور, أن أياً ما يحدث قد
يكون رغماً عنك, ما أبشع انتقامك يا حبيبتي, ولكني كنت مرغماً, كان من المستحيل أن
أحنث بوعدي, حتى عندما ألمحت لموافقتك, كنت سأحتقر نفسي مدى الحياة لو استغللت
ضعفك, كلمتي كبلتني, وكان عذاب ما بعده عذاب كنت أنتظر أن تنتهي الستة أشهر ربما
أحببتني وأعفيتني من وعدي"
تساءلت ذاهلة
"لذلك حددت ستة أشهر فقط"
مسد على شعرها بيديه بحنان
"نعم كان عندي أمل كبير أن أقنعك بحبي, كنت أتمنى
لو ترين رشيد بعيون الناس وليس بعينيك المفتونتين"
همست دامعة
"لقد رأيته يا آدم, بأبشع صورة يمكنني تخيلها"
ضمها بقوة قائلاً
"الآن فقط فهمت سر غضب فؤاد, نعم حبيبتي لقد زارني
في شركتي و...كان له كل الحق فيما فعل, لم
أحافظ عليك, ولكني لن أتنازل عن رد لاعتباري, وأنت ستدفعينه صاغرة"
رفعت رأسها مصدومة وسألته بحذر
"أي رد اعتبار؟ سأفعل كل ما تريد أنا مدينة لك
بهذا"
رفع رأسها المطرق بإصبعه وهمس بحنان بالغ
"أن تتزوجيني لأنتقم منك بطرقي السادية, سأعذبك
بحبي حتى ترفعي راية الاستسلام البيضاء وتصرخين بأعلى صوتك أنك تحبيني, أنا آدم القاسمي
الخادم الوضيع في صرح مملكة أبيك, الذي حلم يوماً أن يمتلك من السماء أثمن ما
فيها"
وضعت يدها على شفتيه ثم أكملت عنه
"وهي ملكه من ذلك اليوم, قلباً و....قالباً"
لم يصدق ما يسمع فتردد لعدة لحظات قبل أن تهز رأسها
بابتسامة مشرقة فعاد يضمها بقوة يتمنى لو يحميها داخل أضلاعه من كل نسمة هواء تفكر
بأن تؤذي مليكته روجينا.
أبعدها عنه بصعوبة
"والآن حبيبتي لنذهب لنزف لفؤاد وزوزو البشرى ونحدد
موعد الزفاف"
أوقفته روجينا
"انتظر آدم قبل أن تفعل, لم تسألني كيف أنقذت نفسي
من رشيد"
مسد على وجنتها بنعومة هامساً وهو يرمقها بنظرات فخورة
"أعلم حبيبتي, لقد رأيته منذ بضعة أشهر, وظننت أن
اللوحة الفنية التي تزين رأسه من آثار حادث رهيب, الآن فقط عرفت, أنها من صنع يدك
أنت, شئ واحد فقد تمنيته, لو أكملت ووضعت بصماتي أنا أيضاً ولكن نظراً لمنظره
المشوه فيكفيه أنه كلما نظر في المرآة لن يرى إلا بصمات امرأتي على وجهه.
تمتمت بفخر متسائلة
"أنا..أنا امرأتك آدم؟"
"نعم يا مليكتي أنت امرأتي التي حلمت بها ليل نهار
منذ كنت في الرابعة عشر من عمري, أنت وحدك لي.
*****************
تمت بحمد الله
