" " " " " " " " إعصار (نوفيلا من فصل واحد)
📁 آحدث المقالات

إعصار (نوفيلا من فصل واحد)


إعصار

لم يكن انفجار  أو سقوط صاعقة من السماء، كان صوت غضبي، يعلو في كل لحظة تنظر لي بعينيها المغرورقتان بالدموع، فقط نظرة الانكسار التي تظن أنها قد تترك أي أثرًا في  نفسي، حسنًا لن تفلح هذه المرة.

صفقت الباب خلفي حتى كاد أن ينخلع من مكانه، نزلت الدرج بسرعة طلقات مدفع هاون، ثم خرجت للشارع أعفر التراب بقدمي بدون أن ألتقط  أي نفس  من أنفاسي.

كَسَمِّ الخياط، كانت الدنيا في عينِّي، كل من اعترض طريقي، كانوا مجرد وجوه بلا ملامح.

وقفت أنهت من التعب، وكأنني طريد سباق  أجبرت على خوضه.

 تميد الأرض بي، كلما جال بخيالي نظراتها المستضعفة الكسيرة ، كلما تذكرتها تفور مراجلي بالغضب.

حثني وسواسي على الاندفاع بين السيارات المسرعة، لألقي نحبي مطحونًا أسفل كفراتها.

 تحكم العقل أخيرًا فوقفت أحاول التقاط أنفاسي.

 عيني مسمرة على إشارة المرور بانتظار سطوع اللون الأحمر لأكمل الماراثون، أخيرًا تحول اللون للبرتقالي، هممت بالنزول من الرصيف بعد أن خلا الطريق من السيارات حتى سمعتها...

 صوت ضعيف يرتعش كجسدها المحني البالي أوقفني:

"هلا ساعدتني يا بني"

هممت بتجاهلها ولكن بريقًا غريبًا في عينيها، ثبتني كالمسمار في الأرض.

 ترددت لحظات، ثم يدها المخطوطة بتجاعيد تمتد لي تكاد تلمسني، بدون أن أشعر وجدت يدي تمسك بيدها وأنا أهون عليها بابتسامة فاقدة معانيها:

"تفضلي يا أمي"

"بارك الله فيك يا ولدي"

كانت بطيئة الخطوة لدرجة الملل، فحثثتها بنبرة جافة:

"أسرعي يا أمي بالله عليكِ، ستباغتنا السيارات ونحن في نهر الطريق"

رفعت رأسها المحنى تحدجني بنظرة طويلة استهلكت المزيد من الوقت المهدور:

"الصبر يا ولدي...الصبر"

مرة أخرى يسبب لي بريق عيناها بإحساس غريب، غير مريح ولكنه....

لم أعرف وصفًا لهذا الإحساس الغريب، فجأة أطلقت صرخة تأوه، عندما ضغطت بأصابعها الضعيفة على يدي بقوة رجل في الثلاثين.


 حدجتها بنظرة مرتابة قلقة حتى أوصلتها الرصيف الآخر، في نفس اللحظة تغيرت الإشارة لتنطلق السيارات بجنون.


 التفت إليها وإذا بي أتسمر مكاني فاقدًا النطق، فقد كانت العجوز تنظر لي بنظرة غاضبة، حولت مفاصلي لهلام.


تساءلت عن الخطأ الذي ارتكبته، لأستحق كل هذا الغضب، وقبل أن أهم بسؤالها، إذا بعينيها تتحولان لدوامتين...

 مددت يدي ترتعش أشير نحوها بكلمات غير مترابطة من الخوف، وإذا بعاصفة تندفع من عينيها، تجذبني داخل تلك الدوامات الغريبة بقوة شفط كالإعصار.

 

سقطت أرضًا أتأوه من وجع عظامي التي اصطدمت بالأرض الصلبة، وضعت يداي على وجهي ألهث بهلع، أطمئن على أطرافي وجسدي، أتلفت حولي بدورة كاملة:

"ما الذي يحدث لي، أين أنا؟ ماذا فعلت بي تلك العجوز؟ هل هي شيطان ما، وما هذا المكان؟؟"


الأسئلة وعلامات الاستفهام تراكمت داخل عقلي حتى وصل حد الانفجار.

انتبهت لصوت أنين، نهضت واقفًا أتبين المكان حولي...


 كانت ردهة تشبه ردهات المشافي، يزداد الصوت علوًا يصاحبه صرخة مكتومة، تحركت نحو أحد الأبواب المغلقة، لحظات تردد، فتحت الباب بحذر أترقب.

كانت تستلقي على الفراش بلا حول لها ولا قوة، أسمى آيات الألم ترتسم على ملامحها المنهكة المتفصدة بالعرق الغزير، حتى بدا شعرها كالمغسول، وطبيبة تجلس عند قدميها تهتف بأمر:

"ادفعي...ادفعي، وليدك بحاجة لقوتك"


سالت دموعها وهي تهز رأسها قائلة بصوت واهن:

"لم أعد أستطيع، لقد تعبت"

صرخت الطبيبة بغضب:

"ادفعي، سيموت وليدك مختنقًا، أنت يا هذا...أمسك بيدها"

فوجئت أنها توجه لي هذا الأمر، فوقفت مرتبكًا:

"أنا!!"

بتذمر صاحت الطبيبة:

"نعم أنت...أمسك بيدها وساعدها، وأنتِ كفي عن الدلال وادفعي"

 

شعرت برغبة شديدة لإمساك تلك الطبيبة وهزها حتى تتساقط أسنانها، كانت المسكينة فعلًا يبدو عليها التعب الشديد، ولكنني أسرعت وأمسكت بيدها، نظرت لي نظرة باغتتني، يا إلهي أنا أعرف هذه النظرة...


هذه النظرة المنهكة، المتعبة  التي مزقت تلك المضغة بين أضلاعي، ابتسمت لها:

"لا بأس...أنت قوية وتستطيعين فعلها،هيا"


قبضت على يدي بقوة ذكرتني بقبضة العجوز الواهنة، رغم ضعفها ولكنها كادت تحطم عظام يدي، ثم أطلقت صرخة قوية انتفخت لها أوداجها، واحمر وجهها وانتفض جسدها كأن زلزال فئة تسعة ريختر يضربها بلا رحمة، وانتقل لي عبر يدها.


ركعت أرضًا أصرخ مثلها من الألم، ولم أستطع نزع يدي منها، شيء غريب يحدث لي، كل جسدي ينتفض بقوة بلا أي سيطرة لي عليه.

 ثم شيء ما في بطني يتحرك وكأنه...لا هذا مستحيل!!

الطبيبة كانت تنظر لي بدهشة شديدة، لم أستطع تفسير ما يحدث لي، نداءها الأخير اخترق طبقات الألم التي تحيط بي وتنخر نخاعي الشوكي:

"الآن معي...سأعد ل3 وتدفعين بكل قوتك"

نظرت لها وشيء ما دفعني لأن أصيح متوسلًا:

"لا...لا تدفعي...لااااااااااااااااااااا"

وكأن قطارًا داهم جسدي وطحنه على قضبانه، حطم كل عظمة فيه، وفرم كل قطعة لحم منه بدون رحمة.

 تركت يدي أخيرًا وصوت طفل يثغي بضعف يخترق الضباب حولي.

انهار جسدي على الأرض، كنت أحاول لملمة نفسي، بينما الطبيبة تلف الصغير وتعطيه لأمه المبتسمة بإنهاك.


"بحق الله، كيف لها أن تبتسم تلك الابتسامة بعد كل هذه الآلام التي عصفت بجسدها الضعيف، وتحتضن من تسبب لها بهذا الألم بسعادة بالغة؛ وأنا أكاد أقتلهم جميعًا لما فعلوه بي، ولا أدري كيف نقلت لي وجعها، ركعت الطبيبة جواري:

"هل أنت بخير؟؟"

"ما الذي يحدث لي؟؟"

ابتسمت الطبيبة ابتسامة غريبة:

"تجربة بسيطة، تعلمك ألا تستهين بأي شيء بسيط تراه أمامك، حتى لو كان نظرة انكسار "

هززت رأسي بإنهاك:

"أعتقد أن هذا أصعب شيء في هذا العالم"

قلبت شفتها ومدت يدها لي:

"لا ليس تمامًا، انهض لأساعدك"

أمسكت بيدها لأفاجئ بقوتها وهي ترفع جسدي بسهولة شديدة، وكأنني طفل صغير لا رجل بالغ.

 وقفت أسألها بفضول وإذا بعينيها تتحولان لدوامتين، تراجعت متأخرًا جدًا لأجد نفسي داخل هذه الدوامات المُعْصِرة مرة أخرى.

هذه المرة كنت مستعدًا، أو هذا ما ظننته قبل أن أسقط مرة في مكان جديد وعلى أرض صلبة أيضًا، ضربت الأرض بقبضتي وأنا أصرخ:

"ما الذي يحدث لي، من يفعل هذا بي؟ الظلام حالك، لا أستطيع رؤية أي شيء"


مددت ذراعي للأمام كالأعمى أحاول تحسس طريقي، فجأة اصطدمت بي...

تجاهلتني وأكملت طريقها، ولكن! كيف أراها رغم الظلام!

تبعتها فقد كانت تتبعها طاقة نور أينما ذهبت...


رغم سرعتها لم أضيع أثرها، كانت تبكي، تحمل بين يديها طفل صغير يبدو عليه المرض، لا يكف عن السعال، داهمني ذلك الشعور  وكأن رئتاي على وشك الانفجار، وقد أصابتني عدوى السعال.

 كانت تضع يدها على جبينه كل دقيقة ويزداد توترها، يبدو أن الصغير يزداد سخونة...

لحظات وإذا بجبيني يلتهب من الحرارة، وبدأ جسدي بالتعرق، تبعتها أترنح حتى وصلت للمشفى، دَفَعَتْ ثمن التذكرة، ودخلت لتقف مكانها مسمرة أمام هذا الطابور الهائل من المرضى قبلها.

 جلست تحتضن صغيرها تقبل جبينه لتقيس حرارته بشفتيها، تضع يدها على صدره لعل السعال يهدأ قليلًا، ولكنه كان يزداد في كل دقيقة.

 وضعت يدي على صدري ونوبة جديدة من السعال تهدد بالهجوم....

مر وقت طويل وهي لا تكف عما تفعله، تقيس حرارته بشفتيها، تضع يدها على صدره، ثم تراقب طابور الانتظار الطويل الذي لا ينقص....

وبمعجزة ما، اقترب أحد موظفي المشفى يبدو أن قلبه رق لحالها، وسمح لها أن تتجاوز الطابور لتدخل للطبيب.

 لهج لسانها بالشكر حتى توارى، دخلت غرفة الكشف وكنت خلفها، ولكن....

مهلًا هذا المكان يبدو مختلف عن أي غرفة كشف، وقفت أراقبها تضع الصغير على فراش واسع بجوار طفلة صغيرة أخرى تكبره بعام أو اثنين، لقد تغيرت ملابسها أيضًا، ترتدي ملابس منزلية.

 جلست بجوار الطفلين وقد وضعت الكمادات الباردة على جبينيهما، على أكفهما الصغيرة، وأسفل ذراعيهما، لم تكف عن تغيير قطع الكمادات لساعات طويلة.

 طوال الليل تقريبًا، حتى كدت أسترحمها أن تتركهما وتنال قسطًا من النوم، فقد كنت أشعر بكل تعبها، وأعجز عن الخلود للراحة وهي على هذا الحال...

فجأة نظرت لي وكأنها اكتشفت وجودي:

"هل أنت بخير، يبدو عليك المرض!"

حاولت الكلام وقبل أن أنطق، صرخ أحد الطفلين وتقيأ على الفراش، ثم تبعته أخته بالتقيؤ لتعم الفوضى المكان....

كانت الرائحة كالقبر أصابني عدوى الغثيان فترنحت، ابتعدت أحاول مقاومة ذلك الشعور المقيت...

فجأة أظلم المكان مرة أخرى، ناديتها، ولكن...

ما اسمها، لساني يتحرك، وكأنه على وشك النطق به، ها هو أشعر كأنني سأناديها، كما أفعل دائمًا.

أشرق المكان بضوء شمس قوي، أين أنا، هل أنا في الصحراء...

مهلًا  هذا بحر، وهذه هي المرأة ذاتها، إنها تبكي أيضًا، لماذا في كل مرة أراها تبكي، ماذا حدث هذه المرة؟

 لا أرى طفلًا مريضًا معها، سرت خلفها كانت كمن يبحث عن شيء أو أحد ما، تسأل كل من يقابلها عن طفل، لقد ضاع منها صغيرها، وجع قلبها ولهفتها يقبض بأصابع باردة على قلبي.

 ينقبض صدري مع كل زفير تتنفسه، ولسان حالها يقول، كيف سأعيش هذه اللحظات العقيمة بدونه، هل سأفقده للأبد، لماذا لا أموت الآن ويوقظوني بعد أن يجدوه؟

 فجأة عجزت ساقاي عن حملي فجلست جوارها أفعل مثلها، أضم ركبتاي لصدري، أغمض عيناي، وألهج بالدعاء أن يعود لي سريعًا، يداهمني إحساس بالعجز والوجع لم أشعر بهما في حياتي.

فجأة انتبهت لصوت يناديها، رفعت رأسها لا تصدق أذنيها، يقفز صغيرها على صدرها تحتضنه بقوة، أبعدته تتأمله، وكأنها تنتقم من تلك اللحظات العجفاء التي مضت بدون أن تكتحل عيناها برؤياه.

 وفجأة، سمعت رنين تلك الصفعة على وجهي الذي احترق ألمًا، وقبل أن أتبين ما يحدث سمعت قهقهة جواري، سيدة في منتصف عمرها تضحك وهي تنظر لي:

"هل أوجعتك الصفعة"

"نعم، لماذا ضربتني؟، لا يحق لها أن تفعل"

مدت يدها تربت على كتفي، حاولت الهروب فقد كانت عيناها تبرقان بذلك البريق الذي يليه انتقالي عبر دوامات عينيها، وبالطبع لم أفلح، وسقطت مرة أخرى.

 لابد أنني سأعاني طويلًا من تلك الكدمات، أين أنا الآن؟؟

تخلل الهواء رئتي، بالراحة عندما رأيتها، لابد أنها ارتاحت بعد أن كبر أولادها. ولكن مهلًا، ملامحها المتعبة الكسيرة تكاد تصرخ من الوجع.

فجأة أصوات عالية صمت أذناي، البنت تصرخ منادية الأم تسألها عن ملابسها في الغسيل، الولد ينادي يسألها عن فردة شرابه الضائعة، والزوج ينادي بسؤال عن مكان نظاراته.

هي تقف في المنتصف كالتائهة، حائرة لا تعرف من ترضي أولًا.

ركضت نحوها أضمها، أمتص وجعها وكسرتها، أمسح تلك الدمعة الحارة المعلقة في أهدابها، ولكنها تجاهلتني، وأفنت ما تبقى من جهدها محاولة إرضاءهم.

ابتعدت عنها، وهي تبحث هنا وهناك، أراقبها بحسرة وألم، ثم حانت مني التفاتة لخيال بجواري، يصرخ فيها بغضب، ويلوح بذراعيه.

 يستمد قوته وجبروته من ضعفها وقلة حيلتها، حتى وهو يرى الانكسار بعينيها الدامعتين، لم يرحم سنوات من الوجع حتى أصبح له صوت في العالم، مدت يدي لأقتلع حنجرته التي يتباهى بها، فإذا يدي تصطدم بالمرآة.

جحظت عيناي وأنا أنظر للشروخ في المرآة، أتلمسها، من الذهول لا أشعر بالألم والدماء تسيل من أصابعي على المرآة، هذا أنا...مستحيل!!

وضعت يدي على صدري، فقد انتقل لي شعورها تلك القبضة المؤلمة التي تلتهمها كفريسة مستباحة الآن، هي ذاتها التي شعرت بها عندما ضاع منها صغيرها منذ سنوات.

أغمضت عيناي أحاول احتواء ذلك الألم، ثم فتحتهما بفزع على أصوات أبواق السيارات المدوية من حولي وشتائم بعض السائقين واتهامهم لي بالجنون لوقوفي في نهر الطريق ، تلفت حولي بذهول، لقد اختفت العجوز أين ذهبت؟

عبرت الطريق أتلفت كالمجذوب أبحث عن العجوز، ولكن كأنها فص ملح ذاب في المحيط.


تمت



رابط ثابت

https://www.7kayatuna.com/2023/04/mervatelbeltagyeaasar.html

الكاتبة ميرفت البلتاجي
الكاتبة ميرفت البلتاجي
ميرفت البلتاجي عضو اتحاد كتاب مصر و كاتبة في مجالات أدبية متنوعة المجال الروائي روايات اجتماعية وفانتازيا ورومانسي وصدر لها على سبيل المثال لا الحصر أماليا \ ناريسا \ ألا تلاقيا \ لقاء مع توت شاركت مع الهيئة العامة للكتاب في سلسلة ثلاث حواديت نشر لها قصص مصورة في مجلة فارس، ومجلة علاء الدين..ومجلة شليل وكتبت في مجال أدب الطفل عشرات القصص إلكترونيا وورقيا. ولها العديد من الإصدارات الإلكترونية لعدة مواقع عربية موقع مدرسة Madrasa تطبيق عصافير شركة وتطبيق Alef Education
تعليقات