الفصل السادس
...............
رنين الهاتف المزعج ...أغلقته بتأفف دون أن تكلف نفسها عناء الرد...منذ
الصباح الباكر لم يكف عن الرنين, وفي كل مرة المتصل يكون ديريك يعيد التأكيد عليها
أن تكون حاضرة اجتماع سانتوس في الموعد المحدد, ولم تفهم منه أي شيء كان متعصباً.
لم يزد عن كون سانتوس اتصل بجدها
واكد على ضرورة حضور الجميع بدون استثناء ولم يبدو على صوت ديريك أنه مسرور من
تلاعب دومينيك بهم كالدمى...
أطلق شتيمة قذرة ومن بعدها رفضت تلقي أي مكالماته...لم تتأثر بانفعاله, ولا
بطلبه الملح...أخذت كل وقتها في ارتداء ملابسها, ونظرت لصورتها في المرآة:
ـ لست أحد دميك يا دومينيك سانتوس...لن تشد خيوطك فتحركني...
أعادت وضع طبقة أخرى من الكريم في محاولة جديدة لمحو الهالات السوداء حول
عينيها تظلل جمالها وتصرخ أن هذه العاشقة المكلومة في حبها وحبيبها لم يغمض لها
جفن طوال الليل, وأنها قضت كل لحظة فيه تبكي بانهيار تام...
قادت سيارتها على مهل تمط شفتيها بامتعاض كلما لاحظت أضواء الهاتف تعلن عن
استقبال مكالمة جديدة بعد أن أغلقت الصوت الذي كاد يصيبها بالجنون...
اتسعت ابتسامتها كي تمنع الدموع من التسرب عبر رموشها المطلية بطبقة كثيفة
من الماسكارا...
أخيراً وصلت لمبنى الشركة...استرقت نظرة أخيرة للمرآة الأمامية لتتأكد من
وجهها...لا شيء مما تشعر به يظهر على السطح رغم أنها تبدو كعروس بلاستيكية في
واجهة أحد المحلات...
أومأت بانحناءة خفيفة للحارسين اللذان أسرعا يلوحان بالتحية وركض أحدهما
يفتح باب المصعد بلهفة:
ـ عفواً يا أنسة كاستيلانو...لقد أخبرونا أنهم بانتظارك في
الاجتماع...واكدوا علينا ...
رفعت يدها لتمنعه من الاسترسال:
ـ أنت تعطلني بالفعل..
تراجع الحارس محرجاً:
ـ أعتذر يا آنسة، تفضلي...
حدقت بالأرقام المتصاعدة وتساءلت في نفسها:
ـ لما هي سريعة اليوم...هل تطيع سيدك الجديد أنت أيضاً أيها المصعد...
انفتحت الأبواب لتخطو بتهادي إلى داخل القاعة...
كان المشهد مثيراً للضحك فالجميع بلا استثناء يجلس حول مائدة الاجتماعات
وكأن على رؤوسهم الطير...حتى جدها.
وحده دومينيك يبدو مسروراً مبتسماً وكأنه كان يتوقع تأخيرها الذي لم يغضبه...بل
في الواقع بدا عليه متسلياً...
هتف جدها حانقاً:
ـ ليوني...اللعنة أخيراً قررت الحضور...السيد سانتوس يرفض بدء الاجتماع إلا
بحضور الجميع لقد أخرتنا...
انحنت لتطبع قبلة على رأسه معتذرة دون أن تبعد عيناها عن عينا دومينيك:
ـ أعتذر يا جدي...أخرني الطريق...كان هناك حادثة ما...
وحده دومينيك عرف كذبتها فقد اتسعت ابتسامته...هتف جدها بانفعال:
ـ اجلسي حتى نبدأ...لماذا تبدين وكأنك خارجة من حفل أقنعة....
تجاهلت سؤاله كما تجاهلت نظرات ديريك الغاضبة, ووالدها الحانقة...ثم أشار
جدها لدومينيك:
ـ نحن كلنا هنا يا سيد سانتوس...تستطيع البدء الآن...وأرجو أن يكون كلامك
مختلف عن الأمس على الأقل حتى نتوصل لحل يرضي جميع الأطراف...
رد دومينيك دون ان تنزاح ابتسامته عن شفتيه:
ـ ألا تستبق الأحداث يا سيد كاستيلانو...ألا تنتظر ربما تعترف السيدة
المعنية بوجود ابني معها...
زفر السيد كاستيلانو بزفرة غاضبة ثم حدق بحفيداته حول المائدة صائحاً
بانفعال:
ـ أرجو من الحمقاء التي تسببت لنا بهذه الفوضى أن ترشد السيد سانتوس عن
ابنه حتى ننتهي من هذا الأمر...مرة وللأبد...
كانت ليوني الوحيدة التي لم تنظر لأي أحد بينما تبادل الجميع النظرات
المستفهمة...تنهد العجوز بانزعاج:
ـ لا إجابة يا سيد سانتوس...ولا واحدة من حفيداتي اعترفت...هل أنت واثق
أنها موجودة هنا...ربما كنت ثملاً ..أو أن الفتاة ادعت أنها من كاستيلانو..
لا تبدو واثقاً من شكلها...أراد الجد أن يسخر منه فتبادل الضحك مع عائلته...انتظر
دومينيك حتى انتهت نوبة الضحك:
ـ ربما أنت على حق سيد كاستيلانو...في هذه الحالة يبدو عرضي السابق لا معنى
له...نحن بحاجة لعرض جديد كما قلت يرضي جميع الأطراف...حسناً...إليكم عرضي
النهائي....
وصمت ليرى تأثير كلامه على الجميع الذي ركنوا للهدوء ما يسبق العاصفة
بانتظار العرض الجديد....
وبعد أن تأكد من انتباه الجميع:
ـ عرضي هو أنني انتظر عرض زواج من إحدى حفيدات كاستيلانو...لو كانت تملك
الشجاعة الكافية لتعرض على الزواج...سأفكر بالموضوع...
وقد أقبل...إن قبلت سأنقل كل أسهمي في الشركة باسمها...وان رفضت العرض
سأعيد كل الأسهم للسيد كاستيلانو...عرض عادل.
كان الجميع مشغولين بمناقشة العرض الغريب ما بين مصدق ومكذب وساخر...وبعضهم
اتهمه بالجنون...أمسك ساعته وأعلن من جديد:
ـ باقي خمس دقائق وينتهي العرض, لنعود من حيث بدأنا...أربع دقائق...يبدو أن
حفيداتك يفتقدن الشجاعة يا سيد كاستيلانو...ربما الجبن هي الصفة السائدة...ربما لا
يرغبن بالتضحية بأنفسهن مقابل المال...ثلاث دقائق..
كان مستمراً بالعد...بينما كانت ليوني تتسع ابتسامتها وهي تراقب بنات عمها
يتنازعن خفيه عمن يتقدم بالعرض...وقبل ان تستقر إحداهن ارتفع صوتها ليعلو فوق
الهمهمات:
ـ أنا يا سيد سانتوس...أعرض عليك عرضاً...
رد بسرعة قبل أن يفيق الرجال من ذهولهم:
ـ وأنا أقبل...
انتفض ديريك ضارباً بيده على المائدة:
ـ ولكن هذا...مستحيل...
حدجه دومينيك بنظرة مستفهمة:
ـ هل ترفض العرض يا ديريك...ما رأيك أن تأخذ رأي جدك أولاً...وأباك...وأعمامك...هل
كنت ستعترض بنفس القوة لو كان العرض من إحدى بنات أعمامك وليس من أختك...
استل ديريك مسدسه وشهره بوجه دومينيك الذي لم يصدر منه أي حركة تدل على
تأثره:
ـ لقد أخبرتكم عن عرضي يا سادة وانتظرتم معي العرض المقابل دون اعتراض...وأنا
قبلت...هل ترفضون أنتم؟
نكس الجميع رؤوسهم بينما صفقت ليوني بيديها ضاحكة:
ـ شو رائع...أنت البطل بلا منازع اليوم...اجلس يا ديريك لا تجعل من نفسك
أضحوكة..
ارتبك ديريك فصاح جده:
ـ ألم تسمع أختك...اجلس يا ولد قبل أن أحشر هذا المسدس في فمك وأضغط على
الزناد...اجلس...
عم الهدوء الاجتماع مرة أخرى عندما تكلم العجوز:
ـ يبدو أن لا خيار أمامي...على الموافقة... المعترض على هذا
الــ....الاندماج يرفع يده...
كان ديريك الوحيد الذي رفع يده فصاح والده ساخطاً:
ـ أنزل يدك أيها الأحمق...ألا تدرك ما يحدث...المعترض هو الوحيد الذي لن
يكون له وجود في الشركة بعد اليوم....
هز الجد رأسه بأسف وأعلن:
ـ الموافقة بالإجماع...متى تحب أن يكون الزفاف يا سيد سانتوس؟
رد بسرعة:
ـ غداً...صاح الجد مصعوقاً:
ـ هذا جنون...
ردت ليوني بتحدي:
ـ ولكنني لم أعلن عن عرضي بعد...ربما السيد سانتوس صور له غروره أنني أعرض
عليه الزواج...ولكن هذا لم يحدث..
ارتفع حاجبا دومينك محاولاً اختراق أفكارها...عندما تنحنح جدها:
ـ أفصحي يا ليوني...هذا ليس وقت ألغاز
ـ الفكرة ببساطة أنني لا أقدم عرضًا للزواج...ولكن ...عرض آخر أعرضه على السيد
سانتوس..
تنهد دومنيك بعمق:
ـ أنا أسمع...هاتي ما عندك..
ـ عرضي هو أن تعوضني عن الطفل الذي مات بسببك...بطفل آخر...طفل
لن يكون لك أي صلة به حي أو ميت...طفل لن تراه ولن تشعر بأبوتك له لأنني لن أسمح
لك...أنت لا تستحق أن تكون أباً...ولكنني أستحق التعويض منك ومن عائلتك ومن
عائلتي..
واجهت نظرات دومينيك المحدقة ووجهه الشاحب بثبات..
اعتراضات كثيرة وهمهمات حتى رفع العجوز يده فعم الصمت مرة أخرى, والتفتت
الرؤوس كلها باتجاه دومينيك بانتظار جوابه...شبك ما بين أصابعه مفكراً بعمق...ثم
أومأ برأسه:
ـ عادل بما يكفي...ولكنك تعلمين أنني...
قاطعته بصوت صارم:
ـ لا تطلب مني أن أشفق عليك...أو أتنازل عن طلبي لأنك
تحتضر وعلى شفير الموت...فأنت لم تعاملني بالمثل...هل أنعش ذاكرتك...عندما توسلتك
بكل مقدس ألا تقايضني بأخيك...كان ردك بضعة ورقات مالية قيمتي وقيمة ابنك عندك..
اعتدل في مقعده مصعوقاً وقد هربت كل نقطة دماء حمراء من وجهه وتجمع العرق
الغزير على جبهته....زادت حدة الهمهمات, بينما عقد الجد حاجبيه متسائلاً:
ـ هل المفروض أن نفهم شيء من حربكما الدائرة هذه...؟
ربتت على يد جدها مطمئنة:
ـ لا تقلق يا عزيزي...أنا أعلم ماذا أفعل...هه...ماهو ردك يا سيد سانتوس...الكرة
في ملعبك...من الجبان ومن الشجاع؟
تراجع ديريك في مقعده مقهقهاً بصوت عالي:
ـ كنت أعلم أنك تدبرين مصيدة ما, فمن المستحيل أن تضحي بنفسك لهذا السانتوس
الميت...
زجره دومينيك من بين أسنانه وعيناه تومضان بكره بالغ:
ـ لو كنت تعرف مصلحتك يا ديريك...لا تفتح فمك مرة أخرى...أنت مدين لي
مرتين, ولم يحن وقتك معي بعد, فأخرس هذا الفم أم أقوم أنا بهذا الدور...
شبكت ليوني بين أصابعها قائلة بتحدي:
ـ خمس دقائق فقط وبعدها سينتهي عرضي...ما زال بإمكانك أن تقبل أو ترفض...أربع
دقائق هي كل ما تبق أمامك أمازلت متردد, أنصحك أن ترفض، فليس
من السهل أن تكون رجلاً بعد أن أثبت بكل الوسائل العكس...
ثلاث دقائق....دقيقتان...الوقت قصير كما الحياة أليس كذلك....دقيقة واحدة
وبعدها ينتهي كل شيء...و..
رد بزمجرة أتبعها لعنة:
ـ حسناً...ولكن الزواج أولاً...
ردت بثقة:
ـ أنت مفاوض بشع وأنا لا أتفاوض على شروطي...أنا لن أتزوج بك...بالطريقة التي جاء بها الطفل الأول سنأتي بالثاني..
صرخ بحده:
ـ وأنا موافق...صلي كثيراً كي لا أنجو لأني سأدفعك ثمن ما فعلته الآن
غالياً
ردت ضاحكة:
ـ سأفعل...شرط آخر...
انتفض من مقعده معترضاً:
ـ لا هذا كثير لا مزيد من الشروط
ـ أنا صاحبة العرض ولي كل الحق بفرض شروطي...
انحنى متنهداً على المائدة:
ـ ماذا أيضاً...
انتظر للحظات وعندما لم ترد رفع رأسه ليفاجأ بالدموع المحتبسة خلف
قناعها...ضاقت عيناه مفكراً بما دهاها حتى نطقت أخيراً ولكن بصوت مختلف تماماً عن
الصوت الواثق:
ـ أن تكتب وصيتك...في حال موتك...أن تهب أسهمك لجمعية رعاية الأطفال الخدج,
ربما كتب لأحدهم الحياة بفضل مساهماتك....
اغتمت عيناه بوميض حزن عميق وهو يومئ موافقاً, فأردفت:
ـ كارلوس...نادي محامي العائلة ليكتب الشروط في عقد ملزم لجميع الأطراف...
اعترض دومينيك ثائراً:
ـ كلمتي عقد...
ـ وأنا أيضاً...وما زال الأمر سيتم وفق شروطي...في أي مرحلة قبل التوقيع
على العقد اقبل أو أرفض...لن نجبرك...نحن الكاستيلانو عادلون....
غمغم كارلوس حائراً:
ـ وماذا أقول للمحامي...عن أي عقد تتحدثان
هذه المرة كان الضحك من نصيب الجد فسأله كارلوس:
ـ يبدو أنك فهمت يا جدي...أخبرنا ما الذي يحدث هنا؟
هز رأسه بعينين دامعتان من كثرة الضحك:
ـ ولكني لم أفهم أي شيء, ولكن حدسي يخبرني أن هذه الكاستيلانو الصغيرة حصلت
لنفسها على صفقة رابحة, رغم أن مستقبل الشركة كله على المحك, ولكن ليست كل الصفقات
الرابحة تقدر بالمال...اذهب ونادي المحامي أحب رؤية النهاية قبل أن أقضي نحبي
منتظرًا....
هم كارلوس بالخروج عندما أوقفه دومينيك:
ـ انتظر...سيأتي المحامي...ولكن علي أن أمهر اتفاقنا بتوقيعي الخاص
أولاً...هل تسمحي يا آنسة كاستيلانو بالقدوم نحوي لنوقع اتفاقنا, كما وقعناه أول
مرة....
حاربت بشدة احمرار وجهها وهي تحدجه بنظرات نارية ونوبة فوران تهدد بخروج
الدم من أذنيها...رفع أحد حاجبيه وكأنه يتحداها.
وقفت مزيحة المقعد للخلف بصوت مزعج متجاهلة الفضول الذي يحيطها من كل جانب,
وبخطوات متهادية اتجهت نحوه, كان ينتظرها بأنف مرفوع وكأنه يمعن في تحديها أن تستمر للنهاية...وقفت أمامه وانحنت نحوه تهمس بصوت
خافت:
ـ أنت تدفع حظك, كل كاستيلانو هنا مايزال يضع إصبعه على زناد سلاحه فلا...
لم يدعها تكمل فجذبها نحوه لتجلس على حجره وقبل أن تدرك ما يحدث كان يضيع
إدراكها الواعي معه في قبلة حميمة عادت بها لذكريات القبلة الأولى...
حاولت جذب نفسها منه مراراً عند سماعها الهمهمات الغاضبة ومن بينهم قهقهات
جدها المسرورة والتي صنعت نوعاً من التوازن كي لا يفقد أحد أعصابه...أبعدت فمها
عنه بصعوبة لاهثة ثم ضمت شفتيها بقوة متذمرة, فسألها ببراءة هو أبعد ما يكون عنها:
ـ ألم يقبلك أحد بهذه الطريقة من قبل؟...
سمعا صوت ديريك الحانق:
ـ اللعنة لقد تجاوزتما كل الحدود..لن أحتمل...
أوقفه جده بصوت صارم:
ـ غادر هذا المكان ولن تعود إليه أبداً سواء كنت حياً أو ميتاُ...أه سيد سانتوس...هل انتهيت من توقيع عقدك؟...
انتفضت ليوني عندما وجدت نفسها لا تزال تجلس عل ساقيه, وعادت لمقعدها تحاول
محاولة فاشلة أخرى بتسوية شعرها الذي عبثت به أصابعه...
وصل المحامي الذي حاول قدر المستطاع ألا يبدو مدهوشاً من أغرب عقد لأغرب
شروط يمكن كتابتها...وفي النهاية أمسك بالورقة ليتأكد من وجود التوقيعات المضبوطة
ثم استأذن بالانصراف ليوثق العقد...
وقبل أن يذهب دومينيك وقف أمام المصعد ليودعها:
ـ في المساء سأكتب وصيتي كما طلبت... وسأنفذ كل
طلباتك ...وفي حال كتب لي الحياة...عليك أن تتوخي الحرص مني...لأني لن
أرحمك ...يا كاستيلانو
.............
روايةِ دميةِ علىِ أرجوحةِ الكرهِ
