الفصل الخامس
أنت زوجتي
***********
انكمشت في مقعدها بالسيارة يدور عقلها في دوامات" أمعقول أن زوزو
أخطأت فهم تعليماته, أم أنهما شريكان في التحايل عليها" احتدت ملامحها عندما
وصلت أفكارها لهذا المنحنى وصرت على أسنانها وهي تتوعد زوزو في سرها.
التفت آدم فجأة ليقاطع أفكارها بصوت جاد فتمكنت من رؤية وجهه لأول مرة منذ
أيام فإذا به وقد ازداد جاذبية بلحيته التي لم تعرف ماكينة الحلاقة منذ أيام,
وطارت الأفكار في رأسها تتلاعب بها مرة أخرى ولكن في منحدرات مختلفة كادت تهوي بها
في الهوة التي تحاول الحفاظ على نفسها من الوقوع في دهاليزها الخطرة " أه, كم
يبدو مثيراً بلحيته الشائكة وكأنه تعمد إطالتها كي يغويها أن تغوص بأناملها في
نعومة شعيراتها البربرية" هزت رأسها لتستمع لكلماته بدلاً من أفكارها البلهاء
"بالطبع هناك دعوة ولكن مني أنا يبدو أن حالة السمع لدى زوزو المسكينة أصبحت مشوشة"
ضغطت على أسنانها بعضها ببعض حتى سمع صوت طحنهما وهو تقول بصرير مزعج
"أعدني للبيت"
تنهد ضاحكاً واندفع في مقعده إلى الخلف ثم قال بضجر
"لقد كنت مغموراً في العمل منذ فجر الأمس وحتى قبل نصف ساعة, و لم أتناول
أي طعام يذكر حتى الآن قد...ألتهمك من شدة جوعي, رغم أن هذا الأمر سيعتبر تجاوزاً
مني, لذلك لو شئت البقاء في السيارة حتى أتناول طعامي أو..بإمكانك المشي عائدة
للبيت, أنت حرة, كما أن بإمكانك تنحية كبريائك جانباً ولو لبعض الوقت لنستمتع
بأمسية هادئة أنت بحاجة لها أكثر مني, وكما قلت أنت حرة"
ثم حرك مقبض باب السيارة ليفتحه واندفع خارجاً
فكرت للحظات في الخيارات التي عرضها عليها ولم يعجبها أياً منها كما لم
يعجبها أن تكون محصورة ومجبرة على القيام بدور هي لا تريده, أسرعت بفتح الباب
ففوجئت به ينفتح بقوة وكأنه كان واقفاً بانتظارها متأكداً أنها سترضخ له في
النهاية, التهمت عيناه ثوبها الكهرماني المفتوح الصدر ذي الحمالات الرفيعة وراحت
نظراته تجول عليها بشئ من الحذر فارتجفت وليس من البرد بل من أفكارها التي أطلق
سراحها منذ وقعت عيناها على لحيته النامية والتي زادت من خطره وهمجيته, شهقت عندما
اقترب أكثر وانحنى خلفها ليتناول دثارها من فرو الثعلب الذي تركته على المقعد,
وضعه بأصابع ثابتة على كتفيها وما لبث هذا الثبات أن انقلب عندما لمس إصبعه كتفها
عفواً وقبل أن تجفل كان قد ابتعد وقد ارتجفت يده وشحب وجهه ثم أشاح بعيداً عنها كي
لا تلاحظ ما اعتراه, مد ذراعه فوضعت يدها بها بحذر تتأبطه ومازالت آثار دهشتها
مستولية عليها تماماً.
اختار مائدة متوارية خلف حواجز خشبية مزخرفة سحب لها مقعدها, حاولت
الالتقاء بعينيه ولكنه كان بارع في الهروب فلم تواتيها الفرصة لتعرف سبب ما حصل
وهي التي ظنت أنه سيتحين الفرصة ليذيقها من هوى عشق غرامه كما هددها في يوم
زفافهما, ولكن ما حدث كان أغرب من أن تصدقه؟؟!!!
حياهما مدير المطعم بنفسه وقدم لهما القائمة فهزت رأسها ممتنعة عن الإمساك
بها, فأخذها قائلاً بصوت عملي جاد لا ينم على أي شئ
"هل ستثقي بذوقي في الاختيار"
ردت ببرود
"أنا واثقة أنك تتذكر كل ما أحبه من أطعمة"
عاد وجهه يعتم مرة أخرى لمرارة الذكريات ثم زفر بسخرية وهو يغلق قائمة
الطعام ويملي على النادل كل الأصناف التي تحبها كما يحفظها عن ظهر قلب وبكل
التفاصيل على حسب ذوقها"
هزت رأسها يمنة ويسرة متمتمة
"أنت..أنت لا تصدق"
مد يده عبر المائدة وأمسك بأناملها بحذر وكأنه يخشى أن تنكسر بين خشونة أصابعه,
فأجفلت بإثارة أخفتها بمهارة خلف قناعها الخشبي
"روجينا, ارقصي معي"
تمتمت بدون أن تتحرك من مكانها
"أتمنى ألا تصدق نفسك كما يبدو لي, فأنت تعيش داخل حلمك الخاص ما تلبث
أن تستيقظ منه, وربما تكتشف أنه تحول لكابوس بشع ولا يفيدك الندم بعد أن تتحطم
روحك داخله"
رد بابتسامة باهتة وعيناه تشعان تحدي وثقة
"هو حلمي كما تقولين فدعيني أمسك دفة قيادته فهو لن يتكرر في عمري كله
مرة أخرى كما أعتقد, تفضلي"
لم تجد مناصاً من الانصياع لرغبته مرة أخرى بعد أن وقف بانتظارها
وقد بدأ يلفت الأنظار بهيئته الضخمة وهو يمد يده نحوها وكأنه يستعطفها
حاولت الحفاظ على برودها وهي تضع يدها بداخل راحة يده الممدودة وتمنت ألا
يشعر بارتجافها وهو يضمها بين ذراعيه لأول مرة, ظلت محتفظة بنفسها بعيداً عن
ملامسة صدره ولكن لدهشتها استخدم قوته ليجبرها على الالتصاق به, شهقت وهي ترفع
عيناها إليه بنظرات غاضبة
فهمس بجوار أذنها
"هذا حلمي أفعل به ما أشاء, أليس هذا ما قلته لي بنفسك؟"
استكانت وقد تحولت نظراتها لشرارات لو كانت نار لأحرقته في ثوان
فقهقه وهو يدور بها على أنغام الموسيقى الراقصة
"عيناك تقولان الكثير يا جينا, وأقل جملة قرأتها فيهما أنك لا ترغبين
بأقل من قتلي الآن"
أطلقت زفرة ساخرة
"أنت تطري نفسك كثيراً يا سيد آدم القاسمي, وتعطيها أكبر من حجمها
الفعلي خاصة بالنسبة لي, فالرجل الذي أغضب منه لدرجة القتل لم يخلق بعد"
شد ذراعه أكثر على خصرها لتزداد به التصاقاً وهمس بعاطفة جياشة تنطق بها
عيناه بمشاعر كثيرة وغريبة أربكتها
"ولهذا فقط أنت هي روجينا مليكة آدم القاسمي"
ثم أردف بعد أن أرخي جسمها قليلاً ليسمح لها بالتنفس
"اهدئي جينا, واستمتعي بنغمات الموسيقى لتهدئ من أعصابك الثائرة"
ابتلعت كل الغضب الذي تشعر به فلو فتحت فمها لملأت المكان صراخاً لكي يفهم
هذا الرجل المعتد بنفسه كثيراً أنها لم ولن تكون له حتى لو كان يثير في نفسها هذه
المشاعر المضطربة والغريبة, حولت وجهها بعيداً عنها واستمعت لنصحه ربما تهدئ
الموسيقى فعلاً من انفعالاتها, ولكن حدث فجأة ما هز كيانها وعيناها تتسمران على
عازف الجيتار, وظنت أن دهراً مر وهي تتبادل معه النظرات المذهولة وهو مصدوم و
متألمة وحزين, كل هذه الكلمات لا تصف منظره في هذه اللحظة, حركت رأسها بصعوبة
بالغة كأنها جسد سلبت منها عنفوان الحياة لتتطلع لأعلى للرجل الذي تسبب بكل لحظة
ألم في حياتها من يوم عرفته وهمست بصوت مرتجف
"أنت وغد وحقير ولست إنساناً بالمرة"
نفضت يداها عنه وكأنه قذارة ستوسخها ثم دفعت بكل قوتها صدره بغضب شديد دون
أن تبالي بأنهم أصبحوا مادة شيقة للمشاهدة, ثم لوحت له بإصبعها لاهثة ومئات
الشتائم والسباب تتزاحم في عقلها تريد إخراجها دفعة واحدة ولكن دموعها كانت
الفائزة فانهمرت لتقوض كل ما كانت ترغب به لشهقات أسرع لكتمها في صدره وهو يحاول
احتوائها بين ذراعيه وعندما اجتهدت في مقاومته جذبها بقوة من كتفيها ورفعها ليقترب
وجهها من وجهه متمتماً من بين أسنانه
"الرجل الذي يصنع بك كل هذا لا يستحق, أنت تهدرين مشاعرك على من لا
يستحق متى سترين هذا؟"
لم ترد وارتخت ساقيها فحملها بسهولة وأسرع بها للخارج بعد أن ساعده النادل
في وضع الدثار على كتفيها, وضعها برفق على مقعد السيارة ثم أغلق الباب بهدوء, ولحق
بها على الفور يحاول تهدئتها بعد أن أدار جهاز التكييف الحار
"روجينا اسمعيني"
تمتمت بصوت لا حياة فيه وقد سال الكحل أخاديد على وجهها
"كنت تعرف أنه يعمل هنا؟؟"
أخذ نفس عميق ثم رد بعد تنهيدة أخرجت كل الهواء بصدره
"نعم"
أردفت بتأثر محاولة السيطرة على نشيجها المتلاحق
"ولكن..لماذا لماذا كل هذه القسوة, هو لم يعتدي على حقك أنت الذي فعلت,
سلبته خطيبته, ووقفت تتبجح أمامه بانتصارك وذراعيك تحوط جسدي"
أجابها ببساطة
"أردتك أن تشفي منه"
أدارت له وجهها بحدة صارخة بصوت مكتوم
"لو كنت مريضة, فأنت هو مرضي الذي سأشفى منه بعد أشهر قليلة أعد
أيامها باللحظات"
أشاح بوجهه بعيداً يحدق في الظلام الكثيف الذي يحيط بالسيارة, وبعد تنهيدة
عميقة خرجت من أعماق قلبه
"أنت مخطئة يا روجينا, لو لم أكن مناسباً لك كرجل, كما ترينني, هذا
شأنك ولكن زواجك من رشيد كان ليصبح كارثة, فليس هو الرجل المناسب لك أبداً"
صاحت شاهقة بالبكاء
"مستقبله كان معي, انظر لحاله بعد أن تخليت عنه بالزواج منك"
هز رأسه قائلاً بصوت أجش
" هو هرب كالجبان, وهذا أكبر دليل على صدق حدسي, هذا الرجل الذي ترينه
يستحقك أكثر مني, سقط في هوة الضياع مع أول عاصفة ألمت به وبعثرت أوراقه, وأنت
بحاجة لرجل تستطيعين الاعتماد عليه وتأتمنين على مستقبلك معه"
ردت بزفرة ساخرة وهي ترمقه بنظرات محتقرة
"وأنت هو هذا الرجل؟"
رد بلهجة يائسة
"ربما لو أعطيتني الفرصة لــ.."
قاطعته صارخة بحدة
"ولو بعد مليون سنة, رجلي هو رشيد, ولن يكون سواه حتى يضمني
القبر"
ضاعت نظراته المتأثرة الضائعة في طيات ظلام الليل المسيطر ولكن غصة مؤلمة
شعرت بها تنغز صدرها وهي تسمع تنهيدته التي لو سمعتها بدون أن تعرف صاحبها لمزقت
نياط قلبها, ولكن هي قلبها مسور بجدار عالي لن يسمح لآدم أو لسواه بتخطيه أبداً.
انطلق بسيارته بسرعة كبيرة وكادت أكثر من مرة أن تصرخ ليتوقف ولكنها كانت
تتوقف في آخر لحظة لثقة غريبة شعرت بها تغزوها تجاهه, ولأول مرة تركت نفسها بدون
وعي حقيقي تستمتع بإحساس أن تكون آمنة, خاصة معه.
لم يولي لها نظرة ثانية بعد أن أوقف السيارة في باحة القصر انتظر حتى خرجت
رافعة الرأس كعادتها وراقبها تتحرك بخطواتها الرشيقة حتى اختفت داخل الأبواب
الضخمة, استقبلتها زوزو بلهفة وقد ساورها القلق من وجه روجينا المكفهر
"رينا حبيبتي, هل أنت بخير؟"
لم ترد واستمرت بطريقها ولكن المربية العجوز لم تيأس واستمرت تلح عليها حتى
توقفت بحدة قبل أن تدخل الغرفة وصرخت بوجهها بغضب
"اسمعي أيتها العجوز المزعجة, ابتعدي عني ولا تسأليني أسألتك البلهاء
هذه, وإلا ..."
تمتمت المربية العجوز بقلق
"حبيبتي اهدئي, أنت تعلمين ما يحدث لك عندما تتعصبين, وقد حذرك
الأطباء من.."
عادت روجينا تصرخ بهستيرية
"وأنت ما شأنك بي, قلت لك اتركيني وشأني ولا تتدخلي فيما لا
يعنيك"
وأتبعت جملتها بدفعة غاضبة بصدر مربيتها التي تراجعت بدورها للخلف متعثرة
حتى سقطت على الأرض, شعرت روجينا بفداحة فعلتها فاقتربت منها مذعورة, ولكن كان آدم
الأقرب إليها فهرع نحوها يساعدها وهو يرمق روجينا بنظرات غاضبة نارية أشعرتها
بأنها مجرمة فتراجعت للخلف وأسرعت تختفي داخل غرفتها وكلمات زوزو المتأوهة تصل إ ليها
عبر الباب
"سامحها يا بني هي لم تقصد, لقد كانت متعصبة وأنا السبب في.."
قاطعها آدم محاولاً السيطرة على فورة غضبه
"لا تدافعي عنها يا زينب ليست هذه هي المرة الأولى التي ألاحظ فيها
تعاملها معك بخشونة"
ربتت على يده بعد أن ساعدها وأدخلها لغرفتها قائلة
"حبيبتي رينا ليست كما تبدو لك هي.."
"صاح بصرامة
"لن أسمح بأي تجاوزات لعائلة السيوفي تحت سقف بيتي يا زينب, لن أسمح
لها أن تعاملك كما كان والدها يعاملنا, لن أغذي ذلك الوحش داخلها بصمتنا
وسكوتنا"
هتفت
"ولكن ..اسمعني.."
ولكنه لم يسمع وخرج مسرعاً, حاولت اللحاق به ولم تستطع عندما آلمتها عظامها
من السقطة السيئة منذ قليل.
فوجئت روجينا بعد أن بدلت ثيابها وارتدت قميص نومها الأبيض الشفاف بمن
يقتحم عليها غرفتها بدون أن يطرق أولاً واستعدت لتلقن المقتحم درساً عندما توقفت
شاهقة وهو يتقدم نحوها بملامح مهددة بشتى أنواع العقاب, تراجعت للخلف أمام تقدمه
حتى أمسك بذراعيها وراح يهزها بقوة
"لن أسمح لك بمعاملة زوزو بهذه الطريقة بعد الآن, لا هي ولا أي فرد من
الخدم يستحق منا أن نعاملهم كالعبيد"
ردت لاهثة بعناد وعلى ملامحها ترتسم ابتسامة ساخرة وقحة
"لماذا هل تشعر بالإهانة, وربما الحنين لأصلك الوضيع, ربما..."
شعرت بضغط أصابعه أكثر على ذراعيها فأنت بألم حتى دمعت عيناها.
ثم خفف من قبضته قليلاً وسألها بدون أن يفك أسرها من بين يديه
"لقد وعدتك من قبل أن يكون زواجنا أبيض, أليس كذلك؟"
ازدردت لعابها بصعوبة ولم ترد وهي تفكر بسبب هذا السؤال’, فهزها بقوة حتى
اصطكت أسنانها ليستحثها على الإجابة
"أليس كذلك؟؟"
هزت رأسها بقوة محاولة ألا يظهر خوفها فردت بنبرة قوية
"نعم, ولمدة ستة أشهر فقط, مر منهم شهران ويومان وثلاث ساعات"
بابتسامة لم ترتح لها سألها
"وتثقين بوعدي لك, أهذا صحيح؟"
عادت تبتلع غصتها وهي تهز رأسها بدون أن تقدر على النطق, فأردف بلهجة
متوعدة
"لست أدري لم تثقين بوعدي كرجل محترم, مع أنك لا ترين بي إلا مجرد رجل
من أصل وضيع تجرأ يوماً وتطلع لنجمة في سماءه بأمل, بأمل أن تكون ملكه ذات يوم,
وعندما ملكها أحرقت قلبه بوهجها, والآن أخبريني وهنا في مخدعك, أي رجل من الاثنين
أكون بنظرك, الرجل المحترم الذي يفي بوعوده, أم الرجل المنحط ذو الأصل الوضيع الذي
لا كلمة ولا عهد له, من أنا الأول أم الثاني"
شهقت ترتعد عندما هزها مرة أخرى ببريق الهمجية تلتمع بها زرقة عينيه
فصاحت وهي تحاول إبعاد خشونة يديه عن نعومة بشرتها المخملية التي لم تتخيل
يوماً أن تهان بهذا الشكل المتجرد من الرقة
"اتركني, لو كنت رجلاً كفاية لامرأة مثلي ما كنت احتملت لحظة واحدة
معي بدون أن تقاوم لمسي, فلا يليق بك إلا من هم على شاكلتك, هم فقط من يثيرون
رجولتك التي تدعي أنها موجودة"
ربما بعد فوات الأوان شعرت بفداحة ما قالته فاتسعت عيناها بشده تفكر كيف تسحب
كلماتها من أذنيه, خاصة عندما اشتدت أصابعه لتنغرز في لحمها أكثر وهو يدور بها يفح
بصوت كفحيح الأفعى قبل أن تهجم على فريستها
"هل تدفعيني لاغتصابك يا زوجتي المحترمة لأدافع عن رجولتي وأثبت لك
عكس ظنك بي, تكلمي, هل هذا ما ترغبينه حقاً؟ تكلمي, أنت هنا وأنا وهذا هو الفراش
ولم يبقى إلا أن....
رواية أمِيرة أحِلامي
