الفصل الثاني
زوجة للإيجار
"جينا حبيبتي, لم أنت وحيدة؟ ما من عروس تكن وحيدة في يوم كهذا,
وشاردة أيضاً, فيم تفكرين؟".
أشاحت بوجهها عنه كي لا تراه لعله يختفي كما تأمل, أو لعلها تنسى أول
يوم رأته فيه..
أعاد وجهها إليه بلمسة رقيقة كجناح الفراشة على ذقنها مما ذكرها أنه لم
يلمسها أبداً وربما هذه اللمسة المتطايرة تعد أول تلامس حقيقي يتم بينهما...
"ما رأيك هل قصرك كما هو؟ هل تغير فيه شيء؟".
ردت بجفاء وهي تعيد الإشاحة بوجهها عنه:
"نعم, تغير فيه الكثير, أنت مثلاً, لم تكن هنا من قبل".
رد بغموض:
"هل أنت واثقة؟".
انتبهت له بجدية:
"ماذا تقصد؟".
قاطع تساؤلها اقتحام الخادم المفاجئ:
"سيدي, يوجد ضيف على الباب".
رفع كأسه قائلاً ببريق متلاعب بعينيه:
"ربما فيما بعد يا عروسي الجميلة, ربما فيما بعد, أتركك لشرودك, ولكن
انتبهي لا تحلمي إلا بي".
رددت لنفسها ساخرة وهي تتمتم:
"وهل أستطيع أن أحلم بسواك وأنت المسيطر على كل كوابيسي من يوم عرفتك,
أه من ذلك اليوم ليتني لم أتجمد في مكاني وأكملت طحن جسدك تحت كفرات سيارتي عندما
صدمتك في ذلك اليوم, كم يبدو بعيداً وكأنه منذ مليون سنة وليس منذ ثلاثة أشهر
فقط".
اضطر رشيد لأن يصيح بها بقوة كي تكف عن الصراخ:
"رينا اهدئي سيكون كل شيء على ما يرام حبيبتي".
لكنها استمرت بالصراخ الهستيري:
"لقد قتلته يا رشيد قتلت الرجل, أنا قاتلة!".
اضطر رشيد لأن يتركها وخرج من السيارة ليعاين الرجل ثم ذهب إليها وفتح باب
السيارة من جهتها وأمسك بوجهها الباكي بين يديه قائلاً:
"اهدئي, الرجل لم يمت هو بخير".
صاحت غير مصدقة:
"أحقاً؟ أحقاً رشيد؟".
"نعم يا عزيزتي لقد تأكدت بنفسي, ووضعته على جانب الطريق كي لا تدهسه
سيارة أخرى, هيا أفسحي لي سأقود أنا".
حدقت به ببلاهة وكأنها تحاول استيعاب ما يقول:
"أفسح؟ وضعته على جانب الطريق؟ رشيد ألن تحمل الرجل للسيارة
لنسعفه؟!".
شهق برودي بذعر:
"هل أنت مجنونة؟ هذا الرجل, لن يشكرنا لإنقاذنا حياته, فأول عمل سيقوم
به بعد أن يفيق أن يقاضينا".
صرخت ببكاء هستيري:
"أنا لا أهتم بكل ما تقول, ولكني لن أترك هذا الرجل هنا وأنا المتسببة
فيما حدث له".
أمام إصرارها في النهاية استسلم رشيد وحمل الرجل للمقعد الخلفي للسيارة
وفوجئ بروجينا تجلس معه وتضع رأسه المضرجة بالدماء على ساقها, وعندما هم بالاعتراض
نظرت له نظرة اخترقته كالسهم الحارق فابتلع اعتراضه وأغلق الباب خلفها وأسرع يجلس
خلف عجلة القيادة بعد أن تعجلته بصراخها الهستيري:
"أسرع يا رشيد وإلا قتلتك بيدي".
ثم أردفت بهلع عندما هالها الجرح النازف في أعلى حاجب الرجل الجريح:
" رشيد, الرجل ينزف بشدة أليس عندك شيء لتضميد جرحه؟".
رد رشيد بنزق:
"لا يا روجينا ليس عندي شيء فلم أعمل حسابي اليوم أنك ستصدمين رجلاً
وتحاولين إسعافه فلم أحمل في حقيبتي إلا ملابسي".
ردت بهدوء أدهشه وكأن فكرة واتتها:
"وأين حقيبتك؟".
رد وهو يقلب شفتيه متعجباً سؤالها:
"عندك في الخلف أسفل المقعد".
وجدتها تحت أقدامها فجذبتها, ولم يصدق رشيد عيناه وهو يسمع صوت تمزق فألقى
بنظرة في مرآته ثم صرخ عندما وجد قميصه القطني الغالي الثمن وقد أصبح أشلاء بين
يديها وهي تضمد للرجل الغريب رأسه بنظرات متحديه لخطيبها أن يعترض فعاد وابتلع
لسانه, تنهدت براحة عندما توقف الجرح عن النزف ثم سألت رشيد:
"هل أنت متأكد أنه غير مصاب في أي أماكن أخرى من جسده؟".
"نعم يا رينا, ألا ترين حجمه وجسده الرياضي؟ سيارة كسيارتنا العتيقة
لا تؤثر به, لذلك تعجبت من جرح رأسه هذا, أؤكد لكِ أنه سيكون بخير, لقد اقتربنا
على أي حال وإياك أن تخبري أحداً أننا من صدمناه, سندعي أننا وجدناه على
الطريق".
"افعل ما تشاء المهم أن ننقذ حياته ولا نهرب كالجبناء".
تأملت وجهه الجميل وعيناه المسبلتان برموش سوداء طويلة, وتساءلت وكأنها
تحدث نفسها:
"من أين ظهرت لي؟ من أنت؟ هل لكِ حبيبة؟ لا شك فرجل مثلك لا يكون
وحيداً أبداً, ربما لو فتحت عينيك وأري لونهما... ربما يكون أزرق أو أسود, بملامح
كملامحك تبدو كالصقر المهاب".
نظر رشيد في المرآة وسألها:
"مع من تتحدثين يا رينا؟".
ردت بحنق:
"لا شأن لك".
التفتت مرة أخرى فكتمت شهقتها بسرعة عندما فوجئت بعينيه الداكنتين الزرقة
كأعماق المحيط, كادت تنادي رشيد ولكن شيء ألجم لسانها, ربما طريقته الغريبة في
النظر إليها وكأنه.. وكأنه يعرفها, توجد ألفة كبيرة في إحساسها به, لم يتكلم وظلت
لغة الصمت بينهما تحكي قصص وروايات, قشعريرة سرت في جسدها وشعرت بالخوف الشديد
فنادت بخوف وهو تحاول إشاحة عيناها عن عينيه بصعوبة شديدة وكأن به مغناطيس يجذبها
ويرفض إخلاء سبيلها:
" رشيد... رشيد ".
نظر في المرآة متسائلاً:
"نعم حبيبتي؟".
ردت بصعوبة شديدة وكأن لسانها يعتاد الكلام من جديد:
"الــ... رجل... لقد..".
نظرت له مرة أخرى ولكنه كان مغمض العينان تماماً, راحت تهزه بيديها برفق
ولكن لم يبدو عليه أي تأثر, سألها برودي يحثها على الكلام:
"ماذا به يا رينا؟.. لقد أوشكنا على الوصول هل حدث شيء؟".
ردت بشرود:
"لا... لا شيء!!!!".
وأخذت تتساءل داخل نفسها.. هل كانت تتخيل؟ ألم يفتح عيناه وينظر لها
فعلاً..!!!!.
بعدها بلحظات كانت السيارة تخترق باحة المستشفى نزل رشيد بسرعة ونادى
المسعفين الذين أسرعوا بحمل المصاب واختفوا به خلف الأبواب المتحركة, غاب رشيد
لدقائق بينما ظلت جالسة مكانها في السيارة وذلك الشعور الغريب بالألفة نحو الرجل
الغريب يحتل كيانها غير قادرة على التخلص منه.
"رينا... رينا.. أين أنت شاردة؟ لقد تحدثت مع أمن المشفى وأبلغتهم أننا
وجدناه على الطريق, ولا شأن لنا بإصابته, هيا بنا".
أوقفته قبل أن يدير مفتاح الكونتاكت:
"رشيد..توقف".
صاح بسخط:
"ماذا أيضاً؟".
لكنها لم تجيبه وخرجت من السيارة تسرع الخطى باحثة عنه, ركض رشيد خلفها ولم
يستطع ثنيها عن عزمها, وقفا كثيراً في غرفة الانتظار حتى دخلت الممرضة تتساءل
مجيلة النظر فيمن حولها:
"المرافقين لضحية حادث التصادم؟".
بينما تباطأ رشيد قفزت روجينا من مكانها قلبها يدق بعنف حتى أنها سمعت
كلمات الممرضة بصعوبة ولكنها تبعتها في النهاية, سمعت خطوات رشيد خلفها فقالت له
قبل أن تدخل الغرفة خلف الممرضة:
"انتظرني هنا".
اعترض رشيد:
"رينا أنا لن...".
لكنها لم تنتظر حتى ينهي جملته فدخلت وأغلقت الباب بوجهه, أخذت نفس عميق
قبل أن تستدير لتجد أمامها الطبيب وقد خرج من غرفة جانبية:
"آه, أنت الآنسة التي جاءت برفقة السيد القاسمي, آدم القاسمي؟".
أجابته بتردد:
"السيد... القاسمي!!! آه تقصد.. نعم... نعم كيف حاله؟".
"لا شيء يدعو للقلق يا آنسة... السيد آدم رجل قوي وصعب الخدش".
"ولكنه كان ينزف بحدة من جرح رأسه".
"آه.. نعم هذا مجرد جرح قديم أحياه ارتطام رأسه بحدة في جسم
معدني".
"هل.. هل أستطيع رؤيته؟".
"بالطبع تفضلي أعتقد أنه مستعد للخروج الآن لا داعي لإبقائه فترة
أطول, هو في الغرفة المجاورة".
دخلت بخطوات مترددة, وتمنت لو سمعت لنصيحة رشيد من البداية عندما أصر على
أن لا تدخل, وهي تواجه الرجل وجهاً لوجه, كان أكثر خطورة وهو مستيقظ, شعرت ببريته
وكأنه رجل يفضل الحياة في أماكن مفتوحة ليشعر بالحرية, رجل مستعد للتضحية بكل شيء
في مقابل الحصول على ما يريد...
"أنا... آسفة".
لم تصدق أن هاتان الكلمتان خرجتا من فمها, فشعور هائل بانفصال جسدها عن
الواقع يتملكها خاصة وهو يحدجها بتلك النظرات التي تؤكد نظريتها عنه, ساعدته
الممرضة في غلق أزرار قميصه لتخفي الضمادات التي تحيط صدره عنها فارتفعت بعينيها
للضمادات التي تلف رأسه بإحكام, تمنت لو سمعت صوته ولكنه ظل محافظاً على لغة
العيون ويبدو واثقاً أن كل إحساس ينبعث منه يصلها بشكل أو بآخر:
"سيد آد...".
قاطعها بصوته الذي تخلل كل عصب في جسدها لينتفض وكأنه عانقها بعنف:
"آدم.. اسمي آدم, وأنت؟".
ابتلعت غصتها بصوت مسموع وهي ترد بصوت غريب:
"رينا, عفواً أقصد, روجينا".
تمتم بصوته الرجولي الرخيم الذي أخد يداعب أوتار أحاسيسها كما لم يفعل أي
رجل من قبل:
"مليكتي".
سرحت للحظات في معنى كلمته ثم سعلت لتجلي حلقها وهي تحاول إفاقة نفسها من
التنويم المغناطيسي الذي يمارسه صوته عليها:
"عفواً ماذا قلت؟".
أجابها بابتسامة تخللها ملامحه التي تشنجت من الألم وهو يحاول النزول من
على الفراش الذي يجلس عليه بدون مساعدة يدي الممرضة التي خاب أملها عندما تجاهلها:
"قلت أن اسمك يعني الملكة باللغة الايطالية, عفواً
لم أسفك؟".
عادت تحدق في وجهه الأسمر القوي وقد غابت عن الوجود مرة أخرى حتى راح
يناديها فخرج اسمها من بين شفتيه وكأنها لأول مرة تسمعه:
"روجينا.. روجينا".
"عفواً... ماذا قلت؟".
رد ضاحكاً بملامح الألم التي واكبت ضحكاته:
"كنت أشكرك على إنقاذك حياتي".
ردت بسرعة:
"في الواقع أنا التي صدمتك".
رد بابتسامة لم تتأثر باعترافها:
"أعرف".
شهقت متراجعة فأكمل:
"هل أنتما متزوجان؟ أنت وصديقك الذي كان يعانقك وأنت...".
ردت بسرعة مرة أخرى وقد تضرج وجهها بكافة ألوان الإحراج:
"لا.. هذا خطيبي رشيد".
"وكم من الأبرياء أمثالي ستصدمون بسيارتكم قبل أن يجمعكما بيت
واحد؟".
رغم مزاحه ولكن إحساسها كان يخبرها بأمور رهيبة خلف تلك النظرات القاتمة
التي لا تصلها ابتسامته الجذابة:
"سيد آدم...".
عاد يقاطعها وكأنه مصر على أن يسمع اسمه من بين شفتيها:
"آدم".
عبأت صدرها بالهواء وكأنها ستقدم على قفزة هائلة فوق هوة كبيرة
"آه.. آدم..".
دهشت عندما أغمض عيناه بقوة وكأنه يتذوق اسمه بين شفتيها، وعندما همت
بإكمال جملتها أوقفها وكأنه اكتفى بسماع اسمه منها:
"فيما بعد يا آنسة, فيما بعد سأتصل بك لأخبرك عن ما أريد".
رددت كلماته بدهشة:
"عن ما تريد!!!".
همس:
"أنت..." ثم أردف بصوت مسموع أكثر:
"لابد أن تخرجي لخطيبك وإلا انتابه القلق من أجلك, سأتصل بك فيما
بعد".
مسحت وجهها بيديها الباردتان ثم ولت ظهرها له وعادت لتستدير قائلة وهي تشير
لرأسه:
"لقد كان جرحاً كبيراً".
تعجبت عندما مرت سحابة حزن مريرة أمام عينيه وهو يرفع يده ليضعها على
الضمادة التي تغطي جرحه قائلاً بصوت متحشرج:
"لقد كان جرحاً قديماً, قديماً جداً".
هتفت بصوت مرح لتبعد شبح ذكرياته المرة التي يبدو أنها تسببت في أن
يتذكرها:
"هل تفضل لو أوصلناك معنا؟".
"لا, لقد اتصلت بسائقي ولابد أنه بانتظاري الآن, شكراً لكِ".
لم تعرف كيف استطاعت الوصول لمقبض الباب لتفتحه أخيراً وتخرج لتبتعد عن
تأثيراته الغريبة عليها...
طوال الطريق للبيت لم تفتح فمها بكلمة واحدة رغم محاولات رشيد الكثيرة
ليعرف منها ما حدث...
************************
وقف فؤاد واضعاً يديه خلف ظهره وقد زرع غرفة المعيشة جيئة وذهاباً وكلما
توقف حدج كلاهما روجينا وبرودي بنظرات نارية ثم يكمل زرعه الغرفة بخطواته المدكوكة
حتى أوقفته المربية العجوز:
"بالله عليك يا ولدي اهدأ قليلاً, ولكل مشكلة حل".
جلس منهكاً على أقرب مقعد ثم وجه سؤاله لرشيد:
"هل ما قلته منذ قليل حقيقة أم, كلمات فارغة ولدها عقلك الجامح
".
ردد رشيد بحنق وغضب مكبوت:
"أقسم لك أن هذا ما قاله لي الرجل بالحرف الواحد, قال لي سأدفع مليون
يورو وسأتزوج خطيبتك ستة أشهر فقط وإلا أبلغت عنها الشرطة لأنها المتسببة
بالحادث".
صرخ فؤاد بغضب:
"حادث؟ الحادث الذي تسببت أنت به لتهورك وحماقتك, والآن أختي أنا هي
التي ستدفع الثمن, وأنت يا آنسة لم لا تردين؟ هل هربت منك الفصاحة الآن؟".
ضمتها زوزو بقوة وهي تنظر لفؤاد شذراً:
"اتركها في حالها الآن يكفي ما هي فيه".
صاحت روجينا بعينين محمرتين بالبكاء:
"فؤاد اسمعني أرجوك, مستحيل أن يصدر من هذا الرجل مثل هذا العرض
المخزي, أقسم لك لم يبدو عليه أنه من هذه النوعية من الرجال, يا إلهي ماذا
سأفعل؟".
ركع رشيد جوارها قائلاً بعزم وتصميم:
"لن يفرقك عني مخلوق يا رينا, سأذهب للشرطة بنفسي وأعترف أني المتسبب
بالحادث لا أنتِ, بذلك لا يجد ذلك الوغد ما يهددنا به ولتذهب ملايينه
للجحيم!".
*************
رواية أمِيرة أحِلامي
