الفصل الثالث
الزواج من العدو
***************
صبت كأسها الأخير دفعة واحدة وتمنت لو يحرق كل ذكرياتها كما يحرق سائله
الذهبي جوفها, والذكريات تعود مرة أخرى تجتاح تلك الأركان الظليلة من عقلها التي
أقسمت بعد هروب رشيد ألا تفتحها لسواه, نعم لقد هرب بعد أن اقتحم آدم القاسمي
عليهم بيتهم في ذلك اليوم بعد لحظات من إعلان رشيد عن الحل الأمثل لحل المشكلة,
ولم يقل الكثير ولكن كلماته تركت الأثر العميق في نفس أخيها الكبير وفي مربيتها
وحتى رشيد, رغم أن تلك الكلمات نفسها لم تؤثر بها قدر ذرة, فبعد أن سمح له فؤاد
على مضض بالجلوس ليحاول إيجاد قناة للتفاهم معه:
"سيد القاسمي"
رفع آدم يده ليمنعه من الكلام قائلاً بنبرة سلطوية زادت من جنونها:
"لم آت إلى هنا لأسمع يا سيد سيوفي, بل لأوضح أمراً واحداً, في الواقع
أمرين, الأول, أن روجينا ستظل آمنة من أي حقوق زوجية قد يحق لأي زوج المطالبة بها
مدة الستة أشهر لزواجنا, ثانياً لست على استعداد للتفاوض في أي شرط من الشروط,
سأدفع للسيد رشيد السيوفي المليون يورو المتفق عليها في مقابل ألا أبلغ الشرطة عن
الآنسة".
رد فؤاد بحنق بالغ وهو يمسك نفسه بصعوبة من أن يهجم عليه محطماً أنفعه
المتعالي:
"ألا ترى أن شروطك مجحفة للغاية سيد آدم, عرضك المخزي لأن تستأجر أختي
لفترة من الوقت وأن تفرق خطيبين من أجل زواج مشروط كهذا, لن أكون مهذباً وأقول أن
بإمكانك أن تأخذ عرضك هذا..".
عاد آدم وأوقف سيل كلامه الغاضب بحركة يده:
"عرضي هذا لمصلحة أختك أولاً لو نظرت له من وجهة نظر مغايرة, كمصلحتها
مثلاً, أي حياة تتوقع لابن عمك هذا أن يهيئها لها بمستواه المالي المتدني هذا,
سأمنحه المبلغ والستة أشهر ليثبت جدارته بالزواج بها".
صرخ رشيد لأول مرة:
"أنت مجنون!!".
تجاهله آدم وهو يكمل:
"سأحافظ عليها, وعندما تنتهي الفترة يكون قد هيأ لها السكن والمعيشة
الملائمة لها, هل تتخيل أختك الأميرة المدللة في عهد أبيها أن تغسل وتطبخ وتنهك
جمالها في رعاية أولاده, أعتقد أنها بحاجة لرجل يقدرها أكثر من هذا".
تمتمت روجينا مصدومة:
"أنا لست مصنوعة من السوليفان, فؤاد أنت لا...".
نهض آدم معلناً انتهاء اجتماعه الذي فرضه بحضوره الطاغي:
"غداً في مثل هذا الوقت سأنتظر منك مكالمة هاتفية يا فؤاد وأنا واثق
من حصافة عقلك, بالمناسبة نسيت أن أخبرك أنني سأقدم لها قصر النرجس كهدية زواج
وبإمكانها الاحتفاظ به بعد الطلاق".
قفز رشيد من مكانه ليلحق بالرجل ويسأله لاهثاً قبل أن يخرج من الباب:
"انتظر, ما يضمن لنا أنك لن تلمسها كما تقول؟".
شمله آدم بنظرة محتقرة ثم قال:
"كلمتي".
وانصرف..
صوت إغلاق الباب كان آخر صوت سمع في غرفة المعيشة, عدا نبضات قلوبهم التي
خيل إليهم من شدتها أن الجيران سيسمعونها ويظنوها هجوم مسلح على بيتهم الآمن, وقد
كانت كذلك حتى دخل آدم القاسمي حياتهم.
**********************
"رينا.. رينا يا ابنتي هل أنت سارحة مرة أخرى في عالمك؟".
رسمت ابتسامة صماء لم تبتعد عن حدود شفتيها وهو تومئ لمربيتها:
"أنا هنا يا زوزو, ماذا تريدين؟".
"زوجك يطلبك لتودعي معه الضيوف".
رددت روجينا خلفها بدهشة:
"زوجي, آه نعم زوجي, حسناً يبدو أن الواجب ينادي, رجاءاً أمسكي بكأسي
الفارغ, لألبي نداء... زوجي".
هزت المربية رأسها بألم وهي تبتعد عنها تضع القناع الزائف الذي تخدع به
الجميع ولكنها لن تخدعها أبداً هي التي ربتها بعد ولادتها بأسابيع قليلة.
"زوزو, هيا بنا حان موعد ذهابنا لنترك العروسان".
التفتت له العجوز تحدج محدثها بنظرات نارية:
"هل ضميرك مستريح سيد فؤاد؟".
شد قامته وهو يجيل النظر في جدران القصر الشامخة والسقف العالي المتخم
بثريات من أفخر أنواع الكريستال عدا عن اللوحات الأثرية التي زينت الجدران, والتحف
الخزفية المتناثرة في كل ركن من الأركان, ثم رد بصوت عالي النبرة وكأنه يحاول
إقناع نفسه قبل محدثته:
"انظري حولك يا زينب, لقد عادت أميرة السيوفي لقصرها, عادت لمكانها
الأصلي الذي هو حقها بالميلاد وأخذ منها, هنا ستعيش كما قدر لها أن تعيش, بين هذه
الجدران ستجد السعادة الحقيقية".
قلبت العجوز شفتيها امتعاضاً:
"ما أعرفه أنك خنتها قبل أن يخونها ذلك الجبان بهروبه المخزي".
"لقد أراد مثلي صالحها, لذلك لم يأخذ المليون التي عرضها عليه آدم,
وفضل أن يقضي الستة أشهر القادمة في بناء الحياة التي تستحقها بكده".
هزت رأسها قائلة بألم:
"ما تستحقه هذه الأميرة الضائعة هو الحب أكثر من أي شيء آخر".
************************
وقفت مكانها كأحد التحف الإغريقية المنتشرة في أنحاء القصر بعد انصراف زوزو
فؤاد آخر ضيوف حفل زفافها, أغلق الخادم الأبواب, خيل إليها أنها تسمع صدى إغلاقها
وكأنها داخل مغارة مظلمة, وصوت صدى خطواته يقترب من خلفها بهدوء حتى توقف على بعد
خطوتين فقط, وجاء صوته العميق, ربما هي الصدمة, لأنها شعرت بالخدر يغزو جسدها مع
كل خطوة يقترب فيها منها, مع تزايد إحساسها بانعدام الحياة وكأنها فقدت كل ما
تتطلع إليه فيها.
"أخيراً, أنت ملكي".
استدارت على محورها لتتطلع إليه, كانت تنبعث منه طاقة مغناطيسية رهيبة
تجذبها إليه, قاومت هذا الشعور بمعركة ناجحة مع نفسها وهي تتطلع إليه بنظرات فوقية
وتماسكت, عدا عن وسامته الفائقة كانت الرجولة الحقة تنضح من كل خلية في جسده
الفارع, وشعره الأسود كالحرير ممشط للخلف لامعاً وكثاً, وعيناه سوداوان جذابتان
يعلوهما حاجبان طويلان أسودان, كان منظره الفوضوي يزيد من قوته وجاذبيته فرباط
عنقه المحلول وقميصه المفكوك الأزرار حتى صدره الذي برز أسمر مشعر بشكل لم تعهده
فيه من قبل بالهمجية وكأنه...
نظرت إليه مجفلة وقد تملكها نوع غريب من الإثارة وساورها إحساس حسي أنها
طالما كانت تنتمي لهذا الرجل, كتفت ذراعيها حول صدرها لتحمي نفسها من الانسياق خلف
أحاسيسها الغريبة قائلة بلهجة ترفع وكأنه لا يعنيها في شيء:
"أنا متعبة وأود لو أستريح من فضلك, هلا طلبت من الخادمة أن ترشدني
لغرفتي, من فضلك".
رفع أحد حاجبيه ساخراً:
"ولم الخادمة وأنا هنا؟ تفضلي يا سيدة قصر
النرجس لأرشدك لجناحك, القصر قصرك وكلنا ضيوف عندك".
رفعت رأسها لتتجاوزه متجاهلة سخريته المبطنة, ولم يمهلها لتعرف ما يحدث لها
عندما التفت يداه حولها ليحملها وكأنها عصفورة صغيرة بين براثن أسد متوحش:
"لا تعترضي يا عروسي فلا أعتقد أن أي عروس في تاريخ هذا القصر الحافل
منذ قرون صعدت فيه أي واحدة منهن على قدميها لمخدعها".
تجاهل اعتراضاتها الواهنة التي ما لبثت أن ماتت في مهدها, ولم يتركها إلا
أمام الفراش الأثري ذي الأربعة أعمدة وقد أسدل فوقه حرير هندي مقصب بخيوط ذهبية,
تمسكت بأحد الأعمدة منتظرة حتى يتركها وتنفست الصعداء عندما سمعت صوت إغلاق الباب
وعادت أنفاسها تحترق بصدرها عندما التفتت لتجده واقفاً خلفها بنظراته الساخرة:
"أنت.. أنت ماذا تفعل في غرفتي؟".
رد بصوت أجش:
"تقصدين غرفتنا, أليس كذلك يا عروسي الجميلة؟".
توترت ملامحه موشكاً على العبوس للحظة عندما لاحظ شحوبها الشديد وكأنها على
وشك الإغماء, ما لبث أن استرخى دون أن يبتسم قائلاً:
"هل من اعتراض؟".
حاولت أن لا يبدو عليها ما تشعر به من رعب هائل:
"أنت على حق, أنا زوجتك, ويحق لك التواجد في المكان الذي أتواجد
به".
اشتد التحذير في عينيه قائلاً بحدة:
"يحق لي أكثر مما يدور بخيالك جموحاً, يحق لي تجريدك من ثيابك لو شئت,
فأنت ملكي أصنع بك ما أشاء لدرجة أن يتقلب والدك في قبره حزناً خاصة عندما يعلم
أخيراً أن أميرته المدللة أصبحت ملكاً لآدم القاسمي, خادمه الحقير الذي انهال عليه
ضرباً بالسوط عندما لمحه يتلصص بالنظر على أميرته, أما زلت لا تذكرين خادمك الأمين
الذي كان يتبعك في صغرك كظلك وأنقذك من الموت مرة عندما جمح بك جوادكِ؟ وكانت هذه
مكافأتي".
لمس جرحه الملثم أعلى حاجبه فشهقت واضعة يدها على فمها متراجعة وهي تهز
رأسها بشدة:
"لا يمكن, لا يمكن أن تكون أنت هو...".
"هو أنا, وها قد حققت حلمي وأصبحت ملكي, وكم أتمنى لو كان والدك على
قيد الحياة الآن ليراك وقد أصبحت ملكي أنا, ملك خادمه الذي استكثر عليه مجرد النظر
لجمالك الفتان, وهذه كانت أقصى أحلامي, حتى تحطمت بسوطه الظالم وصوته ما يزال يرن
في أذني, أميرتي هي أبعد من أن تحلم بها أيها الخادم الحقير, تمتعي بالإقامة بقصرك
يا مليكتي, وتمتعي بكل ما أوفره لك من متع الحياة, حتى تشتعل النار بقبر والدك
غيظاً وكمداً خاصة عندما أقرر أن أذيقك من هوى عشقي".
انهارت على الفراش مذهولة من هول ما سمعت, أيعقل هذا, آدم الخادم الوضيع
الذي كان ينحني تحت قدمي ليتمنى رضاي فقط وابتسامة شفقة, أصبح زوجته!! ألهذا
تزوجني؟ ليحقق انتقامه فقط؟.
رفعت رأسها لتتأمل وجهها الباكي في المرآة, بدا وجهها كساحة معركة من تبرجها
الذي أشاعت فيه دموعها السخية الفوضى, لقد حقق انتقامه ووصل لمراده عندما استطاع
التفرقة بينها وبين خطيبها وإيهام أخوها أنه العريس المنتظر, والآن ستقضي باقي
حياتها مع رجل تحتقر نفسها كلما نظرت بوجهه وتتذكر في كل لحظة من حياتها معه أنه
سبب تعاستها, وهذه هي نهايتها, نهاية أميرة قصر النرجس المدللة.
رواية أمِيرة أحِلامي
