" " " " " " " " رواية المجرمة التي أحبتني (الفصل الخامس)
📁 آحدث المقالات

رواية المجرمة التي أحبتني (الفصل الخامس)


رواية المجرمةِ التيِ أحبتنيِ الفصل الخامس

الفصل الخامس

في تلك الليلة تبادلا التقارير في الحمام عن ملاحظات كل منهما وأخبرها أنه عطل الكاميرا.. كما أنه دخل غرفة الألمانيان ولم يجد ما يثير الشبهات... ولكنه ترك ورقة في غرفة البروفسيور ليلتقي معه خارج الفندق في المساء...

قبل أن يغادر الحمام قالت بعد تردد:

ـ أدم ... نورمان كان يحاول مغازلتي من أسفل المائدة...

لحظة صمت كان يدرس خلالها كل خياراته ثم أومأ لها قائلاً ببرود:

ـ هذا جيد... حاولي استدراجه للمزيد... ربما تستطيعين معرفة معلومة ما.... الرجل يكون في أقصى حالات ضعفه عندما يكون في حالة حب...

هزت رأسها بجمود كي لا يظهر عليها مقدار انكسارها:

ـ حسناً... أنت على حق... سأبدأ معه من الغد... كما أعتقد أنك ستحاول استمالة هيلجا...

أومأً:

ـ وسارة أيضاً... لم أخلى ساحتها من الشكوك بعد...

هزة أخرى كلفتها الكثير ثم بدأ بالاستعداد للخروج من الحمام عندما لاحظ عدم ملاحقتها له...

ـ سآخذ حمام حار... أحتاج لتصفية ذهني.

أومأ بصمت وترك لها حرية الانفراد بالحمام...

فتحت الدوش البارد لتتلقى زخات مثلجة على رأسها تلعن نفسها في كل لحظة لوقوعها في حب مستحيل... من طرف واحد...

أخذت تضرب على حائط الحمام بقبضتيها بشهقات مكتومة وإصرار متزايد على استعادة نفسها...

وقفت أمام المرآة تحدق بعينيها بغضب شديد والماء يتقاطر من شعرها إلى جسدها العاري... وبحدة بدأت بتمشيط شعرها ثم جففته بالمجفف ولفت خصلاته لتستعيد بعض من شكلها السابق... في النهاية كانت ينقصها الصبغ الحمراء وبعض الزينة الصارخة لتعود كعاهرة بينيتو...

أخذت نفس عميق متوتر... الآن... لابد أن تتصرف مثلها... وأهم ما يميزها أنها كانت امرأة بلا قلب... التفتت لتحدق في المرحاض... واستمرت بالتحديق لبضع ثوان.... ثم جذبت رافعة خزان المياه.. وتنهدت براحة مرة أخرى وهي تغادر الحمام....

راقبها على مدار يومين ليستعيد ذكريات الماضي الموجعة..

حركاتها... ضحكاتها.. التفاتاتها... حتى همساتها وحركات عينيها المتلاعبة.... وقع كل ذكر في المكان في هوى غنجها ودلالها ورقتها... حتى البروفسيور الذي ظنه في مأمن منها كانت عيناه تتابعها من بعيد وكأنه يحلم بامتلاكها.... كانت سارة الوحيدة السعيدة بما تفعل فهذا يعني خلو الطريق أمامها للوصول لطريدتها.. "أدم ".

كانت الأمور تسير على ما يرام حتى اليوم الثالث.... في المساء أقنعها نورمان أن يلتقيا خارجاً على البحيرة... وافق أدم بجمود:

ـ وهذا يوافق مخططاتي... أقنعت هيلجا أن ألتقي بها في حجرتها... لنرى أي معلومات سنستطيع استخلاصها منهما...

هزت أكتافها بلا مبالاة:

ـ لا تقلق بشأني في هذا الأمر.... أنا أعرف ماذا أفعل... أتمنى أن توفق أنت في مهمتك...

ثم ضحكت متابعة:

ـ أعتقد أن مهمتي أهون بكثير من مهمتك... لا أعرف تماماً كيف بإمكانك إخضاع امرأة كهيلجا...

ـ تماماً كما تفتنين رجال كنورمان.. وحتى العجوز هاريس... أظننا بعد لقاءات الليل سنضع أيدينا على موضع الخطر...

ـ هل تسمح؟... سأبدل ثيابي...

هم بقول شيء ما... ثم تراجع وهو يغادر الحمام في صمت...

خرجت بعد دقائق ترتدي ثوب مشجر كاشف عن كتفيها وجزء كبير من صدرها... بدون خصر وثنايا القماش تنزل من كشكشات أسفل صدرها وحتى ركبتيها... وأكملت أناقتها بارتداء صندل كاعب... هم بالاعتراض عندما قفزت لأحضانه ضاحكة:

ـ حبيبي... سأغيب عنك ساعة واحدة فقط... لن أتأخر..

أمسكها من كتفيها بعينين تبرقان بتوهج حاد... لم تفهم سر غضبه عندما ضمها لصدره هامساً في أذنها:

ـ كان من الأفضل لو التقيت به عارية...

قبلته على وجنته وهي تسرع للباب:

ـ وأنت أيضاً حبيبي.. أتمنى لك وقتاً ممتعاً...

وأعطته قبلة مثيرة في الهواء وانطلقت في طريقها...

في حياته كلها لم يشعر بالرغبة في تحطيم شيء كما يحترق للحاق بها وتحطيم كل عظمة في جسدها النحيل...

سارت مشغولة الفكر.. لقد رأته بهذا الشكل ذات مرة... عندما ظنها عاهرة بينيتو... ورغب بحمايتها... لماذا يتصرف على هذا النحو الآن؟... لا شك أنه مصاب بلوثة فكل تصرفاته تناقض بعضها...

ـ هل تفكيرك مشغول بي؟.

التفتت متفاجئة:

ـ نورمان.. أهذا أنت؟.

أجابها بغرور:

ـ هل تنتظرين أحد سواي؟.

ـ لا... لقد أخفتني... ظننتك زوجي...

أعاد نورمان شعره الأشقر للخلف بأصابعه بحركات مقصودة:

ـ دونا حبيبتي.. كيف تشبهيني بهذا الجلف!...

ـ هو زوجي يا نورمان ولا أرضى أن تطلق عليه ألقاباً...

سألها بحيرة وغموض يشكل ملامحه:

ـ لو كان هذا شعورك حياله.. ما الذي تفعلينه هنا معي؟.

ـ هذا ما جئت أخبرك عنه... كي تكف عن ملاحقتك لي... أنا امرأة متزوجة... وأحب زوجي... بحق السماء نحن زوجان في شهر العسل!... ماذا تظن أنك فاعل بمثل هذه التصرفات؟...

سألها بكبرياء:

ـ تبدين شديدة الثقة بنفسك...

ـ أنا كذلك.. أرجوك.. ابتعد عني...

أومأ باحترام:

ـ أقدر شجاعتك... وعاطفتك.. وأتمنى لو كان يبادلك صدقك و... إخلاصك...

راقبته يمد إصبعه ليتبع حمالات ثوبها الرفيعة ليقشعر جسدها للمسته الخشنة... ولكنها ظلت ثابتة مكانها لم تتحرك ولا للاحتماء من نظرة الجوع والرغبة المفترسة التي يغلفها بابتسامته الذئبية.. وتابع:

ـ انتبهي لنفسك يا دونا... سأحزن لو أصابك أي مكروه...

ظلت كلماته تدور في رأسها حتى وصلت غرفتها... ارتعشت عندما وجدت نفسها وحيدة.. هذا يعني أن أدم ما يزال في ضيافة هيلجا... وربما نورمان في طريقه لهما الآن... أسرعت تتصل به من الهاتف المحمول... رنين... بدون رد.... ازداد قلقها حدة بمرور الوقت...

وازداد تلاعب الشيطان بأفكارها مع كلمات نورمان التي رأتها في ضوء تأخير أدم وكأنها تهديد واضح ومباشر... حركات مكوكية من الباب للشرفة... تحاول الاستنباط من أي جانب... فلو أن نورمان ضبط أدم عند زوجته لا شك أن أصوات شجارهما سترتفع.... لعلها تستطيع التصرف حينها... ولكن هذا الصمت المريب كان يزيد من خوفها ومن سواد أفكارها...

ماذا لو تأكد أدم أن هيلجا ونورمان جاسوسان؟.... هل سيقتله نورمان وهيلجا وسيدعيان في الصباح أنهما لم يشاهداه؟... وصلت بأفكارها لحد الجنون عندما قررت أن تهب لإنقاذه حتى لو ضحت بانكشاف أمرهما.... ولكن المقبض تحرك في يدها قبل أن تديره لينفتح الباب وتجد أدم أمامها بشحمه ولحمه...

لم تستطع منع نفسها من القفز لأحضانه والتعلق بعنقه بتمتمات شكر وتنهيدات راحة.. تحركت يداه على خصرها بتملك وعيناه تزوغان على جسدها الملتصق به خاصة وهي لا تزال ترتدي ذلك الثوب المثير....

ارتجفت عندما ذكرتها نظراته الذئبية الجائعة بنظرات نورمان... حاولت التراجع بارتباك ولكن ذراعه أغلقت على جسدها وهو يتقدم ويدفع الباب بكعب قدمه.. ازدردت لعابها بصعوبة محاولة نزع يداه عن جسدها بدون أن تصدر صوت قد يفهم منه المراقبون ما يحدث... فهتف أدم بصوت خشن غريب وهو يدفعها للالتصاق أكثر به:

ـ ماذا بك يا زوجتي العزيزة؟... أتنفرين مني؟... ألا تجدينني بجاذبية نورمان؟...

شهقت هامسة بصوت منخفض:

ـ أدم .. ماذا تقول؟... أدم !!...

الآن فقط تأكدت أن تصرفاته غير طبيعية فهو لا يلتفت إليها... كان مترنحاً والكلمات ثقيلة على لسانه وكأنه مخدر... وزاد الأمر خطورة عندما بدأ يجردها من ثوبها... تمسكت به محاولة السيطرة على ما يفعل ولكنه دفعها بخشونة زائدة لتسقط على الفراش وتبعها ليقفز فوقها ويمنعها من أي حركة... أمسك بيديها اللتان تحاولان دفعه وكبلهما فوق رأسها ليطحن جسده بجسدها قائلاً:

ـ لا فائدة من هروبك يا حلوتي... للزوج المسكين نصيب من هذا اللحم الطيب...

تأوهت هاربة من قبلته ولكنه وصل إليها ليفرض عليها قساوة شفتيه المحطمة... انتهك في بضع لحظات انتهاكاً صريحاً لكل أحاسيسها وعواطفها... حاولت دونا تجاهل ما يحدث لها من جيش مشاعر من عناقه القاسي المستبد... وكان عذاباً من نوع خاص... عذاب تكرهه وتستلذ كل لحظة فيه وتتمنى لو تصمد للأبد... ولابد من مقاومته لتظل على احترامها لذاتها... فلن تحترم نفسها لو وقعت في هذا الفخ الجميل مرة أخرى...

فصرخت بانفعال غير أبهة لمن يستمع إليهما:

ـ أدم .. أرجوك... ابتعد عني..

رفع رأسه لاهثاً وعيونه تتفجر بمشاعر الرغبة:

ـ أعرف أن عملك أهم لديك من أي شيء... حتى من مشاعرك... لم لا تعتبري ما يحدث بيننا جزء منه... جاريني وأضمن لك ترقية فور عودتنا... أعتقد أنك ستقدرينني كثيراً الآن...

حدقت به بغضب كارهة كل لحظة ضعف تخذلها... كارهة إياه بكل لحظة حب جارفة اكتسحت كل خلية في جسدها من تلك الليلة التي رأته فيها يراقصها بدون أن تعرفه أو يعرفها...

حررت يدها بصعوبة منه لتصفعه صفعة مدوية لا شك أن صوت رنينها على وجهه وصل لكل من يستمع إليهما الآن ولكنها لم تبالي... أعاد وجهه لها بابتسامة أكدت لها أنه ليس في وعيه فعلاً... وأمسك بيدها التي صفعه وطبع على راحتها قبلة ثم أعادها مكبلة فوق رأسها هامساً قبل أن ينقض عليها بافتراس:

ـ أخذت حقك... والآن وقت الدفع... لآخذ حقي...

توسلت له بهمس ولكنه كان كآلة تسعى لإشباع رغباته الجنسي فقط... حتى هي لم تستطع إنقاذ نفسها منه... فقد استخدم معها كل قوته الغاشمة مسبباً لها الكثير من الرضوض حتى استسلمت تماماً....

لن يغمض لها جفن طوال الليل... بعد أن أخذ وطره منها استسلم لنوم عميق وظلت هي مسلمة عيناها للسقف حتى غمرت الشمس بأشعتها الغرفة... تأوهت بصمت وهي تتحرك لتنزل من الفراش... استرقت نظرة باتجاهه فوجدته مستغرق في نومه ببراءة وكأنه لم ينتهكها بأبشع الطرق....

انحنت تلملم بقايا ثوبها الممزق ودخلت الحمام.... ملأت حوض الاستحمام بالمياه وغمرت به جسدها المرضوض لعلها تشعر بالراحة.... كادت تغفو عندما فتح الباب ليدخل منه محدقاً فيها باستغراب شديد... غطست لأسفل بارتباك... فتراجع غاضاً بصره:

ـ آسف... لم أعرف أنك هنا... ظننتك بتِ بالخارج...

ضاقت عيناها لمحاولة فهم مقصده... حتى سألها:

ـ متى عدتِ؟... أكاد لا أتذكر أي شيء عن الليلة السابقة... لم أعرف كيف وصلت لفراشي...

جف حلقها وهي تحاول سبر أغواره ولا تدري إن كان يدعي النسيان أو يتنصل من فعلته... همت بالرد عندما تجمد كل شيء حولها من نظرته الجليدية على شيء ما على الأرض...

تابعت نظراته لتعرف السبب.. تقدم وانحنى ليلتقط الثوب الممزق... للحظات طويلة جداً ظل يحدق ببقاياه ثم اعتصره بين أصابعه ورفع رأسه إليها بنظرات اتهام صارخة:

ـ هل... هل نورمان من فعل هذا؟...

ضاعت منها الكلمات وهي تتخيل بالتصوير البطيء كل لحظة قاستها بين ذراعيه.. وكرامتها المهدورة وأنوثتها المذبوحة... تخلت عن حذرها وهي تعتدل لتحدق فيه تحشر الاتهامات في فمها لتقذفها به وتضعه أمام نفسه في المرآة...

اقترب منها عندما تعلقت عليناه بذات النظرة الجليدية على شيء آخر... جلس على حافة حوض الاستحمام يتأمل الرضوض الزرقاء المنتشرة على جسدها... وتمتم من بين أسنانه:

ـ ما هذا؟.

أحرقتها الدموع وهي تنهض بدون حياء هذه المرة أمامه لتستعرض كل جسدها بكل الرضوض التي تغطيه قبل أن تلفه بالمنشفة وتخرج من الحوض قائلة بدموع مكبوتة:

ـ ماذا تظن؟.

أنزل يده القابضة على بقايا الثوب ونكس رأسه قائلاً بصوت هادر:

ـ لهذا كنت تبتعدين عني؟... لهذا...

ثم رفع رأسه متابعاً بنبرة اتهامية حادة كنصل سكين مسموم:

ـ لأنني لا أستطيع مبادلتك هذا النوع من الحب المريض؟.... لهذا السبب... أنتِ... أنتِ...

وكأن الكلمات فقدت معناها فرفع بقايا الثوب وألقاها في وجهها مع نظرات خالصة من الاحتقار ثم غادر الحمام بآخر كلماته:

ـ ليلة غد ستكون آخر ليلة... وآخر ما سيجمع بيننا كشركاء.. من الأفضل أن تطلبي نقلك لأبعد مكان على سطح الأرض كي لا تقع عيناي عليكِ مرة أخرى...

*******************************

كانا على أتم الاستعداد... بعد الفجر بقليل انتفضا لسماع طرقات الباب بالطريقة المتفق عليها... فتح الباب بحذر ليدخل البروفسيور.. تأملهما بثيابهما السوداء حتى شعورهما المغطاة بقلنوسات.. ثم مد يده بالحقيبة لأدم :

ـ هذا كل شيء... المادة... وكل الأوراق المتعلقة بها..

سأله أدم وهو يسلم الحقيبة لدونا:

ـ هل أنت متأكد؟... ألم تعمل نسخة لأي ورقة؟.. تذكر ربما تكون قد نسيت.

ـ لا... لقد كنت حذراً في هذا الأمر... كل ما يتعلق باختراعي هنا.... لو لم أكن مراقب لأوصلته بنفسي لمنظمة ناسا... ولكن سفري بدونها سيكون أكثر أماناً... هل ستكونان بخير؟.

أومأ أدم :

ـ لا تقلق بشأننا... نحن مدربان على الخطر..

نظر البروفسيور لدونا بنظرة قلق:

ـ وأنت يا دونا؟... لا تبدين لي بخير مؤخراً.

تجاهلت نظرة أدم الهازئة وهي تومئ للرجل:

ـ أنا بخير... شكراً لك.. آمل أن نلتقي قريباً في ظرف أفضل...

صافحها بقوة بكلتا يديه:

ـ أنا سعيد بصداقتك... شكراً لكِ... لكما... أراكما قريباً...

بعد انصرافه بدأ أدم بالتأكد من جمع كل أغراضهما ثم أشار لها بصمت:

ـ هيا بنا...

أوقفته:

ـ هل أنت متأكد أن الجميع نائمون؟...

ـ نعم.... لقد وضعت لهم المخدر بنفسي في الحلويات التي وزعتها عليهم بمناسبة انتهاء شهر عسلنا... وتأكدت أن الجميع أكل منها... هيا بنا قبل أن يستفيق أحد منهم...

تبعته بصمت حتى السيارة... لم تطمئن حتى بدأت كفرات السيارة تنهب الطريق عائدة للديار....

هذه المرة صمم على أن يقود كل المسافة وبدون أي استراحات... لم ترغب باستراق حتى النظرات له... فكل ما تحمل له من ذكريات كشوكة في الخاصرة توجع بدون نزف...

كل كلمة وكل لمسة كألم ماضٍ... كانت تشعر بكل جسدها متيبس من الرضوض.... مع نظرات أدم غير المحتملة المشبعة بكافة أنواع الاتهامات... كانت قد وصلت لنهاية احتمالها....

تمنت لو تستطيع الهروب الآن... ولكنها مكلفة بتوصيل الحقيبة.. ولن تستطيع التنصل من هذه المهمة أبداً... وكأنه هو أيضاً وصل لآخر احتماله فقد تجاوز السرعة المحددة على الطريق ربما لأنه لم يعد يحتمل حتى وجودها في مكان واحد معه....

أصابتها تلك الفكرة باكتئاب متزايد... بالكاد استطاعت التجلد كي لا يظهر عليها أي شيء من مشاعرها المبعثرة... حتى وصلا لمبنى الإدارة... سارا بخطوات عسكرية متزامنة مع بعضها.. كان القائد بانتظارهما... سلمته دونا الحقيبة بوجه جامد تماماً كوجه أدم ...والقائد بدوره سلم الحقيبة لأحد الرجال كان يقف بجانبه يرتدي بذلة سوداء ونظارات قاتمة...

فتح الحقيبة واطلع على محتوياتها... ثم نظر للقائد:

ـ كل شيء على ما يرام...

وقف القائد وهنأ ضابطيه:

ـ لقد أثبتما جدارة منقطعة النظير... تستحقان مكافأة مالية كبيرة...

أجلى أدم صوته مقاطعاً:

ـ عفواً سيدي... لو تسمح لي.. أطالب بترقية استثنائية للنقيب دونا... لأنها بذلت مجهوداً خرافياً لإتمام المهمة.. وهي تستحق أكثر بكثير من مكافأة مالية.. وأنا سمحت لنفسي ووعدتها بترقية...

صلت شاكرة بصمت أنها ما تزال محتفظة بنظاراتها السوداء على عيناها وإلا لانفضح أمرها ورأى أدم والقائد وذلك الرجل الغامض عيناها المغرورقتان بالدموع والمهددة بالانهيار في أي لحظة...

ربت القائد على يدها بحماس:

ـ شهادة لابد أن تعتزي بها أيتها النقيب وسأرسل لرؤسائي فوراً لاعتماد الترقية... أحسنتما...

بصعوبة بالغة استطاعت النطق بكلمتين فقط:

ـ لو تسمح لي...

وأمام نظراتهم المندهشة أسرعت بالخروج قبل أن تنهار بالفعل.... ولم تعرف كيف وصلت للشارع ولكنها استمرت بالركض دون أن ترى أو تعي... أخيراً غلبتها الأنثى الضعيفة التي كانت طوال عمرها تخشى ظهورها من أسفل القشرة القاسية التي بنتها حول نفسها....

أوقفت سيارة أجرة وأملته العنوان... لتختفي كما تمنت...

******************************

وقف ويسلر حائراً أمام صديقه:

ـ صدقني يا أدم ... لا أعرف طريقها... لماذا تساورك الشكوك بي؟... لماذا تخبرني أنا عن مكانها ولا تخبرك؟.

سأله أدم بنبرة اتهام:

ـ ربما لأنكما كنتما مقربان في الفترة الأخيرة.

دافع ويسلر عن نفسه:

ـ هراء... دونا لم يكن لها صديق أبداً.. وأنت تعرف هذا...

تنهد أدم :

ـ أعرف.. وأعرف الأسباب أيضاً.. لأن صداقتنا تختلف عن مستوى توقعاتها...

حك ويسلر فكه مفكراً:

ـ ماذا تعني؟.

ـ لا شيء... لقد علمت من القائد أنها قدمت طلب إجازة بالهاتف...

ـ وشقتها فارغة... قال المالك أنها انتقلت منذ ثلاثة أشهر ولا يعرف مكانها... لا أعلم ولكنني قلق بشأنها خاصة أن اختفائها تم بعد انتهاء مهمتكما الغريبة... ربما أنت تعلم.. فأنت آخر من رآها على قيد الحياة...

احتقنت أوداج أدم وهب ممسكاً بياقة صديقه:

ـ ويسلر.. انتبه لما تتلفظ به.. أنا ودونا لا يمكن أن يجمع بيننا أي شيء...

رفع ويسلر أكتافه:

ـ كما تقول يا صديقي... أنت الرئيس...

ـ دعك من هذه الأمور وأخبرني أين ستسهر الليلة؟.

******************************

كانت تحاول ارتشاف كوب الحليب الساخن عندما سمعت طرقات على الباب... وضعته بتنهيدة متمتمة:

ـ يبدو أن هذا الطارق متفق معي على عدم شرب هذا الحليب... لا أدري لماذا يصر الطبيب الغبي هذا؟...

أسرعت لفتح الباب بابتسامة سعيدة بالهروب المؤقت من كوب الحليب.. اتسعت عيناها بذعر حقيقي عندما رأت الشخص الواقف بالباب مستنداً على حافته يحدق فيها بابتسامة تسلية:

ـ هل ظننت أنني لن أعرف مكانك؟.

استطاعت بصعوبة أن تتكلم:

ـ ماذا تريد؟.

ـ على الباب... ألن تسمحي لي بالدخول؟.

ردت باقتضاب:

ـ لا...

كشكش أنفه ولوى شفتيه بابتسامة ساخرة:

ـ أووووه.. لقد حطمت قلبي يا دونا... أخلاقي لا تسمح لي بالدخول عنوة... ولكنني سأعطيك فرصة واحدة فقط...

رفعت حاجبيها بانتظار ما سيقوله وعلى استعداد تام للإصرار على موقفها عندما لوح بأسطوانة في يده:

ـ أتعرفين ما هذه؟ سأخبرك... عندما ظن رفيقك الغبي أنه عطل الكاميرا.. لم يعلم أن كاميرا أخرى كانت تعمل بكفاءة.. لآخر لحظة...

ارتعش جسدها وهي تتخيل ما يمكن أن يكون قد رآه ذلك المريض... حتى وصلت بأفكارها لليلة قبل الأخيرة فازدادت عيناها اتساعاً... وعرف ما تفكر فيه فهز رأسه:

ـ نعم.. وهذا أيضاً وكله مسجل هنا... لو أردت يمكنني أن...

وقبل أن يكمل كانت قد انتحت جانباً لتفسح له الطريق للدخول... مر من جانبها ومسد على وجهها بإصبعه فابتعدت ولم يمنعه من أن يعلق ساخراً:

ـ فتاة جيدة...

أغلقت الباب ووقفت خلفه تراقبه يتمشى في شقتها ويلقي باستحسانه على ذوقها وعندما اكتفت من مماطلته سألته:

ـ ماذا تريد؟.

التفت لها ولسبب لا تعرفه نظر لبطنها ثم ارتفع وجهه إليها بابتسامة خبيثة:

ـ تهانئي.. علمت أنك.. حامل...

وضعت يدها على فمها شاهقة:

ـ كيف عرفت؟... لقد عدت لتوي من الطبيب... متى وكيف..؟.

ـ حبيبتي... نحن نملك من الوسائل ما تمكننا لمعرفة كل شيء وقت حدوثه...

ردت ساخرة:

ـ ولكنك مجبر على الاعتراف أننا سبقناكم بخطوة..

ـ نعم... في تلك اللعبة الأخيرة فقط... لعبة الحلوى... من يصدق أننا نسقط في أقدم لعبة في التاريخ...

ـ ربما لأن السيدة والدتك لم تنهاك عن أخذ الحلوى من الأغراب...

اقترب منها وقد تجهمت ملامحه وأمسك مرفقها يهزها بغضب:

ـ من يضحك أخيراً يضحك كثيراً عزيزتي.. وأنا هنا لأضمن أن تكون الضحكة الأخيرة لي... وأنتِ ستضمنين لي هذا...

ـ لو كنت تصدق نفسك وتتخيل أنني قد أساعدك...

زجرها بعينين لامعتين بتوهج مرعب:

ـ سوف تفعلين يا عزيزتي وإلا....

تراجعت للخلف عندما مد يده ليضعها على بطنها... مردفاً:

ـ وإلا فقدت جنينك قبل أن تحظي بمتعة حمله بين يديك...

جفت كل نقطة دم في شرايينها وهي تحدق به وكأنها تحاول استيعاب ما يقول:

ـ أنت... بماذا تهذي؟.. أنت لا يمكنك أن تمس...

قهقه ضاحكاً بوحشية:

ـ لقد سبق وفعلت... أتذكرين تلك الحقنة التي أعطتها لك الممرضة في العيادة... وادعت أنها فيتامينات لتحافظ على صحة طفلك... في الواقع العكس تماماً...

صرخت:

ـ لا.. أنت كاذب!...

ـ من مصلحتكِ أن تصدقينني.. وإذا أردت التأكد يمكنك سؤال الطبيب وهو سيؤكد لك أنه لم يأمر ممرضته بأي حقن لك.... ولكن اطمئني... يمكنني أن أعطيك الترياق الذي سيعكس ردة فعل هذا السم... لو سلمتني حقيبة البروفسيور التي ينوي أدم تسليمها لمنظمة ناسا بنفسه... أمامك ثمان وأربعون ساعة فقط... وبعدها لن أضمن ما سيحدث لجنينك...

ثم ألقى لها بملف أصفر اللون:

ـ لست أدري كيف ستفعلينها.. هنا كل التفاصيل عن موعد خروج أدم والموعد المفترض لوصوله وكل التفاصيل المتعلقة بتسليم الحقيبة... أمامك أسبوع كامل لتستعدي..

سألته بصوت أجش:

ـ وكيف سأصل إليك؟..

ربت على كتفها بابتسامة مشوهة:

ـ أنا سأصل لك لا تقلقي بهذا الشأن... إلى اللقاء يا دونا الحلوة.

بعد وقت طويل قضته شاردة في الفراغ... لا تصدق ما حصل للتو... لولا الملف الأصفر الذي ما يزال بين يديها لظنت نفسها تعاني من أحد كوابيسها المسلطة عليها  وهي أن تستيقظ يوماً لتجد نفسها ما تزال تغفو محدقة في سقف غرفتها التي تقشر طلائها من شدة الرطوبة... والجدران التي تخفي في شقوقها تلك الكائنات الصغيرة ذات العيون اللامعة في الظلام....

وضعت يدها على بطنها تستعيد إحساسها بالسعادة الغامرة هذا الصباح عندما أكد لها الطبيب شكوكها... بالرغم من كل شيء... رأت في طفلها هذا مستقبلها المشرق الجديد.. مستقبل لن يستطيع أي مخلوق أن يتدخل ليبدل من واقعه... أو ليسلبه منها...

تمتمت بإصرار:

ـ لابد أن أنقذ ابني يا أدم .. مهما كان الثمن...

فوجئ أدم بويسلر يدخل مكتبه مسرعاً:

ـ لن تصدق من رأيت لتوي...

هز أدم رأسه بقلة اهتمام:

ـ لو كان غاندي بنفسه.. لن تثير اهتمامي...

ـ لو كان غاندي ما جئت إليك... كنت سأسرع إليه لأحصل على توقيعه... ولكن الشخصية التي رأيتها تهمك أنت...

ترك أدم القلم من يده ونظر باهتمام لويسلر لا يجرؤ حتى على التفكير بها... أجلى صوته وتصنع عدم الاهتمام وهو يمسك بالقلم مرة أخرى ليشرع في الكتابة:

ـ أياً كان... لن تفلح في...

ـ حتى لو كانت... دونا؟...

سقط القلم من يده محدقاً بويسلر محاولاً البحث في ملامح وجهه عن أي لمحة سخرية... ثم سأله بجدية:

ـ أين... رأيتها؟...

ـ كانت في طريقها لمكتب القائد..

لحظات ودق جرس الهاتف الداخلي... ارتفع حاجبي ويسلر وهو يحث أدم :

ـ هيا يا بطل.. جاءك استدعاء عاجل...

رفع أدم سماعة الهاتف واستمع لحظات ثم وضع السماعة ونظر لصديقه متنهداً... ثم سار بخطوات عسكرية باتجاه مكتب القائد.. دخل بعد طرقة ضعيفة.. أدى التحية العسكرية وتقدم باتجاه المكتب... شعر بوجودها... رائحة عطرها كانت تهفو لتغذي خلاياه التي ماتت شوقاً لرؤيتها... ولكنه لم يلتفت ليراها...

ـ سيدي...

ـ لقد عادت شريكتك من إجازتها يا أدم .. تماماً كما في موعدها لتكمل معك المهمة...

اختلس نحوها نظرة يتيمة قبل أن يعتدل ليجيب القائد:

ـ المهمة بسيطة ولا تحتاج لــ...

قاطعه القائد:

ـ هي شريكتك حتى لو كانت المهمة بسيطة ولكنها مكلفة مثلك...

ـ ولكنني ظننت النقيب بريغز طلبت النقل لإدارة أخرى...

ثم التفت لها بنظرات متهمة... نظر لها القائد:

ـ هل هذا صحيح يا بريغز؟.

أجلت صوتها:

ـ كانت مجرد فكرة سيدي... لم تأخذ حيز التنفيذ بعد... يسعدني المشاركة في أي مهمة لخدمة الوطن...

ضاقت عينا أدم وبدا كأنه يكتم ضحكة ساخرة... تم الاتفاق على التفاصيل... وانصرف الجميع يعلو الصمت هاماتهم...

كان الموقف أكثر صعوبة مما تخيلت.. لابد أن تلعب دورها بشكل جيد.. ولابد أن يصدقها أدم ... هم بالتوجه لمكتبه بدون أن يوجه لها كلمة واحدة فأوقفته:

ـ ألن تقول لي مرحباً؟.

رفع أحد حاجبيه قائلاً بتكبر:

ـ غداً صباحاً الساعة السابعة أمام مبنى الإدارة... سأستخدم سيارتي الخاصة... لن اهتم لو تأخرت... سأنطلق وحدي..

أطرقت رأسها بعد دخوله المكتب وإغلاقه الباب في وجهها... عضت على شفتها بقوة وباتت أكثر تصميماً على المواجهة....

طرقات غريبة أيقظته من نومه المتقطع... نظر باتجاه النافذة فلاحظ أن خيوط الفجر لم تشق طريقها بين سواد الليل الغطيس بعد... تحرك بحذر فعاد الطرق بصوت أعلى وكأن زائره مصر على إيقاظه.. فتح الباب ليفاجئ بمنظر غريب.. وقديم....

حمراء الشعر التي عشقها تعود إليه... بنفس الشكل والثوب.. وحتى العطر المبتذل الذي تخلل لأعماق أنفه ليعيد له ذكريات بعيدة...

تماسك أمام الإغراء ووضع يده ليمنعها من الولوج... حدقت بصدره العاري المشعر والشورت القصير الذي يرتديه أثناء النوم.. وبنبرتها المغناج:

ـ ألن تسمح لي بالدخول؟...

ـ ولماذا أفعل؟..

جالت بنظراتها على وجهه ومسحت صدره برغبة قفزت من عيناها لتفترسه:

ـ لأنك تريدني....

لفت ذراعيها حول رأسه لتدفعه نحوها في قبلة جياشة... صدمها تجاوبه السريع فقتل كل الكلمات التي ذخرتها للمناسبة... غمرها بعاطفة عطشى جافة كرمال الصحراء... عاطفة لامست قلبها فتأوه لها وجدانها وأخافتها... تأججت مشاعره بشرارات الرغبة مختلطة بالغضب وشدها إليه أكثر وظل يدفعها حتى وجدت نفسها تستلقي على فراشه...

رفع رأسه عنها لاهثاً يحدق فيها وأخذ يهزها من كتفيها بقوة صارخاً:

ـ ما أنت؟... جنية من الجحيم!... كيف توقظين كل تلك المشاعر التي قتلتها؟... كيف تستحوذين على أحاسيسي وأنت لا تستحثين منها ذرة؟... أين كنت؟.. ولماذا عدت؟.. لماذا؟...

تمتمت من خلال رموشها المبتلة:

ـ حاولت الابتعاد... ولم أستطع...

ـ ولماذا هذا الشكل والثوب؟.. والشعر؟..أتحاولين...؟.

أومأت بهزة بسيطة:

ـ نعم... أحاول... أنت أحببتني هكذا... وها قد عدت إليك...

همهم بعينين زائغتين وصوت مترنح:

ـ أنا... ما الذي..؟.

أغمضت عيناها بقوة لتطلق سراح كل الدموع المحتبسة وهو يفقد الوعي فوقها... حركته بصعوبة ليستلقي على الفراش وهي تمتم:

ـ أنا آسفة...

أخذت مفاتيح سيارته وانطلقت بعد أن ألقت عليه نظرة أخيرة..

******************************

في الموعد دخلت للقائد لتتسلم الحقيبة.. نظر خلفها وسألها:

ـ أين أدم ؟.

ـ ينتظرني في السيارة وطلب مني إحضار الحقيبة...

سلمها لها بدون أن يساوره أدنى شك.. أدت التحية العسكرية وانصرفت.. لا تصدق أن الأمر تم بهذه السهولة.... قادت سيارة أدم وهي تنظر في ساعتها... باقي ساعة واحدة ويستيقظ أدم ... لابد أن تسلم الحقيبة وتأخذ الترياق وتبحث عن مكان تختفي به....

بعد تأكد نورمان أن لا أحد يتبعها اطمئن ليتعرض سيارتها بسيارته ذات الدفع الرباعي... أنزلت زجاج النافذ وسألته بلهفة:

ـ أين الترياق؟.

ـ أين الحقيبة؟.

أشارت على المقعد المجاور فاطمئن نورمان مد يده وناولها حقنة مغلفة... سلمته الحقيبة صائحة بحد:

ـ لا تريني وجهك القميء مرة أخرى...

أمسك ذراعها:

ـ انتظري... كيف أعلم أنها هي الحقيبة؟.

ـ لا أعلم هذه مشكلتك.. حتى أدم لم يفتحها ولا نعلم محتواها... هي كما سلمها لنا البروفسيور...

نظر لأقفال الحقيبة ثم أومأ برأسه:

ـ أنت أذكى من أن تحاولي التلاعب بي.... اعتني بنفسك يا حلوة..

استمرت بمراقبة سيارته حتى اختفت بما تثيره خلفها من غبار...


حمل الان  / تطبيق حكايتنا للنشر الالكتروني واستمتع بقراءة جميع الروايات الجديده والحصريه 


الكاتبة ميرفت البلتاجي
الكاتبة ميرفت البلتاجي
ميرفت البلتاجي عضو اتحاد كتاب مصر و كاتبة في مجالات أدبية متنوعة المجال الروائي روايات اجتماعية وفانتازيا ورومانسي وصدر لها على سبيل المثال لا الحصر أماليا \ ناريسا \ ألا تلاقيا \ لقاء مع توت شاركت مع الهيئة العامة للكتاب في سلسلة ثلاث حواديت نشر لها قصص مصورة في مجلة فارس، ومجلة علاء الدين..ومجلة شليل وكتبت في مجال أدب الطفل عشرات القصص إلكترونيا وورقيا. ولها العديد من الإصدارات الإلكترونية لعدة مواقع عربية موقع مدرسة Madrasa تطبيق عصافير شركة وتطبيق Alef Education
تعليقات