كان بالغ الثقة بنفسه لدرجة أشعرتها
بالغضب وكم ودت لو تحيل الابتسامة الواثقة التي تشق شفتيه لعلامات استهجان، ولكن
شدة الألم في رأسها منعتها من أن يصدر منها أي رد غير اعتذار بسيط بكلمات مبهمة
وهي تزلف للمكتب بسرعة وتغلق الباب دونه، وبالسرعة ذاتها راحت تبحث بين قناني
الأدوية الكثيرة التي يحتفظ بها زوجها في الخزانة بيد مرتعشة، حتى عثرت على
مبتغاها أخيراً، حاولت مرات ومرات أن تقرأ التعليمات على الزجاجة ولكن من شدة
الصداع غامت عيناها ولم تستطع معها قراءة أي شيء، فأمعنت النظر في محتواها وكانت
تشبه إلى حد كبير الكبسولات التي أعطاها لها من قبل فاقتنعت أنها هي نفسها فابتلعت
ثلاث حبات دفعة واحدة واحتفظت بالزجاجة في يدها وهي تتهالك على أقرب مقعد إليها
منتظرة أن يبدأ مفعول الدواء بسرعة كما أملت، فجأة فتح الباب فتطلعت للقادم بذهول
ثم صاحت بدهشة:
"دكتور "ستيفانوس!!!"
أحكم إغلاق الباب خلفه بعد أن تأكد
أنه غير متبوع ثم توجه إليها ورغم ما تشعر به من مرض، أدركت ما تعنيه نظراته اللعوب
خاصةً عندما رفعها برقة من ذراعيها هامساً بعذوبة ورقة فائقين يدغدغها بنظراته:
" آه "أشلي".. كم
افتقدتك وكم أنا بشوق إليكِ حبيبتي".
كادت تدفعه، ولكن أعطتها يداه
المتملكتان الدفء والأمان الذي تمنته منذ عودتها، كما أثملتها كلماته ونظراته
المغازلة التي تمنت لو سمعت ولو حرف واحد منها من أقرب الناس إليها.. زوجها..
وعادت الأنثى داخلها تثور بمطالبها.. فمن حقها أن تغازل وتمتدح، وأن ترى جمالها في
عيني زوجها الذي لم تسمع منه إلا الكلمات الغاضبة والنظرات المحتقرة الرافضة
لوجودها في الحياة، كان اعتراضها تململاً بسيطاً لم يوقف ذلك الرجل المتشوق
لعناقها عندما احتضنها، فبادلته قبلاته وفي عقلها الباطن تخيلت نفسها تعانق "ليام"
ولا أحد سواه.
توقف كلاهما عن العناق المحموم
مصدومان، عندما سمعا ذلك الصوت الساخر المرتج غضباً:
"أعتذر عن المقاطعة ولكن يبدو
أنكما بحاجة لمساحة أكبر، فراش ربما.. أو دار لممارسة الرذيلة لأمثالكما من حثالة
البشر".
رد "ستيفانوس" بعد أن
تمالك نفسه وهو يسوي بذلته الثمينة بترفع:
"لمَ كل هذا الغضب
"ماجواير"، أنت تفعل ما يحلو لك مع "فراني"، هل تحكم على
المسكينة "أشلي" بالزُهد، بينما تصول وتجول مختالاً برجولتك تضاجع ما
شئت من نساء، كُن عادلاً يا رجل واعترف بحقها".
صاحت شاهقة بشحوب:
"دكتور "ستيفانوس"
أرجوك، هذا يكفي من فضلك غادر الآن".
ردد بذهول غير مصدق:
"أتطرديني أنا "أشلي"،
ولكن كيف أتركك معه؟"
صرخت بحدة متوسلة بضُعف شعت منه
نظراتها:
"دكتور، أرجوك، كل هيئة
المستشفى بالخارج، وثلاثتنا في غنى عن فضائح جديدة".
كان "ليام" يراقبهما بمزيج
من نظرات الاحتقار والقرف.
هز "ستيفانوس" رأسه
موافقاً واتجه ناحية الباب على مضض:
"حسناً.. حسناً، سأخرج، ولكن هل
ستكونين بخير... معه؟"
هزت رأسها بقوة لتحثه على الخروج،
فحدج "ليام" بنظرات نارية قابله بمثلها أثناء اقترابه منه، وقبل أن يخرج
دمدم "ليام" من بين أسنانه مهدداً:
"لو رأيتك بالقرب من زوجتي مرة
أخرى لن يكفيني إلا أن أغسل شرفي بدمك
القذر".
التفت لها بعد أن صفق الضيف الثقيل
الباب وراءه وفوجئ بثباتها أمام هياجه الواضح صائحاً بصوت مكتوم:
"ألم أحذركِ من التلاعب بي مرة
أخرى، هل تستمتعين بجمع الرجال حولك يتصارعون من أجلك".
احتدت نظراتها فجأة وتشبحت ببريق
تسلية وهي تتشدق بالرد بصوت أدهشها هي نفسها فلم يكن يشبه صوتها أبداً:
"أنا لم أتلاعب بك عزيزي، ليس
بعد.. على الأقل، كان مجرد عناق وكلمات رقيقة تشوقت لسماعها فأنا بشر في النهاية..
أمتلك قدراتي المحدودة للغاية لاحتمال كرهك اللانهائي لوجودي في حياتك، ألم تفكر
بهذا يا حضرة الطبيب البارع، أم ظننت أنه بمجرد إشارة من إصبعك سأتحول لآلة لا
تشعر ولا تحب... ولا...."
شهق بغضب بث الرعب في قلبها جعلها
تفيق مصدومة على ما تفوهت به دون وعي منها، جذبها من مرفقيها غارزاً أصابعه بقسوة
في لحمها مدمدماً:
"أنا لا أفكر إلا بشيء واحد يا
"أشلي"، أنكِ امرأة ملعونة لا تستحقي إلا الموت الذي هربتِ منه بمعجزة،
ولكن في المرة القادمة التي أراكِ فيها مع أحد عشاقك الملاعين سيكون عندي المبررات
الكافية للتخلص منكِ بما يحفظ لي شرفي الذي لوثتيه منذ حملتِ اسمي، كم من واحد آخر
واعدتِ في غرفة مكتبي أيها الحقيرة؟"
برقت عيناها بذهول وخوف وهي تهز
رأسها بألم ودموع سجينة مصدومة:
"لم أواعد أحد، جئت لآخذ حبة
للصداع عندما لحق بي ولم أشجعه أقسم لك".
لم يبدو
عليه تصديقها فتخلص منها بدفعة يبعدها عنه وراح لخزانة الأدوية وبعد نظرة متفحصة
مد يده وأخرج قنينة لوحها بوجهها ساخراً:
"هذا هو دواءك الذي أعطيتكِ منه
المرة السابقة، ولم ينقص حبة واحدة".
ارتبكت لدى رؤيتها ما يلوح به،
واسترقت نظرة للقنينة التي ما زالت تحتفظ بها في يدها متسائلة عن هذا الدواء الذي
تناولته وبقوة سحره خلصها من صداعها المؤلم.
عادت لتنتبه له بحذر يتوجه نحوها ولا
شيء غير الاحتقار في ملامحه وهو يقذف بكلماته في وجهها يتمنى لو كانت طلقات رصاص
تعيدها للموت بدون رجعة:
"لقد عبثتِ كثيراً في الماضي مع
"ستيفانوس" وأمثاله، ولكني لن أسمح لكِ بالمزيد، أم أنكِ لا تستطيعين
مقاومة رغبات جسدك، ولكني مع الأسف لا أستطيع معالجة دائك هذا بأي شكل من الأشكال،
أشعر بالقرف والقذارة لمجرد التواجد معكِ في غرفة واحدة فما بالك بـــ..."
احمر وجهها بقوة وقد قذف كلماته
الأخيرة وكأنه يبصقها في وجه إحدى بائعات الهوى، وفقدت القدرة على الاحتمال فجأة
وبكل ما تشعر به من ألم رفعت يدها لتمسح عن وجهه نظرات الكُره التي سلختها من
جلدها بصفعة آلمتها أكثر بكثير مما آلمته كما هو واضح، وشكت أن يكون قد شعر بها،
ولكنها أخرجت شياطينه من مهدها فاحتدت ملامحه واسود وجهه، شعرت أنه سيقتلها لا
محالة ولكن لدهشتها لم يفعل، ولكنه أهداها إحدى نظراته الغاضبة المتوعدة واتجه
ناحية خزانة الأدوية مرة أخرى وأخرج إحدى القناني.. سكب منها على منديل ومسح وجهه
مكان ملامسة يدها لوجهه قاذفاً إهانة جديدة في وجهها:
"حتى لمستك هذه تحتاج
لمطهر..."
شهقت بارتجافة وهو يصفق الباب خلفه بعد أن حذرها
بتهديد:
"اتبعيني فوراً ولا داعي للمزيد
من الفضائح".
استند على الباب محدقاً في ضيوفه
بعينين غام بريقها من شدة الغضب، شعر بلمسة رقيقة على وجنته فانتبه لوجه
"فراني" الجميلة مبتسماً:
"حبيبي.. ماذا بك؟ تبدو
رهيباً.. ماذا كنت تفعل في غرفة المكتب؟؟"
حاول رسم ابتسامة بصعوبة على وجهه
وهو يحيط كتفيها بذراعيه:
"لا شيء حبيبتي... حضري لي
كأساً أريد أن أنسى أمراً أغضبني".
احتدت نظراتها وهي تسأله بصوت لطيف:
"هل هي زوجتك مرة أخرى؟؟؟ ماذا
فعلت هذه المرة لتغضبك بهذا الشكل؟"
أصر على أسنانه بغضب عندما عاودته
ذكرى وجودها بين ذراعي "ستيفانوس" يتبادلان العناق:
""فراني"... من فضلك
لا أريد أن أسمع اسمها.. تعالي معي حاولي تغيير مزاجي.. لو استطعتِ..؟"
رنت ضحكتها المغناج وهي تغمز له
بعينيها:
"أترك نفسك بين يدي حبيبي وليس
مزاجك وحده الذي سأغيره.. بل..."
وهمست في أذنه ليقهقه ضاحكاً بنظرة لعوب وهو يضمها لصدره بقوة....
حدقت "أشلي" بالباب المغلق
أمامها متجمدة يدها على مقبضه... لقد سمعت كل شيء... اهتزت شفتيها ببكاء مكتوم
وأطبقت أصابعها بجمود على القنينة في يدها وبارتجاف تناولت عدة كبسولات أخرى،
ابتلعتهم بصعوبة، وهمست بدموع جمدتها الأحزان وذكريات سعيدة ماضية على شاطئ البحر
تتدافع في رأسها، مع ضحكات كانت من القلب الحنون الدافئ الذي لم تشعر وهي معه إلا
بالأمان الكامل.
تمتمت بدموع سخية وهي تضع عدة
كبسولات أخرى في فمها وتبتلعهم بغصة متمتمة:
""جيري" أنا آسفة
سامحني أرجوك تعرف كم أحب الحياة، ولكنها لا تحبني ولا تريدني فأنا مجرد شيء ليس
من المفروض أن يكون موجوداً، عُدت لأُسبب التعاسة لمن حولي، فلا أحد يريدني ولا
أحد سيحزن من أجلي".
أطبقت أصابعها على القنينة بما تبقى
داخلها ومسحت دموعها بحدة عن وجهها وخرجت لتواجه الناس المتطلعة نحوها بفضول،
واجهتهم بوجه جامد صلب الملامح، تجاهلت نظرات "ستيفانوس" العابثة واتجهت
للبار حيث صبت لنفسها كأساً شربته دفعة واحدة فانتابها شعور غريب وكأنها أصبحت
فجأة تملك جناحان لتطير بهما، وطارت معها كل الهموم والأحزان فراحت تضحك وتضحك
وعلت قهقهاتها فوق صخب الحاضرين بعد الكأس الثاني والثالث، تقدم نحوها الطبيب
الشاب الذي راقصته منذ قليل فأمسك يدها مبتسماً لضحكاتها:
"سيدة
"ماجواير"".
ردت بدلال:
"اسمي "أشلي" أيها
الطبيب الوسيم وأنت ماذا قلت لي عن اسمك؟"
"اسمي "ماثيو" يا...
"أشلي"".
"حسناً اشرب معي "ماثيو"".
وناولته كأس وقارعته الكؤوس قائلة:
"لنشرب نخب صداقتنا
الجديدة".
رد باسماً:
"بل صحتك وعودتك سالمة".
صاحت بحدة بعينين فارغتين تماماً:
"لا.. صحتي لا، فهي لا تهم أحد،
لتكون صحتك أنت أو... في صحة "ليام"، لا.. لا بل لنشرب نخباً في صحة
"فراني" الجميلة، صديقة زوجي الحميمة، ولكن لا تشرب في صحتي فهي ليست
بذات أهمية".
أمسك بيدها مرة أخري ليمنعها من شرب
الكأس الأخير:
""أشلي" يبدو أنكِ
شربتِ الليلة فوق احتمالك".
دفعته وشربت الكأس دفعة واحدة قائلة
بصوت غريب:
"هل تراقصني؟"
سألها بقلق وهو يحدجها بعين الطبيب:
"هل أنتِ بخير؟"
ردت ضاحكة:
"طبعاً أنا بخير، أم أنك خائف
من زوجي اللاهي مع صديقته الحميمة".
همس باستنكار وهو يدور معها في حلبة
الرقص على الأنغام الراقصة:
"ترفقي بنفسك واهدئي".
وضعت ذقنها على كتفه تراقب زوجها في
الخلف غارق في حديث ودي مع محبوبته ولكن دون أن تفارقها عيناه الغاضبتان، فتناولت
عدة حبات أخرى خلسة دون أن يراها رفيقها الذي سألها عندما هدأت:
"يبدو أن الأمور بينكِ وبين
الدكتور "ماجواير" لم تأخذ المسار الصحيح بعد عودتك أليس كذلك؟"
ردت بصوت مترنح:
"على ما يرام، أنا و"ليام"
على ما يرام، فقط عندما ينسى أنني عدت لأنغص عليه حياته سيكون على ما يرام".
كان صوتها آخذاً في الارتفاع بشكل
ملحوظ....
أمسكته "فراني" من ذراعه
لتمنعه:
"حبيبي انتظر.. اتركها لحالها
تفعل ما تشاء فيمَ اهتمامك..؟؟ إنها ثملة فقط".
همس بكلمات مضغوطة من بين أسنانه:
"الملعونة ستتسبب بفضائح لي مرة
أخرى... تريد أن تعيد الكّرة، سأكون ملعون لو سمحت لها".
سألته "فراني" بحقد واضح:
"ولمَ سمحت لها من البداية..
لماذا لم توقفها عند حدها؟"
أطرق برأسه محملقاً في السائل الذهبي
للمشروب يتراقص في الكأس:
"بسبب أمي.... كُنت أحميها من
أن تعرف أنها تسببت لي بالتعاسة بدون أن تقصد.. ظننت أنني لو سكت وتكتمت على
مجونها لن تصل فضائحها لأمي.. والحقيرة عرفت نقطة ضعفي... كلما واجهتها برفضي
لتصرفاتها هددتني بأن تُطلع أمي على كل تفاصيل حياتنا... خاصةً أن أمي كانت تنتظر
الطفل التي ادعت أنها حامل به وكان سبب زواجنا...
نعم "فراني" كانت أمي هي نقطة ضعفي.. لذلك أغلقت فمي وعيني عن كل ما
يحدث.. ولكن ليس بعد الآن.."
ردت "فراني" بنبرة غيرة
واضحة:
"أنت لم تحبها
أبداً؟!!!..."
شخر باستنكار:
"ولن يحدث إلا عندما يتجمد الجحيم.. سأصفي حسابي معها أولاً... وبعدها
سأكون لكِ حبيبتي.. في السراء والضراء ولن يفرقنا إلا الموت".
كان يهم بعناقها عندما شهقت وهو يضع
الكأس فارغاً بقوة على البار ويتجه نحو زوجته التي بدأ صوتها يعلو فوق ضجيج
الحفل..
ولم تشعر بما يحدث.. وكأنها تطفو فوق
الغيوم تنظر بإعجاب لرفيقها الذي بدأ يقلق من تصرفاتها.... كانت بدأت يعلو صوتها
بالغناء عندما لاحظت زوجها يخترق الضيوف متجهاً نحوها بغضب فهتف "ماثيو"
مدافعاً:
"لا أظن أنها مدركة لما تقوله
سيدي، أظنها مريضة".
ردت بصوتها المترنح وهي تدفع "ماثيو"
كي لا يقف بينها وبين زوجها:
"لا تقلق "ماثيو"،
الدكتور "ماجواير" رجل چنتل مان لن يضرب زوجته أمام هذا الجمع من الضيوف
أليس كذلك يا حبيبي؟"
شدها من معصمها ليبعدها عن الضيوف
الذين راحوا يراقبون ما يحدث بفضول قائلاً بغضب مكتوم:
"هل أنتِ مجنونة ماذا تفعلين؟
تحطمين سمعتي بإظهار نفسك بمظهر الخرقاء أمام كل من يحترمني ويقدرني، اذهبي لغرفتك
فوراً وسأعتذر لهم عنكِ، سأدعي أنكِ أُصبت بوعكة مفاجأة تمنعك من إكمال
السهرة".
شدت ذراعها منها معترضة بصوت مرتفع:
"لالالالا ما زلت أريد الرقص مع
"ماثيو"".
عاد ليشدها من معصمها مرة أخرى فشعر
بنبضها المتلاحق تحت ضغط أصابعه حدجها بنظرة متمرسة فلاحظ تلاحق أنفاسها بشكل أسرع
من المعتاد وكأنها ركضت عدة لفات في التراك.
هزت رأسها باعتراض عندما لاحظت
نظراته:
"أنا بخير وسأكمل السهرة
معكم".
ولكنها ترنحت وكادت تسقط، فتمسكت
بذراع "ماثيو" في آخر لحظة وعاد "ليام" يسألها بعبوس ونبرة
قلقة:
"كم كأساً شربتِ، تكلمي؟"
أشارت بيدها بحركات غير متزنة وموجات
من الغثيان تلعب برأسها فسقطت القنينة من يدها، انحنى "ليام" والتقطها ثم رفعها أمام عيناها متسائلاً:
"ما هذا أيتها الحمقاء المثيرة
للشفقة، ماذا تهدفين من كل هذا؟ لفت انتباهي أم انتباه شخص آخر؟"
تمتمت محاولة رفع رأسها بصعوبة:
"الموتى لا يلفتون الانتباه
يا... زوجي العزيز إنهم... يموتون فقط".
شدها لتدخل أقرب غرفة إليهم، ثم
دفعها بقسوة لتسقط على الأريكة ولكنها لم تشعر بقسوته فقد كانت تعوم على سحابتها
الوردية ثم همست مبتسمة وكأن أحد ما انضم إليها:
""جيري" أهذا أنت
حقاً، هل جئت لتسامحني".
احتدت ملامح الرجل الواقف يراقبها
بمزيج من المشاعر المتضاربة ثم أسرع خارجاً اعتذر لضيوفه بكلمات مقتضبة، ثم ترك
"جان" ليوصلهم لطريق الخروج وأوقف "ماثيو" يمنعه من الذهاب:
"انتظر أنت.. قد أحتاج
لمساعدتك".
أومأ "ماثيو" متفهماً ومشي
خلفه دون اعتراض ولكنه صدم عندما رأى تلك الحسناء وقد حاكى وجهها الموتى شُحوباً
فأسرع نحوها يضغط على معصمها ليقيس النبض ثم صرخ لزوجها الذي وقف ساهماً يراقب:
"دكتور إن نبضها ضعيف للغاية
لابد من نقلها للمستشفى".
ناوله "ليام" القنينة قائلاً ومحاولاً أن يبدو وكأن الأمر أكثر تفاهة من أن
يشغل به تفكيره:
"إنها مجرد محاولة سخيفة
للانتحار، قد تكون قد تناولت حبتان أو ثلاثة من هذه، مجرد محاولة بائسة للفت
الانتباه كالمراهقات يعلم الله كيف يعمل عقلها الصغير هذه الحمقاء".
نهض "ماثيو" صائحاً
ومهدداً بقبضته:
"أي رجل أنت، لنفترض أن تخمينك
في محله، وأنها تناولت حبتان أو ثلاث من هذه، رغم يقيني أنها تناولت ما هو أكثر
بكثير، لأن هذه المرأة مصابة باكتئاب حاد يا دكتور يُحّول أي محاولة حمقاء لخطوات
ثابتة نحو الموت بلا تردد، فحتى حبتان سيشكلان مضاعفات خطيرة مع عدد الكؤوس التي شربتها
لتنسى".
حدجه "ليام" بنظرات ملتهبة
ثم تنهد بضيق قائلاً:
"هل ستساعدني لعمل غسيل معدة
لها أم سننشغل طوال الليل بالصياح في وجوه بعضنا وسماع محاضراتك العقيمة هذه، ولا
أعلم ماذا تحسبني تماماً ولكني في النهاية طبيب أقسمت على قدسية مهنتي أياً كان
المريض، سأحملها لغرفتي، وأنت اذهب لغرفة مكتبي، ستجد في خزانة الأدوية هناك كل ما
يلزم لعمل غسيل المعدة".
ولم ينتظر المزيد وحملها مسرعاً
لغرفته رغم كل مشاعره السابقة نحوها، كان شعوراً جديداً وغريباً وهي بين ذراعيه
لأول مرة لا حول لها ولا قوة ساكنة شاحبة، كان شيئاً ما ربما في عقله أو في ذلك
الجانب المظلم من قلبه لم يعرف ما هو ولكنه دفع بدقات قلبه لتتسارع، ولأول مرة
راوده ذلك الشعور الغريب نحو هذه المرأة، فهي لابد أن تعيش، فحياتها أصبح لها معنى
الآن، أياً كان هذا المعنى.
خلع لها ثيابها بدون أن تشعر، كانت
قد غادرت لعالم آخر، لحقت به "بريانكا" وزودته بملابس نومها وساعدته في
تبديلها ثم همست بصوت متوتر:
"سيدي.. الآنسة
"فراني" في حالة متطورة من الغضب بالأسفل".
حدق بالخادمة بذهول وتساءل بدهشة:
"اللعنة "فراني"، كيف
نسيتها أين كانت عندما اعتذرت للضيوف؟"
"سيدي، تقول أنها كانت في غرفة
التزيين تصلح زينتها، عندما عادت لم تجد أي أحد ومنعتها بالقوة من الدخول إلى
هنا".
""بريانكا" اعتذري
لها نيابة عني، وأكدي لها أنني سأتصل بها في وقت لاحق، ثم عودي لمساعدتنا".
"أمرك سيدي".
ثم عاد ينظر لزوجته ولأول مرة منذ
سنوات يشعر أنه يريد امتلاكها قلباً وقالباً من قمة شعرها الأشقر الذهبي، لأصابع
قدميها الناعمتين.
دخل "ماثيو" فنفض عن رأسه
أشباح أفكاره المجنونة وبدأ عمله بهمة ونشاط واهتمام مبرراً لنفسه أن قسم أبو قراط
هو ما يحركه وليس أي شيء آخر.
ولمدة ساعتين كاملتين استغرقها
الطبيبان في محاولات عمل غسيل معدة، حتى تمكنا من إفراغ معدتها تماماً وإنقاذها في
الوقت المناسب، وهالهما الكمية الكبيرة من الحبوب المخدرة التي استخرجاها، أشاح
"ليام" بوجهه متجاهلاً نظرات "ماثيو" المتهمة، والذي هز رأسه بأسف قائلاً:
"لا أعتقد أنها كانت مجرد
محاولة للفت الانتباه يا دكتور".
هز "ليام" رأسه متنهداً
بأسى وحيرة وعدم تصديق:
"نعم، لا أظنها كذلك، الله وحده
يعلم ما كان سيحدث لها لو تأخرنا نصف ساعة أخرى".
سأله "ماثيو" متهكماً:
"هل أنت حزين فعلاً يا دكتور؟
رجاءاً لا تزعج نفسك بإدعاء مشاعر لا تمت لك بصلة، وقد أوضحت لكل جمهور حفلتك
الليلة أنها لا تعني لك أي شيء، وأنك لا تكنّ أي مشاعر إلا لصديقتك التي لم تفارقك
لحظة واحدة طوال الحفل".
صرخ "ليام" غاضباً:
"لقد تجاوزت حدودك أيها الشاب،
لا شك أنك متعب الآن، لقد كانت ليلة طويلة، أنصحك أن تعود لبيتك وتأخذ قسطاً
وافراً من الراحة، وتنسى كل ما حدث، وأتمنى أن تظل أحداث الليلة المأساوية هنا بين
جدارن هذا المكان ولا يخرج منه لأي كان، وإلا أقسم أن أفعل ما بوسعي كي تقضي وقتاً
عصيباً السنوات القادمة، حتى تحصل على شهادة الدكتوراه التي تنتظرها".
ندت عن "ماثيو" زفرة
استياء وهو يشمل "ليام" بنظرات متهكمة قائلاً:
"لا داعي للتهديد يا دكتور، أنا
أيضاً أقسمت على قدسية مهنتي ولا أتاجر بأسرار المرضى".
انصرف حانقاً بعد أن ألقى نظرة أخيرة
حانية على ذات الوجه الشاحب بين الأغطية البيضاء.
جلس "ليام" جوار زوجته
يمسح قطرات العرق المتجمعة بكثافة على جبينها في موقف لم يكن ليصدق أنه قد يحدث
أبداً، ولو سرح بخياله لأقاصي أراضي اللامعقول، "أشلي" المرأة التي تزوجها
بحيلة منها مرغماً بضغط من أمه الحبيبة، ولم يكنّ لها يوماً أي عاطفة إلا
الاحتقار.. وبالمقابل لم تطالبه إلا بأمواله.. وفي مقابل أن لا يختلط بها ويبعدها
عنه بقدر ما يستطيع.. تركها تعيث فساداً تعيش كما يحلو لها، تبذر أمواله على
أصدقائها وحفلاتهم.... لم يمانع طالما أنها بعيدة عنه... حتى جاءه خبر موتها..
فبدأ يشعر أن الحياة عادت لتبتسم له من جديد... تذكر بشبح ابتسامة كيف تذكر خبر
عودتها... ها هي "أشلي" التي كرهها بكل قطرة دم في جسده... محبة الحياة
تتمدد أمامه بعد أن فكرت بالموت... من المستحيل أن تفكر "أشلي" التي
يعرفها بالموت.... جذب وجهها الشاحب ليتأمله وهو يهمس:
"مَن أنتِ.... مَن
تكونين...؟؟؟"
************
الوجه
الآخر
*********
كان لا يزال يتأملها، زوجته التي
يزداد عجبه وتعجبه منها في كل لحظة عن سابقتها ثم همس متسائلاً وكأنها ستفيق لترد
عليه بمعجزة ما:
"أكاد لا أصدق أنكِ أقدمتِ
فعلاً على قتل نفسك، وتحريم حق الحياة عليها، تلك الحياة التي كنتِ تعبدينها بكل
ذرة هواء تدخل صدرك، كيف هانت وزهدتِ بها لتتخلي عنها بكل هذه السهولة، أكاد لا
أصدق ما حدث بعد، لا يمكن أن تكون كرامتك هي السبب فأنتِ لا كرامة لكِ.. ولا مبدأ
في الحياة، كنتِ دوماً أنانية مستهترة لم تفكري يوماً إلا في ذاتك وملذاتك، فكيف
هانت عليكِ ذاتك الأنانية الجشعة، أكان هذا بسبب ذلك الرجل الذي تهمسين باسمه في
أحلامك، من هو وكيف كانت علاقتكما؟ ولماذا تركته وعدتِ؟"
تساؤلات
كادت تتفجر بها رأسه ليصل لإجابات شافية، فنهض مبتعداً عنها ليقتل ذلك الشعور
الوليد في مهده وليجند في سبيل وئده كل طاقاته، هل سيستطيع؟!!!
في
الصباح اضطر للخروج بعد أن انتظر طويلاً كي تفيق من غيبوبتها الاختيارية، كانت
بحاجة للراحة الفعلية، لذلك لم يشأ إجبارها على الاستيقاظ، فأوصى "بريانكا"
أن تعتني بها ولا تفارقها ولو للحظة واحدة إلى أن يعود، فقد كان يعلم علم اليقين
أنه لابد أن يصالح "فراني" بنفسه كي تسامحه، فبسمتها هي ضياء حياته
المظلمة وحبها له بلسم أيامه التي تسممت منذ دخلت "أشلي" حياته عنوة..
وبكل جبروت امرأة لا يردعها رادع، قاد سيارته على الطريق بسرعة متوسطة ثم توقفت
أفكاره فجأة ممعناً التفكير في إحساسه في هذه اللحظة ولكنه لم يجد داخله ذات
الشعور بالفرحة والترقب لرؤيتها التي كان عليها منذ أسبوع واحد فقط، ورغماً عنه
قفزت صورة زوجته بوجهها الشاحب مستكينة هادئة وديعة بين الوسائد في آخر مشهد علق
بذهنه قبل أن يتركها، ضغط على دواسة البنزين بقوة وهو يحرك عصا مبدل السرعة بقوة
حتى ظن أنها ستنتزع في يده ليصل مسرعاً لهدفه الذي سعى له قبل أن يستجيب لحاسته
التي تقوى بسرعة غريبة كلما ابتعد بأن يتخذ أقرب مخرج للعودة لبيته.
*******
فتحت عيناها ببطء، وراحت عيناها
تتحرك حولها بدون أن تحرك رأسها فعلاً لتتعرف على هذا المكان، فصدمت بأنها لا
تعرفه، والأدهى أنها لا تشعر بأي شيء، فتساءلت بصوت مبحوح من حلقها الجاف كحطبة
محترقه :
"هل هذا هو العالم الآخر؟"
جاءها الرد سريعاً متهكماً:
"ليس بعد مع الأسف، وليس كما
تأملين أيضاً".
أغمضت عيناها بقوة مرة أخرى قائلة
بيأس مرير:
"إذن ما زلت هنا".
جاء رده جافاً:
"وفري قوتك ودعكِ من الجدل
العقيم".
فتحت عيناها مرة أخرى لتصدم بمظهره
الذي يضج رجولة صرفة، فبدا وكأنه استحم لتوه بتلك المنشفة التي يلفها حول خصره
ليظهر صدره الأسمر العريض وعضلات بطنه الضامرة وملامحه الحادة المتحفزة للشر كهمجي
من العصور الوسطى، ولكن تلك الابتسامة التي تلاعبت بشفتيه سرقت أنفاسها فتلفتت
حولها لتشتت تأثيره المدمر على حواسها بأفكار أخرى فتساءلت بعصبية:
"أين أنا؟، هذه ليست
غرفتي؟!!"
رد بلا مبالاة منحنياً فوقها ليقترب
أكثر بكثير مما يقترب منها عادةً وأمسك بمعصمها ليقيس النبض قائلاً:
"لا.. أنتِ في غرفتي أنا، كانت
أقرب الغرف لي ليتم إسعافك بالسرعة المطلوبة لإنقاذ حياتك المزرية التي لا تستحق
عناء إنقاذها".
حاولت جذب معصمها بحدة ولكنه تمسك به بقوة بعد أن حذرها بشرارات متطايرة من
عينيه أن تكرر حركتها الطفولية مرة أخرى، وسألها بحدة من بين أسنانه:
"ألا تعجبك ديكورات غرفتي لقد
اختارتها "فراني" من أرقى مجلات الأثاثات العصرية، إنها المرة الأولى
التي تشرفيها بحضورك".
سألته بصوت جامد، متجاهلة تلميحاته
لاستفزازها:
"لماذا أنقذتني؟ إذا كانت حياتي
المزرية كما تقول.. لا تستحق عناء إنقاذها".
أجابها بدون اكتراث متابعاً نبضات
قلبها في ساعة يده بطريقة محترفة كأنه مجرد طبيب لا تربطها به أي صلة:
"لم أملك خيارات كثيرة على أية
حال، لقد رآكِ ذلك الطبيب الشاب، ما اسمه؟ آه... تذكرت ماثيو... على ما أظن،
وهددني بإبلاغ الشرطة إن حصل لكِ مكروه، يبدو أنكِ مصرة على استئناف خطتك الدؤوبة
لتدميري حتى لو كان بالتضحية بنفسك".
ردت ساخرة بشبح ابتسامة تلاعبت
بشفتيها الحائلة لونهما من الشحوب:
"يبدو أن هذا الطبيب الشاب أفسد
مخططاتك مرة أخرى، بعد أن أفسدتها أنا في المرة الأولى".
دفع يدها لمكانها بخشونة وسألها
بتكشيرة جادة شوهت ملامحه الوسيمة:
"بجق السماء، لما الذي دفعكِ
لهذه الفعلة الحمقاء؟"
رفعت حاجبيها بزفرة استهزاء متابعة
بصوتها المبحوح:
"عجباً ألا تعرف لماذا؟ وأنا
التي ظننت أنني أقدم لك خدمة، فهي الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها الزواج من
حبيبتك "فراني""
سألها ساخراً:
"ومنذ متى تهتمي لأمري، لدرجة
التضحية بنفسك من أجلي".
ارتبكت من نظراته الوقحة فدافعت
متلعثمة:
"بالطبع لا أهتم بك، بعد أن
أوضحت لي بكل لغة ممكنة مقدار كرهك لي، وإن كنت تعايشت مع شعورك هذا في الماضي
أجده لا يناسبني في الحاضر".
فاجأها بسؤاله الصادم واتهام واضح
نطقت به كل عضلة مشدودة بحدة في وجهه الأسمر:
"مَن هو جيري؟"
هتفت شاهقة بخوف:
"جيري، مَن أخبرك عنه؟"
"أنتِ.. أثناء هذيانك، هل هو
ذلك الثري الذي تريدين العودة لتلك الجزيرة من أجله؟"
أشاحت بوجهها عنه قائلة بضعف:
"ولماذا يهمك أمر هذا الرجل؟ وأنت
لم تهتم ولو للحظة بمعرفة كيفية قضائي هذه السنوات الثلاث وأنا فاقدة للذاكرة، كيف
ظللت على قيد الحياة رغم غرق وموت كل من كان بصحبتي على اليخت، كيف ناضلت من أجل
حياتي، من أنقذني؟ من اهتم بي طوال هذه السنوات؟ ربما لو كنت بادرت بالاهتمام ولو
بالسؤال لعرفت الإجابة الصحيحة، بدلاً من أن تكلف نفسك عناء الجمع بين واحد وواحد
ثم تأتي لي بكل عجرفة العالم ببواطن الأمور لتخبرني أن النتيجة هي الخيانة
والتلاعب".
رد ببرود رغم عيناه اللامعتان بشرارة
الغضب:
"حياتك لا أهتم بها قدر ذرة
لأسأل عنها، منذ إعلان خبر وفاتك رسمياً وأنا أحمد حظي وأتنفس بعمق وراحة كما لم
أكن من يوم عرفتك".
استمرت بهجومها المضاد بحرقة:
"ألا تريد معرفة إن كنت ارتبطت
برجل غيرك أم لا، أو إن كنت قد تزوجت أم لا؟"
توهجت عيناه لتشتعل ببريق كالحمم
البركانية وهو يتساءل بنبرة مهددة:
"تزوجتِ، وهل فعلتِ؟"
ردت بألم:
"ولمَا لا لقد ظللت فاقدة
للذاكرة لثلاث سنوات كاملة، فلم أتذكر اسمي أو بلدي ولا حتى إن كان لي زوج.. لماذا
تستبعد أن أرتبط برجل أعطاني في فترة قصيرة ما بخلت به من عواطفك وأحاسيسك".
ضغط على أسنانه قائلاً:
"لماذا عدتِ لو كان لك زوج؟
أم.. أم أن زوجك اكتشف أي صنف حقير من النساء أنتِ.. فتخلى عنكِ أو ربما طردك، وقد
تكون قصة فقدان الذاكرة هذه مجرد تمثيلية من إخراجك لتجدي حيلة لعودتك مرة أخرى
بعد أن امتصصت دماء المسكين الذي ساقه حظه العاثر ليقع كالذبابة في شباكك
العنكبوتيه".
شهقت مصدومة وهزت رأسها بألم وهي
تردد:
"لا يمكن أن تكون جاداً، أنا
لست المرأة التي تصفها، لا يمكن أن أكون هي".
حدجها بنظرات متهمة دبت الرعب في
قلبها:
"هل تتلاعبين بي مرة أخرى
"أشلي"، أنتِ هي المرأة التي احتالت على أمي لتتزوجني، أنتِ هي.. بكل ما
فيكِ من شر وجبروت".
ردت بصوت مهزوز:
"أنا لا أتلاعب بك يا دكتور بل
كنت أتمنى لو أظهرت أقل قدر من الاهتمام والقلق تجاهي، بدلاً من تركيز كل طاقتك
على كرهي والتأسف لعودتي لأخرب عليك حياتك التي بنيتها بعد موتي".
صرخ بحقد:
"تعرفين جيداً أنكِ تستحقين كل
ذرة كره أكنها لكِ، بل ولا تستحقي أقل من الاحتقار لما أنتِ عليه الآن من إدعاء
الشرف واستدرار العطف والشفقة عبر محاولات مثيرة للقرف والغثيان بادعاء المرض
مرة.. ومرة أخرى بمحاولة الانتحار في حفل يضم أطباء المدينة كلهم، كمن يلقي بنفسه
أمام سيارة إسعاف".
دفنت رأسها أكثر في الوسادة شاهقة
بإحباط:
"اتركني للموت فهو أكثر أماناً
لي منك، أو دعني أذهب".
هز رأسه بأسف حقيقي:
"لا أستطيع الأولى، لأني مع
الأسف طبيب أقسمت على الحفاظ على قدسية مهنتي حتى لو كنتِ أنتِ هذا المريض،
والثانية من الاستحالة تحقيقها لأنكِ زوجتي، رغم اعتراضي الشخصي على هذا المسمى،
ولكن هذا الأمر غير قابل للفصال أو النقاش".
تنهدت بصوت مسموع قائلة:
"إذن لن أكف عن محاولاتي
للانفصال عنك بأي طريقة حتى أنجح ذات مرة".
تنهد قائلاً وهو يشيح بوجهه عنها:
"هذا يعني أن تعتادي على تدابير
الإقامة هنا في غرفتي، فلن تغادريها إلا بعد أن تعديني أن تتعقلي وتخرجين من رأسك
هذه الأفكار السوداوية".
سألته بسذاجة غير قادرة على استيعاب
الهدف من عرضه السخي بعد:
"وأنت أين ستنام؟"
التفت ناحيتها يتأملها بملامح ساخرة:
"أيضاً هنا، في غرفتي، على
فراشي فهذا هو الوضع الطبيعي لكل زوجان... النوم في غرفة واحدة و...على فراش واحد".
اهتزت مرتبكة وقد احمر وجهها بقوة
وهي تتمتم:
"ولكني لا أستطيع فأنت لا يمكنك
أن..."
رد عنها وهو يشملها بنظراته الجريئة
وابتسامته الوقحة المتسلية:
"تقصدين أن أنام جوارك، أم أن
أنال حقوقي الشرعية، كوني معقولة "أشلي" لعل ذاكرتك قد خانتك في هذه
أيضاً.. ولكننا مارسنا هذه الحقوق قبل أن أصبح زوجك فعلاً، ولا أظن أن الوضع سيصبح
أكثر سوءاً بما أنكِ زوجتي الآن ولستِ مجرد ممرضة حقيرة في المستشفى، تلقي بنفسها
في فراش رجل غريب".
دفنت رأسها في الوسادة صائحة بخجل:
"أنا لا أذكر هذا اليوم اللعين،
ولا أريد أن أتذكره أبداً.. لست أدري كيف سمحت لنفسي بهذا التصرف المشين".
نفض يداه عنها واقفاً محدجاً إياها
بنظرات فوقية:
"ألا ترين أن آوان الندم على
هذا الأمر تأخر أربع سنوات كاملة".
لم ترفع رأسها حتى سمعته يتكلم مرة أخرى بعد أن
ارتدي ثيابه وقال آمراً:
"لا تنهضي من السرير أياً كانت
الأسباب إلا للحمام طبعاً، أوصيت "بريانكا" أن تعتني بكِ إلى أن
أعود".
تجرأت لتسأله ثم ندمت:
"إلي أين ستذهب؟"
رد ساخراً بازدراء وهو يحكم رباط
عنقه في المرآة:
"ترين أن لكِ الحق بهذا
السؤال.. لأنكِ تنامين في فراشي؟ سأذهب حيث يذهب كل الرجال في الصباح لأعمالهم،
وأنا للمشفى، أي سؤال آخر تجدين في نفسك الحق لسؤاله لمجرد وجودك هنا؟"
شهقت غير مصدقة:
"نحن في الصباح، لم أدرك أن كل
هذا الوقت قد مر وأنا نائمة".
صحح كلامها ببرود:
"بل مخدرة، أنتِ ممرضة سابقة
وتعين الفرق أليس كذلك، لن أتأخر في العودة، لا تقومي بأي تصرفات خرقاء، "بريانكا"
ستبلغني فوراً وستجديني هنا في دقائق معدودة".
بعد خروجه عادت لتغرق في شلالات
أحزانها إلى أن غلبها إرهاقها فاستسلمت لجيوش الظلام الزاحفة على عينيها.. حتى
استسلمت وسلمت كل حصون دفاعاتها بدون أي شروط.
وسرعان ما وجدت نفسها ترتدي ثوباً
حريري أبيض يتطاير بفعل النسمات التي طيرت معها شعرها الأشقر الطويل المتحرر من كل
القيود... وفجأة أمسك بيدها ليراقصها حدقت به.. ملامحه لم تكن واضحة تماماً ولكنها
استسلمت لإحساس لذيذ معه.. أحاطها بحنان شديد وقربها لصدره فاستمعت بعشق لكل دقة
من دقات قلبه.. فقد كان يعزف لها كل موسيقى الحب التي عرفها العشاق، وفجأة غابت
الشمس بضوئها الوهاج خلف كتل من السحب السوداء التي تجمعت فوق ذلك اليخت الجميل في
عرض البحر، مهددة ركابه بإعصار مدمر، وراح البرق والرعد يصمان الآذان وهاج البحر
الهادئ وارتفعت أمواجه كالجبال تتقاذف اليخت بين طياته كذرة غبار لا حول لها ولا
قوة في خضم عاصفة هوجاء، وراح كل من حولها يختفون تباعاً، وقذفت بها الرياح
العاتية لتصارع الموت بين طيات البحر الهائج.. إلى أن كلت ذراعيها تعباً وهي تقاوم
الغرق، فاستسلمت للموت أخيراً غير نادمة، وراحت تهبط للقاع لتغرق وتغرق وتغرق...
استيقظت من نومها شاهقة شاعرة بطعم
ماء البحر المالح في فمها فأخذت تسعل بقوة وهي لا تكاد تصدق أن كل هذه الأحداث
كانت داخل حلم، وها هي مرة أخرى بين طيات فراش زوجها، و"بريانكا" تحاول
الحديث معها ولكنها لا تسمع إلا هزيم الرعد الغاضب وتلاطم
أمواج البحر الهائج، وشيئاً فشيئاً بدأت تستعيد رشدها وتسمع صوت الخادمة تتساءل
بقلق:
"سيدتي، سيدتي.. لمَا لا تردي؟
هل أنتِ بخير؟".
ردت بأنفاس لاهثة متقطعة:
"كوب ماء من فضلك "بريانكا"".
"آه عفواً سيدتي لقد أمرني سيدي ألا نعطيكِ ماءاً".
بللت شفتيها الجافتان بطرف لسانها
متوسلة:
"فقط شربة واحدة، حلقي جاف،
أرجوكِ "بريانكا"".
"سأحضر لكِ بعض الحساء، وعليكِ
بالصبر إلى أن يعود سيدي".
صرخت بنزق:
"أنا لست جائعة أنا عطشى أكاد
أموت من العطش هل ينوي قتلي عطشًا ذلك الطبيب المتعجرف".
ردت الخادمة بحيرة:
"أنا آسفة حقاً سيدتي ولكني لا
أستطيع مخالفة أوامر سيدي فعندما يثور يصبح مرعباً".
همست ساخرة:
"حدثيني عنه.. وأنا أدرى الناس
به".
هتفت الفتاة
بحماس:
"سآتيكِ بطبق من الحساء حالاً
ليروي عطشك دقيقة واحدة".
حملقت بالباب المغلق بعد خروجها
وصاحت بغيظ:
"اللعنة لمَا لا يعطونني بعض
الماء فقط؟"
أبعدت الغطاء عن ساقيها بعناد،
وللحظات شكت أنها ستستطيع النهوض من مكانها، فهي تشعر وكأنها ظلت مستلقية في السرير
أمداً طويلاً، كانت تخطو كأنها طفل ما زال يتعلم أن يحبو.. إلى أن وصلت للحمام
الداخلي التابع للغرفة متساندة على كل جدار في طريقها، وعندما وقفت أمام المغسلة
وفتحت صنبور الماء علا طنين هائل في رأسها فانحنت لتروي عطشها الجارف من المصدر
مباشرة ضاربة بكل تعليمات "ليام" عرض الحائط ولم ترفع رأسها إلى أن سمعت
تلك الشتيمة الغاضبة ورأت تلك اليد السمراء
الكبيرة تمتد لتغلق المياه فرفعت رأسها لتواجه غضبه.
"ألا يمكنكِ الحفاظ على نفسك
لبعض الوقت من دون أن ترتكبي أي حماقات أو حوادث".
ردت بصوت متهدج لاهث:
"لن أموت من العطش إن كانت هذه
هي خطتك السرية للتخلص مني".
أمسك معصمها صائحاً بحدة:
"أيتها الغبية ألا تذكرين من
عملك كممرضة ما يمكن أن يحدث للمعدة التي تناولت كمية كبيرة من المخدر لو صببت
فيها الماء صباً كما فعلتِ لتوك".
همست مترنحة واضعة يدها بتأوه على
بطنها:
"آه الآن فقط تذكرت".
لف ذراعه على خصرها وساندها للفراش
يرغي ويزبد بكافة النعوتات التي وصفها بها لتصرفها الأحمق ودخلت "بريانكا"
في هذه اللحظة.
"عفواً سيدي لم أعرف أنك
هنا".
صرخ غاضباً:
"ألم أحذركِ من شربها
للماء".
هتفت الفتاة مدافعة:
"أقسم أني لم أعطيها أي
شيء".
"ولكنكِ تركتها وحدها".
"كـ... كنت أحضر لها
الحساء".
صرخ بوحشية أرعبتها:
"أنتِ لا نفع منكِ.. هاتِ ما
معكِ واغربي عن وجهي، أما أنتِ أيتها المريضة المثيرة للشفقة...."
لمعت عيناه ببريق غريب جعل أطرافها
ترتجف لا شعورياً ولكنها لم تشعر بأي كُره من نظراته هذه، التي لم تكن حباً بالطبع، مد يده ليساعدها لترفع ظهرها ووضع خلفها
وسادة ثم أمسك بمعصمها وقام بقياس نبضها بسؤال كأي طبيب غريب:
"ألا زلتِ تشعرين
بالغثيان؟"
همست:
"ما زال رأسي يدور".
"لعل هذا الدرس يعلمك ألا
تخالفي تعليماتي في المستقبل والآن بعد أن تهدأ معدتك تناولي بعضاً من هذا الحساء،
وعندما أعود....."
قاطعته بلهفة غريبة:
"هل ستعود للمشفى؟"
رد بلا مبالاة وهو يسوي هندامه أمام
المرآة:
"لقد وعدت "فراني"
بالسهر معها الليلة، لقد تأخرت بالفعل على موعدي معها ستغضب كثيراً ولن تصالحني
إلا بشروط قاسية، ولكن سيروقني تلبيتها لها كلها".
رمقها بنظرة متحدية ليرى تأثير كلماته
عليها وشعر بالرضا وهو يري اختناق الدموع خلف رموشها المسبلة فقهقه بقوة قبل أن
يخرج صافقاً الباب خلفه.
أغمضت عيناها بقوة تحاول إلهاء عقلها
المكروب بالتفكير بأي شيء آخر.. كان حلماً.. ربما.. أو طيف قديم من ذكريات حاولت
دفنها في مقبرة النسيان وها هي تعود بالتتابع تراها وكأنها تشاهد شريط سينمائي
قديم أسفل أجفانها المسبلة....
كانت داخل غرفة الممرضات بالمشفى
عندما دخلت "ماري" لاهثة من الإثارة:
""أشلي" لن تصدقي...
لقد رأيت الآن أجمل رجل يمكن أن تقع عليه عيناكِ، حتى أنه أجمل من المغرم
"ستيفانوس".."
أنزلت "أشلي" قدميها عن السرير الصغير
المعد لاستراحة الممرضات ولمعت عيناها بشبق وتحفز:
"ومَن هذا الطبيب.. ما اسمه..
وما هو تخصصه؟؟"
ضحكت "ماري" بدلال واستهتار:
"أوووووه هذا سيكلفكِ الكثير يا
عزيزتي.. خاصةً مقابل خطة للإيقاع به".
تنهدت "أشلي" بسخط وهي ترمق صديقتها باحتقار:
"من قال لكِ أني في حاجة إلى
خططك للإيقاع بصيد أبسط من ذبابة في طبق العسل، حبيبتي لو كنتِ تملكين ما أملكه ما
وقفتِ أمامي تتبخترين، كنتِ بدأتِ فوراً بخطتك لغزو طبيبك الوسيم، ولكنكِ بحاجة لي،
كي أُبعد عن طريقك وأترك لكِ "ستيفانوس".. ولكن ألا تعلمين بولعي
بالأرقام الزوجية.."
شهقت "ماري" بخيبة أمل:
"ماذا تعنين؟؟ هل ستجمعينهم
حولك كملكة النحل؟؟"
وقفت "أشلي" تعدل من زيها
الأبيض أمام المرآة، ثم التفتت لصديقتها قائلة بصوت ضاحك:
"مَن يعلم.. ربما لو أعجبني هذا
الطبيب أترك لكِ "ستيفانوس"، من يدري هذا يتوقف على.. أشياء
كثيرة".
صاحت "ماري" بحقد:
""ستيفانوس" كان
يحبني أنا، حتى قررتِ أن تلتفي حوله كالأفعى وتسرقيه مني".
قهقهت بصوت ناعم وهي تواسيها باستهزاء:
"أيتها المسكينة، لو كان يحبك
فعلاً ما تدله في حبي لدرجة عرض الزواج".
شهقت "ماري" غير مصدقة:
"الزواج.. هل عرض عليكِ الزواج،
وماذا كان ردك؟؟"
تلاعبت "أشلي" بعينيها
قائلة:
"المسكين ما زال في الانتظار..
ربما أقرر أن أضع حداً لحيرته،، ولكن بعد أن أرى هذا الطبيب الجديد.. ماذا قلتِ لي عن اسمه؟".
دمدمت الفتاة من بين أسنانها بغيظ:
""ماجواير".. "ليام
ماجواير""
شملت صديقتها بنظرات متعالية وهي
تفتح الباب وتغادر لتتشمم أخبار الطبيب الجديد، واثقة من نفسها متأكدة من تأثير
جمالها على كل رجل من جنس آدم، حتى اصطدمت به وهي في طريقها لاهية تبحث عنه في
طرقات المشفى، ومن أول نظرة عرفت أنه غير أي رجل آخر... وكلما استعصى عليها صيده ..ازدادت
عناداً، فبعد أربعة أسايبع كاملة من بداية عمله وتسلمه قسم الجراحة ...لم تحظى منه
إلا بنظرات ازدراء وأوامر متعالية، لم تحتمل نظرات
صديقتها الشامتة، فقررت التنازل للفوز..
""ماري".. سأتنازل عن "ستيفانوس" لكِ، ولكن أخبريني كيف أطوي ذلك
الطبيب المغرور تحت جناحي".
سألتها "ماري" بلهفة:
"أحقاً "أشلي"، هل
ستلتزمين بعهدك؟"
ردت بغلّ وعيناها تبرقان بشرّ:
"فقط لأراه وهو مضطر لينظر في
عيناي، وأتأكد إن كان به من رجولة كما يدعي ليحتمل
التصدي لأنوثتي".
سألتها "ماري" بإحباط:
"ماذا إذا لم تنجح الخطة.. ألن
أستعيد "ستيفانوس"؟".
ضربت "أشلي" على المكتب
أمامها بقوة وغضب:
"لابد أن تنجح الخطة، سنفعل
المستحيل كي تنجح".
تلاعبت ابتسامة شريرة على ملامح
صديقتها قائلة:
"حسناً.. إليكِ الخطة.. ولكن كي
تُنفذ لابد أن تختاري يوماً مشحوناً بالعمليات الجراحية لدرجة أن صديقك بالكاد
يستطيع الوقوف على قدميه، وإلا لن تنجحي أبداً في التحايل على ذلك المغرور، الذي
يظن نفسه نعمّة النساء على الأرض".
ردت "أشلي" بحماسة:
"سأتابع جدول مواعيد العمليات
الجراحية.. وبعد.. ماذا سأفعل؟"
وتركت أذنيها لصديقتها تحشوها بخطة
جهنمية للإيقاع بالطبيب الوسيم.. بعدها تراجعت في مقعدها تلمع عيناها بابتسامة
مشبعة بالهدوء كالقطة التي التهمت لتوها فأراً سميناً، ثم همست بصوت حالم:
""ستيفانوس"
لكِ..".
