" " " " " " " " رواية حفنة من رماد (الفصل السابع)
📁 آحدث المقالات

رواية حفنة من رماد (الفصل السابع)

 



مملكتي الجديدة

*******

قبل أن تشرق الشمس تسللت من جواره تحاول منع نفسها من إلقاء أي شيء ثقيل على رأسه لتقتله كما قتل روحها على مدى ليلتين متتاليتين، دخلت للحمام تجر أقدامها جراً، استحمت على عجل ثم وضعت في حقيبة جلدية صغيرة قميص نوم واحد وبنطلون وتيشيرت وارتدت مثلهما ثم وضعت مفاتيح السيارة جوار رأسه لتكون أول شيء تقع عليها عيناه في الصباح، ألقت عليه نظرة أخيرة وانصرفت مبتعدة عنه وعن حياته إلى الأبد..كما تتمنى..

كانت قد وصلت للبوابة الخارجية للفيلا عندما تذكرت أنها لم تأخذ معها أية نقود ومنعها كبريائها من العودة،هذا بالإضافة إلى أنها لا تمتلك أي مال فهو لم يعطيها قرشاً واحداً في يدها، ملأت صدرها بهواء الفجر البارد الذي دخل يخترق رئتيها كالدبابيس الحارقة تجلدت بصبر وتحمل.

رفعت حقيبتها على كتفها وراحت تشق الضباب الذي يلف الكون بغلالة حريرية بيضاء بخطواتها الوئيدة ولكن مصرة بعزيمة لا تقهر على أن تبتعد، تبتعد حتى لا تكرهه أكثر مما تفعل رغم أنه لن يستطيع أذيتها أبداً أكثر مما فعل ولو قتلها بيديه المجردتان لكان أكثر هوناً عليها مما فعل بها على مدار ليلتين، ولم تهتم بلسعات البرد التي راحت تخترق ملابسها الخفيفة فشعورها بالحرية طغى على أي إحساس آخر.

 لقد اتخذت خطوة للأمام ولن تتراجع فيها أبداً وهذا القرار لن تندم عليه، فلقد احتملت من معاملته السيئة الكثير ولكن أن يعاملها أقل من معاملته لعاهرة هذا ما لن تحتمله حتىلو كانت تكفر عن أخطائها الفادحة في الماضي، لقد خسرت الكثير بالفعل، ولن تخسر نفسها مرة أخرى حتى لو كانت هذه إرادة الطبيب العظيم "ليام ماجواير".

بدأت ترثى لحالها وهي هنا بين طيات الضباب والظلام، كمّ تاقت لقلب يتألم لحبها أو لداء هي دواءه، لرجل هي أمه وأخته وحبيبته،لرجل هواءه عطر أنفاسها وقلبه لا ينبض إلا داخل صدرها، ولكن بين ركام حياتها المتساقط حتى أصبحت لا تجد لنفسها موطئ قدم دون أن تدوس على ذكرى قديمة لها يتقلب من ذِكرها القديس في قبره.

 كان الطريق طويل وعزيمتها رغم وهنها كانت أقوى رغم شعورها بالضعف الذي أخذ يستولي على جسدها قطعة قطعة، وفجأة تنبهت لأهم شيءنسيته وكان لابد أن تخطط له قبل شروعها في الهروب، أين ستذهب دون مال أو أوراق ثبوتية أو أي أوراق تثبت شخصيتها، ومضت في ذهنها فكرة أو شخص واحد فقط كان الوحيد الذي تعاطف معها وليس أمامها غيره لتلجأ له، تذكرت عنوانه الذي أعطاه لها مرة وحثت الخطى الواهنة لتصل إليه قبل أن يخرج لعمله في الصباح الباكر.

طرقت الباب بقبضات ضعيفة واهنة، فرغم شروق الشمس منذ ما يزيد عن الساعة، ولكن الوقت كان لا يزال مبكراً جداً خاصةً على الزيارة، شعرت بالخجل الشديد فلا شك أنه نائم في مثل هذا الوقت وربما كان مناوب في المستشفى وهو في شدة الإرهاق الآن ولن يقوى على فتح الباب لزائرة الصباح المتطفلة.

 همّت بالانصراف عندما فتح الباب فجأة وطل منه رأس رجل أشيب حدقت فيه ببلاهة واندهاش فلم يكن "ماثيو" ولكن الشبه قريب جداً منه، وعلى ما يبدو أن طرقاتها أيقظته من نومه..تطلع لها بفضول وقد انعقد حاجبيه ببعض الضيق مع بعض خطوط الجبين التي تعاقدتبتعجب زائد مع صمتها المريب، فأطرقت برأسها خجلاً حتى سألها بنفاذ صبر:

"هل من خدمة أستطيع تقديمها لكِ يا آنسة؟"

ارتبكت واختلطت أفكارها وتلعثمت الحروف على لسانها:

"عفواً سيدي لتطفلي في هذه الساعة المبكرة، ولكني أسأل عن الدكتور "ماثيو"، كنت أرغب بلقائه، ولكن يبدو أنني أخطأت العنوان".

تنحنح الرجل وهو يعتدل في وقفته ويجيبها:

"أنتِ لم تخطأي يا ابنتي هذا هو عنوان الدكتور "ماثيو"، وأنا والده ولكنه في المستشفى الآن ولن يعود قبل عدةًساعات من مناوبته المسائية".

تملكها إحساس مريع وكأن القشة الأخيرة المتبقية لها والتي تشبثت بها بكل عصب باقي في أناملها المتجلدة من الصقيع قد غرقت هي الأخرى في بحيرة الفوضى التي أغرقت نفسها فيها من سنوات وسنوات.

غمغمت بكلمات غير مفهومة وهي تستدير عائدة والضياع يلوح بوجهه القبيح بعد أن أطفأ بريق الأمل الأخير بضحكاته الشيطانية المنتصرة.

"شكراً سيدي، وأعتذر عن الإزعاج، آسفة..."

ظل الرجل يحدق فيها بارتياب وقد بدت غير متزنة وهي تستدير مبتعدة عندما فوجئ بها تسقط عند آخر درجة من السلم،فأسرع نحوها ووجدها فاقدة الوعي تماماً، حملها للداخل وقد تعجب من خفة وزنها، شهقت زوجته باستغراب:

"ماذا تحمل بين يديك يا "هنري"؟؟ ومَن تكون هذه الفتاة؟؟"

رد وهو يمددها على الأريكة:

"لا أعلم، لقد سألت عن ابنك ثم انهارت أمام الباب كما ترين".

أشفقت عليها زوجته من وجهها الشاحب وكأنها من الأموات أو في طريقها إليهم.

"المسكينة يبدو أنها متعبة، أنظر كمّ هي شاحبة، سأعد لها العصير وبعض الشطائر لعلها انهارت من الجوع والبرد انظر لملابسها الرقيقة، في هذا البرد القارص ترتدي ثياباً كهذه المسكينة، لابد أنها جاءت لتطلب المساعدة من "ماثيو"، آه تعلم كم هو رقيق القلب، كمّ يشبهك في شبابه، لقد ثرثرت كثيراً أليس كذلك؟"

رمقها زوجها بنظرات محبة قائلاً:

"أنا لن أشكو أبداً".

أفاقت بعد أن نفذت رائحة العطر لأنفاسها جعلها تدرك أنها أضعف من أن تساير عزيمتها القوية، نهضت من مكانها مرتبكة في مواجهة زوج من أكثر الوجوه طيبة قابلتها في حياتها:

"أنا فعلاً آسفة لا أدري ما الذي دهاني، أنا عاجزة عن شكركم ولن أكون عبئاً عليكم أكثر من ذلك،وسأخرج فوراً".

أوقفتها السيدة الطيبة بصوت حازم:

"إلى أين يا آنسة؟ أنتِ لم تسددي فاتورة العناية بكِ بعد".

توقفت دقات قلبها للحظة عن الخفقان وهي تحملق في وجه السيدة الجاد وشعرت بالدماء تتدفق بسخاء لرأسها وهي تسألها مبهوتة:

"ماذا؟؟"

حدقت بالمرأة بذهول وقد ازداد حرجها وابيض وجهها من الشحوب فهزت المرأة رأسها:

"نعم بالطبع...اجلسي وتناولي هذه الشطائر وهذا العصير وبعدها يكون ولدي "ماثيو" قد وصل، أليس هو من تطلبين؟"

تمتمت بذهول وقد بدأ اللون يعود لوجنتيها بالتدريج، وقلبها يستعيد دقاته بعد أن كاد يتوقف من السرعة:

"نعم سيدتي".

رد الرجل بصوت باش:

""لويزا" كُفي عن إخافة الفتاة، اللعنة لقد صدقت أنكِ سترغمينها على دفع الفاتورة.."

حدقت بها المرأة متسائلة بدهشة:

"أحقاً...أيتها المسكينة لابد أنكِ واجهتِ الكثير من المآسي حتى وصلتِ إلي عتبة دارنا...تناولي طعامكِ وإلا ظن "ماثيو" أننا عذبناكِ من مظهركِ الشبحي هذا".

أومأت "أشلي"بابتسامة باهتة:

"حاضر سيدتي.."

وراحت تلوك الطعام في فمها دون أن تعرف له طعماً حتى فوجئت بسؤال السيدة الفضولي:

"كيف حدث أن"ماثيو"لم يحدثنا عنكِ من قبل؟؟"

أطرقت برأسها خجلاً من محاولة الكذب على هذان الزوجان الطيبان ولكن دخول "ماثيو" أعفاها من الإجابة، وقف مذهولاً يحدق بها غير مصدق:

""أشلي"... يا إلهي ماذا حدث؟"

تمتمت بتردد:

"آسفة "ماثيو"، ولكني لا أعرف أحد سواك ألجأ إليه".

نهضت مسرعة وارتمت في أحضانه تنشد الأمان الذي تبحث عنه من يوم..أو من سنوات طويلة أكثر من أن تحسب عددها.

ربت على ظهرها بحنان ثم حدج والديه من خلفها بارتياب:

"أمي.. أبي ماذا فعلتما لـ"أشلي"؟"

هز رأسه بعتاب ضاحك ثم اصطحبها لغرفته بعد أن أوضح لها أن طريقة أمه في المزاح أحياناً تكون في غير وقتها، ثم منعها من التحدث بأي موضوع بعد أن أجبرها على النوم وأعطى لها إبرة مهدئة:

"نامي"أشلي" وبعد أن تستيقظي ستكونين أفضل حالاً".

هزت رأسها بصمتوأغمضت عيناها وهي تحاول منع دموعها من الاسترسال.

شعرت وكأنها نامت لسنوات طويلة، فتحت عيناها ببطء متوقعة أن تجد"ليام" نائماً جوارها، ولكن المكان يبدو غريباً وهي لم تكن هنا من قبل، شهقت من المفاجأة عندما فتح النور ووجدت "ماثيو" أمامها بصينية قد رص عليها أطباق من كل أنواع الطعام.

"هل أخفتك؟"

ردت بعد أن تمالكت نفسها وهي تقنعها أن "ليام" بعيداً جداً عنها ولن يستطيع أذيتها الآن:

"للحظات فقط كنت تائهة ولا أذكر أين أنا".

""ماثيو" أنا..."

بابتسامته الحنون الهادئة جلس على السرير جوارها:

"تناولي طعامك أولاً وبعدها نتحدث".

سألته بلهفة:

"هل سأل عني؟"

"تقصدين "ماجواير"...لا لم يسأل عنكِ هنا..لا شك أنه يبحث عنكِ في كل مكان ولن يخطر بباله أنكِ هنا".

دفعت عنها الطعام:

"شكراً".

صاح باستنكار:

""أشلي"تناولي وجبة لائقة كي تستطيعين الصمود".

رفضت بإصرار وشبح الغثيان يلوح أمامها:

"لقد شبعت صدقني".

فاجأها بسؤاله:

"هل هربتِ منه؟"

ردت باقتضاب محاولة أن تبعد عن مخيلتها كل الصور المرعبة التي تضمها مع "ليام" وهو يتعمد أذيتها بكل وسيلة يقدر عليها:

"نعم....لم أستطع الاحتمال ساعة واحدة معه،أوه "ماثيو"، لن تصدق، كانت ستكسب المعركة، لقد قلت له أشياء فظيعة، أعني هي قالت.. آه لا أعرف ماذا أقول..."

رد "ماثيو" بتعاطف:

"هل كان الأمر سيئاً لهذا الحد؟"

تشبثت بذراعه بعنف وهي تصيح بلهفة وعصبية:

""ماثيو" لابد أن تساعدني لأجد عملاً لا يمكن أن أعود له، مستحيل أن أعود، لابد أن أجد عملاً..هل ستساعدني؟"

أمسك بيدها بقوة ليهدئها:

"ولكنكِ تحبيه "أشلي"، "ليام"هو رجلك وأنتِ امرأته، قد لا يشعر بهذا بسبب الضغوط التي تعرض لها في السابق ولكني أعلم أنه يحبك، وأنتِ بلا شك تحبينه".

صاحت بشهقة يأس:

"لأنني أحبه لا أريد أن أكرهه، لو ظللت معه يوماً واحداً سأكرهه وأنا لا أريد هذا، ساعدني "ماثيو" أرجوك، هل ستساعدني؟"

تنهد بضيق:

"وهل أستطيع أن أرفض لكِ طلباً؟ ولكن أرجوكِ أن تمنحي نفسك فرصة أخرى للتفكير في الأمر، ومن ناحيتي لقد أجريت بعض الاتصالات بالفعل من دون ذكر أنكِ زوجة لـ "ماجواير" فوعدوني بإعطائكِ فرصة، ما إن نستخرج شهادات تخرجك من الكلية وشهادة ميلادك، وتبقى مشكلة واحدة...أنكِ ستبدئين من الصفر".

 

تراجعت مصعوقة:

"أتعني أنني سأعمل كما لو كنت متخرجة جديدة".

"نعم فشهادات الخبرة يحتفظ بها زوجك وبدونها".

أخذت نفس عميق ثم هزت رأسها موافقة:

"لا بأس المهم أن أعمل في مكان لا يعثر علي فيه "ليام"".

"لا تخافي لقد رتبت لهذا أيضاً مع احتفاظي بحق الاعتراض عن فكرة هروبك من الأساس ولكن طالما أنكِ مصرة لن أخذلكِ بدوري، ستعملين كممرضة في المبنى المجاور الذي يعمل فيه، في قسم الأطفال، كنت أتمنى لو كان عملك في قسمي ولكن زوجك سيعثر عليكِ فوراً هناك".

""ماثيو"، بقي شيء أخير لا أريد أن أسكن في سكن الممرضات، سيكون أول مكان يبحث عني فيه".

"ولماذا تبحثين على سكن، أنتِ هنا معززة مكرمة مع والديّ رغم طرقهم الغريبة في الترحيب بضيوفي ولكني أؤكد لكِ أنهما طيبي القلب".

"نعم.. بالطبع لا تفهمني خطأ أرجوك لا أستطيع أن أثقل عليك وعلى والديك كما أنني لا أريد أن أتسبب لك بمشكلة مع "ليام" لو اكتشف وجودي هنا وربما يتهمني أني أغويتك، أرجوك "ماثيو" لا تجادلني وعدني أنك ستبحث لي عن غرفة صغيرة تناسب إمكانياتي البسيطة".

"حسناً "أشلي" كما تشائين لن أضغط عليكِ، المهم أن ترتاحي وتهدئي".

******

تململ "ليام" في فراشه ومد يده جواره ليحتضن جسد زوجته البضّ الذي أصبح مدمناً عليه لا يشبع منه أبداً مهما ارتوى، ولكن يده سبحت في الفراغ فرفع رأسه يفتح عيناه بصعوبة فاصطدمت بسلسلة المفاتيح على الوسادة فأمسكها وراح يقلبها بين يديه يتأملها بشرود ثم انتفض من مكانه عندما انقشعت غشاوة النوم عن تفكيره وصرخ ينادي باسمها بصوت ارتجت له جدران الفيلا:

""أشلي"... "أشلي"".

ولم يُدهش كثيراً عندما لم يصله الرد على نداءاته فنهض مسرعاً يقتحم الحمام وغرفة الملابس ثم راح يفتش عنها في كل مكان بالفيلا ونادى على الخادمة بصوته الزاعق المجلجل بالغضب:

""بريانكا".."بريانكا"".

أسرعت الخادمة تلبي نداء سيدها:

"نعم سيدي..صباح الخير".

"هل رأيتِ "أشلي" اليوم؟"

"لا يا سيدي أقسم لك..ربما تكون في..."

لم يدعها تكمل جملتها وهو يصرخ غاضباً:

"اللعنة عليكم جميعاً لن تكون في أي مكان إلا في الجحيم".

فتح دولابها وراح يبحث ويفتش ثم صاح بذهول:

"ملابسها كاملة لم ينقص شيءوكذلك أحذيتها".

ثم دخل غرفة الملابس وراح يفتش فيها كذلك، ولكنه لم يجد أي شيء مفقود فتهالك على الكرسي بتعب محدثاً نفسه.

"لقد هربت بلا ملابس أو مال أو أوراق..أين ذهبت تلك المعتوهة..اللعنة...المجوهرات.."

ركض مسرعاً لغرفته الأولى حيث يحتفظ بمجوهراتها، وازداد تعجبه ودهشته عندما وجدها كلها لم تُمس، ورغم كل مشاعره السلبية نحوها ولكن القلق أخذ يتآكله وهاجس يدفعه ليقلب الدنيا بحثاً عنها حتى يجدها.

******

بعد أسبوع من الانتظار المرهق في ضيافة والديه كان "ماثيو" قد تسلم أوراقها التي وصلت في الوقت المناسب لتعينها على البداية التي تنشدها بعيداً عن أي مساعدة من أي مخلوق، تنهدت والدة "ماثيو" وهي تلاحظ لأول مرة سعادتها وهي تحتضن أوراقها:

"لهذا الحد أنتِ سعيدة بالتخلص من رفقتنا، لقد ملأتِ حياتنا وآنستِ وحدتنا بعد غياب "ماثيو" الدائم في عمله".

أطرقت "أشلي" خجلة:

"سيدتي أنا لم أقصد أن أبدو ناكرة للجميل، لقد كنتِ نِعَم الأم التي افتقدت وجودها بحياتي، ولكني الآن في منتصف مرحلة فارقة بحياتي وأريد أن أثبت ذاتي، أتمنى أن تفهميني أرجوكِ".

ربتت السيدة على يديها بحنان:

"أفهمكِ يا ابنتي، أحياناً نمُر بمثل هذا الشعور، كما قال "شكسبير"، أكون أو لا أكون، أليس كذلك يا "هنري"؟"

غمغم الزوج وهو يرفع رأسه عن الجريدة وبعد ابتسامة حُب جميلة أعاد رأسه مرة أخرى بين أوراقها.

ضحكت "أشلي" ربما لأول مرة منذ وقت طويل وهي تردد كلماتها:

"نعم ربما أنتِ على حق، أكون أو لا أكون، شكراً لكِ لكل ما قدمته لي، يكفيني إحساسي أن لي بيت يمكنني الاحتماء بين جدرانه إذا ضاقت بي الدنيا".

وفي اليوم التالي تسلمت عملها وبدأت تتنفس نسائم الحرية بعيداً عن ذُل الزوج وقهر الأب وشبح يحاربها في الظل، ورغم صعوبة أن تبدأ عملها كممرضة جديدة رغم سنوات خبرتها الطويلة ولكنها سعدت كثيراً بالعمل في قسم الأطفال فقد أشبع هذا العمل جوعاً داخل نفسها التي لطالما تاقت لطفل من دمها أو هذا على الأقل ما تشعر به من يوم عودتها>

 وبما أن هذا لن يحدث أبداً لأن الرجل الوحيد الذي تتمنى لو تحمل له أطفاله يحتقرها وكان دائماً حريصاً ألا يربطها به طفل، لأنها أقل من أي امرأة ممكن أن ترتبط معه بهذا الرباط الأبدي، كمدت الفكرة في نفسها وحاولت رفع رأسها الكسير لتستطيع أن تخطو في هذا العالم بدون وجوده جوارها، ولم يكن هذا بالأمر السهل أبداً، وبعد يومان آخران جاءها "ماثيو" بمفاجأته الأخيرة.

"لقد عثرت لكِ على شقة مناسبة".

ولم تصدق ما تسمع:

"أحقاً.. آه "ماثيو" لن تصدق أبداً كم أنا ممتنة لك، وسأظل مدينة لك للأبد".

تنهد قائلاً بنظرات حانية:

"لم أفعل شيئاً أستحق عليه كل هذا الثناء ولو أردتِ تسديد هذا الدين الوهمي الذي تظنين أنكِ تدينني به، لا تتركي عائلتي ابقي معهم وأنا سأسكن في سكن الأطباء".

عضت على شفتيها بعصبية:

"أرجوك دعنا لا نتجادل في هذا الأمر مرة أخرى، لا تضيع فرحتي بهذا الخبر السعيد، وهيا لتريني شقتي الجديدة أكاد لا أطيق صبراً على رؤيتها".

هز كتفيه مستسلماً:

"هيا بنا يا ذات الرأس العنيد".

ركبت معه سيارته تسيطر عليها فرحة ولهفة، أخيراً ستنجح بالاستقلال الذي ناشدته ولن يوقفها أي أحد أو أي شيء بعد الآن، توجها لعنوان الشقة الذي اتضح أنه في أحد الضواحي التي لا تختلف كثيراً عن الحي الفقير الذي نشأت به في الماضي، ولكنها سألته:

""ماثيو"..هل...هل رأيت "ليام"؟"

ندمت فوراً بعد أن انطلق السؤال من فمها وكأنه لم يمر على منطق عقلها أولاً، بل خرج فوراً من قلبها بدون استئذان ولم تحتمل عتاب عقلها اللائم ولكن كان السؤال قد خرج وانتهى الأمر وتجاهلت كل اللوم والعتاب وهي تنظر لـ"ماثيو" منتظرة بلهفة الإجابة التي تتوق لسماعها.

هز "ماثيو" رأسه بأسف:

""ليام"، أتسألين عنه بعد كل ما حدث منه، أنتِ إنسانة نادرة الوجود يا "أشلي" ولكنه لا يستحق ذرة تفكير منكِ، لقد غاب يوماً واحداً فقط، عاد بعده يمارس عمله بشكل طبيعي، اللعنة هذا الرجل جليدي المشاعر لا يظهر علي ملامحه أي تأثر وكأن التي اختفت من بيته مجرد قطة، وليست.... آسف "أشلي" لم أقصد.."

أشاحت بوجهها لتتابع الطريق كي لا يرى الدموع المتزاحمة خلف رموشها والتي تهدد بالانهمار في أي لحظة، ولكنه لاحظ اهتزاز شفتيها فلعن نفسه لأنه السبب فيما آلت إليه بعد أن ظن أنها نسيت.

""أشلي" انسيه، حاولي أن تحذفيه من ذاكرتك، هذا الوغد لا يستحق منكِ لحظة تفكير".

أجابته بصوت مبحوح بدفاع:

"لا تنسَ أنه على حق في كل تصرفاته، لقد عذبته كثيراً وهو لا يصدق أنني أصبحت مختلفة، مَن يلومه بعد كل المُر الذي ذاقه بسبب تصرفاتي".

زمجر بضيق:

"لا تدافعي عنه، ولا تبحثي له عن أعذار، ولا تقللي من قدر نفسك أبداً، هو لا يستحقك يا "أشلي" وبالتأكيد أنتِ جدير بكِ رجل يفهمك ويدللك ويقدرك، هاهو البيت، قد يكون منظره قديم من الخارج ولكنه المناسب في حدود إمكانياتك، كنت أتمني لو قبلتِ مني المساعدة".

ردت وهي مشغولة بتأمل البيت من نافذة السيارة بلهفة وترقب:

"لقد ساعدتني فعلاً يا "ماثيو" فوق ما تتخيل، هيا قل لي أيهما شقتي من بين هذه الطوابق الثلاث".

تنهد بضيق واضح ولكنه استسلم في النهاية أمام إصرارها وعنادها الذي لا يلين:

"إنها في الطابق الثاني، أول شقة علي يمينك، تعالي معي لأعرفكِ على البيت وعلى شقتك أيتها العنيدة المستقلة".

كانت الشقة فعلاً صغيرة جداً، وكانت بمثابة جُحر أرانب بالنسبة لغرفة واحدة في فيلا "ليام"، ولكنها شعرت بسعادة بين جدرانها المتآكلة من الرطوبة، لم تحظى بمثلها تحت سقفه المغطى بثريات الكريستال الأصلية، على الرغم من رقة حالها وأثاثها البسيط وجدرانها المقشرة طلائها في كل مكان، ولكن يكفي أنها ملكها وحدها، كانت الأريكة التي بالكاد تروي مجداً زائلاً من زمن غابر من الأناقة والذوق الرفيع والأصالة التي جعلتها تصُمد إلى هذه اللحظة دون أن تنهار تحت وطأة السنوات.

 كانت تتصدر المدخل وأسفلها سجادة متآكلة الأطراف وعلى يمين الباب كان المطبخ الذي كان بالكاد يسمح بدخولها والخروج دون أن تلتفت، حيث لا يتسع لتستدير داخله، فخزانته الصغيرة تحوي ما يكفيها من أدوات قليلة وبجواره الموقد ذي العين الواحدة، ردد "ماثيو" من خلفها:

"تجهيزات المطبخ قليلة جداً سأحدث المالكة".

التفتت له بابتسامة:

"أنا لم أشكو بعد، إلى أين يفضي هذا الباب؟"

أطرق برأسه قائلاً بتذمر:

"الحمام وهو ليس بأفضل حالاً كما ترين، فلا أعتقد أن هذا السخان الشمسي يعمل بأي حال من الأحوال".

فتحت باب الحمام وألقت عليه نظرة ثم هزت رأسها:

"إنه جيد جداً، عليك أن ترى الحمام في شقتي القديمة قبل أن أقترن بـ"ليام"، بالنسبة لهذا هو كحمام خمس نجوم، تعالى لنرى غرفة النوم".

دفعته بلطف فتنحى عن طريقها يهز رأسه بيأس:

"أنتِ غير معقولة يا"أشلي"".

كانت الغرفة مريحة إلى حد ما بفراشها الصغير وغطاءها الرقيق

وبجواره انتصبت خزانة بدون أبواب ستكون أكثر من كافية لحاجياتها القليلة، ركضت نحو النافذة بابتهاج:

"آه انظر نافذة مطلة على الشارع، هذه الشقة رائعة، "ماثيو". كم قلت لي إيجارها؟ لا أعرف كيف أشكرك الشقة رائعة فعلاً".

وعندما لاحظت خيبة أمله سألته ضاحكة:

""ماثيو" هل كنت تأمل ألا يروقني المكان وأعود معك".

هز رأسه بابتسامة خجلة فأردفت:

"سأطلب منك آخر طلب، هل تدينني بمبلغ الإيجار حتى أقبض أول راتب لي".

""أشلي" سأعطيكِ المبلغ ولكن..."

وضعت يدها على فمه مقاطعة:

"لن ألمس قرشاً واحداً من أموالك إلا على سبيل الاستدانة، ولو وصل الأمر للنوم على الرصيف وأنت تدرك الآن كم أنا قادرة على فعل أي شيء في سبيل تحقيق ما أصبو إليه".

غمغم مستسلماً مرة أخرى:

"حسناً أيتها العنيدة، كما تشائين".

 


ابتعد عن ناري

_____________

رغم صعوبة الحياة، خاصة وأنها أصبحت الآن بمفردها لا معين لها إلا نفسها، إلا أنها تكيفت مع ظروفها القاسية، حتى بعد أن أصرّ"ماثيو" على ملئ الثلاجة بكل ما تحتاجه من أطعمة ومشروبات، وأعطى لها بعض الأغطية التي أرسلتها أمه معه كهدية لا تُرد، واعترضت بشدة يومها وما لبثت أن رضخت فقد كان الحل الوحيد لتتخلص منهومن إلحاحه، ولكنه اغتنمالفرصة ليعترف لها بما في نفسه بعد أن تمسك بأهداب الشجاعة التي واتته أخيراً:

""أشلي" أرجوكِ لا ترفضيني، أنا أشعر بالمسؤولية نحوك أنا... كما أنني مغرم بكِ".

هتفت بحدة معترضة بشدة:

"لالا أنت لست مغرم بي يا "ماثيو"، أنت مشفق عليّ فقط، وهذا لا يحتسب حُباً صدقني".

دافع عن عاطفته بشدة قائلاً:

"أنا أكثر دراية بشعوري نحوك، وأنا على يقينأنه أبعد ما يكون عن الشفقة،"أشلي" سأنتظر مهما طال الوقت حصولك على الطلاق لنتزوج".

هزت رأسها بابتسامة مريرة:

"أنت لم تسألني إن كنت أبادلك عاطفتك كما....كما أن "ليام" سيقتلني قبل أن أكون ملك رجل غيره، أنت لا تعرفه. الموت عنده أسهل من الطلاق، ليس حباً كما تعرف بقدر ما هو تملك وأنانية".

اسودت ملامحه وازدادت عبوساً وهو يصيح باعتراض:

"لن تعيشي حياتك هكذا، لأن الطبيب العظيم يشعر بالتملك نحو أحد مقتنياته التي فقدها بسبب غباءه".

أطرقت برأسها متمتمة بألم يحرق أمعائها:

"يقول أنني جلبت هذا على نفسي، لقد أرغمته على هذا الزواج، ولن يفلتني إلا برغبته...."

شهق "ماثيو" من هول ما سمع:

"ولكن هذا جنون، الرجل فقد عقله حتماً، لو رفعتِ قضية سيحكم لكِ القاضي بالطلاق فوراً ومن أول جلسة".

هزت رأسها بابتسامة مريرة ساخطة:

"هل أنت جاد فعلاً فيما تقول، ماذا عن كل الشهود الذي يمكنه سحبهم ليثبتوا للمحكمة أنني هي المختلة، قد يأتي بك أنت أيضاً لتشهد تحت القسم أنني حاولت قتل نفسي".

شدها من كتفيها بقوة:

"لا يمكنكِ الاستسلام هكذا، لابد أن تقاتلي وأنا بجوارك سنكون فريقاً".

ردت بعزم:

"سأجتهد في عملي وأتفوق فيه لأعوض فشلي في حياتي، لا أملك خياراً آخر يا "ماثيو"".

"ولكنكِ امرأة حساسة دافئة وتواقة للحب، "أشلي"اتركيني أحبك أرجوكِ، اتركيني أدللك كما تستحقين، لا تدعي انتقام "ليام" يدمرك، دعيني أكون معكِ فارسك الذي يذود عنكِ ويقاتل من أجلك".

أغمضت عيناها للحظة وكأنها تستمتع بوقع كلماته وصداها داخل نفسها، ثم فتحتهما:

"ما أروع كلماتك الغزلية، ستهنأ بك من ستكون امرأتك يوماً ما، كم أتمنى لو كنت أحببتك فعلاً،ولكن تحت الرماد الذي تراه، نار يا "ماثيو"، نار تحرق من يلمسها وتؤذيه، أرجوك ابتعد لا أريدك أن تتأذى".

رد بصوت مهزوم:

"تحبينه...، هذه هي إجابة السؤال الذي يحرق ملائكة نومي ويتركني فريسة لشياطين السهاد والأرق كل ليلة، رغم كل ما فعله بكِ ما زال هواءك الذي تتنفسيه، ونبض قلبك الذي يخفق به".

هزت رأسها بقوة لتحاول مسح صورة "ليام" من رأسها:

"لا..لا يمكن أن أحبه بعد كل العذاب الذي تكبدته على يديه، أنت واهم لقد حول حبي له لأبشع أنواع الكُره في الليلة الأخيرة".

تنهد باستسلام:

"لن أضغط عليكِ، أنا على ثقة أنكِ متى ما هدأتِ واستقرت أمورك ستقررين ما يناسبك، وستدركين من هو الأفضل لكِ، رجل يحبك أم رجل لا يهوى إلا تعذيبك... وحتى ذلك الحين نحن أصدقاء أليس كذلك؟".

هزت رأسها موافقة:

"بالطبع وأكثر من أصدقاء نحن أخوة يا "ماثيو"".

هز رأسه بابتسامة ساخطة وأسف:

"كما تشائين، إلى اللقاء، على فكرة لن أستطيع زيارتك.. مالكة البيت حذرتني لأن كل سكانها من الفتيات فممنوع على الرجال الزيارة والتواجد".

تمنت ألا يكون قد سمع تنهيدة الراحة التي خرجت من أعماقها بعفوية:

"آه أنا متفهمة يا "ماثيو" لا بأس سأراك في المستشفى، إلى اللقاء وشكراً لك".

أغلقت الباب خلفه وهي تتنفس بارتياح لأن مالكة البيت وفرت عليها إحراج كبير في أن تطلب منه هذا الطلب بنفسها.

هزت كتفيها شاعرة بالإثارة وهي تتفقد شقتها مرة أخرى بتمعن وشعوراً آخر يأسرهاشعور بالحرية والأمان، تجاهلت أنين قلبها وهي تحث الخطى لغرفتها كي تضع أغراضها القليلة في الدولاب.

استغرقت في عملها الدءوب الذي اكتشفت أنها تحبه كثيراً أكثر مما كانت تعتقد، فأغرقت نفسها به في محاولة لإلقاء الماضي في بئر النسيان السحيق، ولكن يبدو أنه لم يكن عميقاً بما فيه الكفاية، فربما استطاعت طوال النهار ادعاء النسيان وسط أشغالها وأعمالها التي لا تنتهي إلا بعودتها للبيت لتتقلب طوال الليل على فراشها القاسي تتقاذفها الذكريات ويغص قلبها بالحنين.

وفي كل ليلة كانت الضحية المسكينة هي وسادتها التي تظل تضرب فيها بكلتى يديها صارخة:

"أي حنين أي حنين هذا، أمازلتِ تشتاقين إليه، هو لم يعاملكِ يوماً إلا بكل قسوة ورغبة ملحة للانتقام، وهو الذي لم يراكِ إلا بصورتك القديمة ولم يحاول ولو مرة واحدة أن يرى غيرها".

دوى صوتاً داخلها كالشيطان يقهقه:

"بل هو الحنين لأمواله وثرائه الفاحش ولرغد العيش والمجوهرات والملابس الفاخرة والسيارات الفارهة والمجوهرات الثمينة، أيتها الغبية كيف تركلين كل هذا بقدميك وتسعين للعيش في هذه الخرابة التي تأبى الخفافيش سكنها".

صرخت فزعة وهي تطرق رأسها في الوسادة:

"لا... لا أيتها الملعونة لن أرضخ لكِ أبداً..أبداً، ولن أبيع ما بعت ولو مقابل حياتي...اخرسي..اخرسيييييييي".

ولأول مرة منذ هروبها تعاودها آلام الصداع الرهيبة والتي لم تمنحها دقيقة سلام واحدة لتنام فيها بعد يوم مشحون بالعمل الشاق، فكانت في الصباح مثار قلق زميلاتها حيث اقتربت منها إحداهن وهي تبدل ثيابها في غرفة الممرضات:

"ماذا بكِ"أشلي" ألم تنامي جيداً هذه الليلة، عيناك كعيني الباندا".

ردت بصوت ضعيف من الألم الذي أنهك قواها:

"أعاني من صداع شديد".

سألتها الفتاة بخبث:

"صداع.. أم أن صديقك منعكِ من النوم بقوة فظللتما ساهرين تتلوعان في بحر الغرام".

صاحت بعصبية:

""ماري"، كم مرة قلت لكِ أنني لا صديق لي".

قلبت الفتاة شفتيها بعدم تصديق:

"نعم هذا ما أخبرتِ به الجميع ولكننا لا نصدقك، فتاة بجمالك وقوامك ليس لها أكثر من صديق، بل ولا تسعين لأن يكون لكِ رغم طابور الممرضين المنتظرين إشارة منكِ، هذا بالإضافة للأطباء الشبان الذين يتمنون منكِ نظرة، وأنتِ تتظاهرين بتجاهلهم وكأنكِ لا ترين عيونهم ستخرج من محجريها عليكِ، فلابد أن رجلاً ما يشغلك وإلا....."

تنهدت براحة عندما أنقذتها رئيسة الممرضات من الرد وهي تنهرهما بملامحها الجامدة وصوتها الصارم:

"آنسة سميث وآنسة هاملتون ألا تظنان أن عملكما المتراكم الذي تقبضان عليه راتب أكثر أهمية من الثرثرة النسائية التي لا طائل منها".

نهضت "أشلي" مسرعة وخلفها صديقتها ليبدأ يومهما المشحون، واستمرت الأيام على وتيرتها وهي تزداد كل يوم ضعفاً عن سابقه من كثرة الإجهاد في العمل وقلة الراحة والطعام، إلى أن حدث ما قلب كل حساباتها رأساً على عقب، عندما سمعت إحدى الممرضات الصغيرات تهمس لصديقتها بحماس:

"أتعرفين من رأيت الآن، لن تصدقي إنه الدكتور "ماجواير" بنفسه، إنه كما يطلقون عليه وأكثر، ورغم ما يقال عنه أنه عدو الممرضات ولكني رغبت لو ألقيت بنفسي بين ذراعيه ولو كان جزائي الطرد فلن أهتم.."

وردت عليها صديقتها بعدم تصديق:

"أيتها البلهاء لا يمكن أن يكون هو فعمله في مبنى آخر، مبنى جراحة القلب والأعصاب ولا شأن له في قسم الأطفال".

"لا أعرف ولكني واثقة ومتأكدة مما سمعت، كان يحدث مشرفة القسم وكانت تدعوه بالدكتور "ماجواير"، فلابد أن يكون هو.. كما أنه هو الوغد الجميل الذي تثرثر عليه الممرضات، لا يمكن أن يكون منه اثنان بهذه الجمال الشيطاني".

ما إن سمعت "أشلي" هذه المحادثة حتى قفز قلبها من بين ضلوعها رُعباً خاصة عندما سمعت في الردهة أصوات أقدام تقترب من قسم المرضى الذي تقف به، فتلفتت حولها تبحث عن مكان يصلح للاختباء في حين وقفت الممرضات الأخريات يتأنقن استعداداً للقائه، ولم تجد أمامها غير خزانة الأدوية التي كانت تتسع لها بالكاد بعد أن أغلقت الباب عليها، واضطرت لاحتمال روائح الأدوية النفاذة وهي تراقب من باب الخزانة الموارب ما يحدث بالخارج فرأته يدخل المكان يسيطر عليه بهيبته ووقاره ولم يخفى عليها نظرة الازدراء التي رمق بها الممرضات ثم اقترب من أحد الأطفال المرضى، وبفعل السحر تبدلت ملامحهالعابسة لأخرى رقيقة ودودة وهو يحدث المريض كم بدا مختلفاً حنوناً وهو يجلس جواره يتجاذب معه أطراف الحديث، ثم التفت للمشرفة يسألها بجفاء وملامحه تعود لعبوسها وكأن مساً شيطانياً أصابها في لحظة:

"مَن المسئول عن هذا الطفل؟"

تلفتت حولها بحيرة وكأنها تبحث عنها ثم قالت بصوت حاولت أن يكون حازم:

"إنها الممرضة سميث يا دكتور، لقد كانت هنا منذ لحظات فقط، إنها أفضل ممرضة عندي ولكن لابد أن تعاقب على إهمالها".

ربت "ليام" على رأس الطفل بابتسامة أذابت روحها شوقاً ثم نهض قائلاً بصوت قاسي:

"نعم لا تتهاوني مع أي ممرضة صغيرة وإلا تحولت لوحش مفترس عندما تطول أظافرها".

وافقته المشرفة مغمغمة:

"أنت على حق يا دكتور إنهن وحوش صغيرات في ثياب ملائكية، شكراً لمرورك علينا دكتور".

قفزت "أشلي" خارج خزانة الأدوية ما إن تأكدت من ذهابه وراحت تتنشق الهواء النظيف بقوة وهي تسعل بشدة من رائحة الأدوية الخانقة التي أرغمت نفسها على تنشقها..

شهقت صديقتها وهي تراقبها بدهشة:

"ماذا كنتِ تفعلين في خزانة الأدوية لقد سألت عنكِ رئيسة الممرضات والدكتور "ماجواير" كان هنا، كيف فاتتكِ هذه المقابلة، سأقتل نفسي إن لم أحظى بقبلة واحدة من هذا الشيطان الوسيم".

ضاع خيالها في بحور ذكرياتها وهي تتذكر نفسها بين أحضانه تتلقى قبلاته العنيفة تسلبها كرامتها وكبريائها في كل مرة يفرض فيها قوته على حقها في مبادلته مشاعره وبإصراره على أن يحملها معه على بساطه السحري إلى عالم هو سيده وسيدها، ولكنها في كل مرة تفيق من عالمها الوردي على كابوس من الكُره والحقد والرغبة التي لا تنتهي من الانتقام ولم تجد الشجاعة الكافية لتخبر زميلتها كمّ هي مخطئة وأن جمال هذا الرجل لا يشفع له أبداً قسوته وعذابه لها..

دخلت رئيسة الممرضات لتقاطع أفكارها وثرثرة "ماري" وأمنياتها المستحيلة، تنهت بأسف عندما رأتها.

ورغم العقاب الذي أوقعته عليها إلا أنها حصلت على أول ترقية بعد شهر واحد وكذلك على أول راتب، رغم أنه لم يكن ثروة إلا أن شعورها به كان عظيماً، فقروشه القليلة كانت تعني لها النجاح في الاستقلال وإن كان قلبها هو القربان، فسددت جزء من دين "ماثيو" رغم اعتراضه ثم ذهبت لوالدها وأعطتهما استطاعت توفيره، والباقي لم يكفي لتوفي بكل التزاماتها، ولكنها لم تيأس يكفي أنها وصلت لأول درجة نجاح، بعد ذلك اليوم الذي رأته فيه عاد الحنين يراودها كثيراً لأن تراه ولو بالصدفة من بعيد، فكانت في أوقات راحتها تتسمر أمام النافذة قد تراه غادي أو آتي أو حتى يتمشى مع "فراني"، رغم أن هذا الهاجس الأخير حرك الغيرة في نفسها المؤلمة كالسكين المغروزة في قلبها، فعادت تنفي لنفسها بشدة حبها له، ولكن عندما رأته أخيراً وقد جلس مسترخي تماماً في الحديقة مستمتعاً بأشعة الشمس الدافئة غير عابئ بالعيون المترصدة له والمتطفلة، عرفت أنه قد انتهى لتوه من إجراء جراحة خطيرة فهذه عادته في التخلص من توتر أثناء الجراحة، اعترفت لنفسها بألم وهي تحدق بملامحه التي ازدادت حدتها واسمرارها تحت أشعة الشمس أنهيبدو بخير حال بعيداً عنها ثم همست لنفسها بصوت خفيض تمنت لو تصله نبراتها:

"آسفة حقاً إن كنت سببت لك أي ألم في الماضي، فقط لو تصدق أنني مختلفة و...تحبني".

"آنسة سميث ماذا تعملين عندك؟"

في أبعد مكان داخل نفسها وضعت ذكرياتها عنه، وأحكمت إغلاق كل البوابات والأقفال عليها وحاولت أن تعيش، ربما بنصف عقل وبقلب مكلوم، وبلا روح ولكنها في النهاية أقنعت نفسها أن هذه هي الحياة ظالمة ومستعبدة وهي لن تكون عبدة باختيارها أبداً، ولكن فجأة عندما وجدته أمامها بدون أي إنذار أو استعداد، تحطمت كل الأقفال بنظرة واحدة من عينيه مرت عليها بلا مبالاة وكأنها لا شيء، ولا حتى نسمة هواء تنفسها واخترقت يوماً ما صدره بعبيرها.

"ماذا تفعلين عندك يا آنسة؟"

التفتت مصدومة لرئيسة الممرضات التي فاجأتها، فالتفتت نحوها مصدومة وكأنها ضبطتها متلبسة بالجرم المشهود:

"آه عفواً سيدتي..لقد أنهيت عملي ووقفت لأستنشق بعض الهواء".

فوجئت بابتسامة المرأة الأكبر سناً تهدئ من روعها:

"استرخي "أشلي"، أعلم أنكِ أنهيتِ مناوبتك لما لا تنزلين للحديقة لتستنشقي ما تشائي من هواء، فهو أكثر انتعاشاً هناك، في الحديقة".

اختلست نظرة للحديقة ثم التفتت لرئيستها:

"سوف أحل مكان "ماري" في الليل ووعدتها أن أبقى".

"أنتِ تحيريني يا فتاة، كل الممرضات يستغلين أي فرصة ليهربن للحديقة ليلتقين بالأطباء الشبان وليختلين مع أصدقائهن في ظلال الأشجار، وأنتِ منذ تسلمك العمل، لا تغادرين هذا القسم إلا لتعودي لبيتك، لما لا تتمتعين بشبابك وبحياتك مثل باقي الفتيات ولو اضطررتِ للتهور في بعض تصرفاتك، فأنتِ جادة أكثر ما يسمح به سنك الصغير".

تمتمت "أشلي" بصوت خفيض:

"أنا أحب عملي وسعيدة به ولا أرغب إلا في التفوق فيه".

تنهدت الحكيمة بزفرة تعجب:

"لديكِ خبرة كبيرة بالنسبة لممرضة مبتدئة، هل مارستِ المهنة من قبل؟، لاحظت أن تاريخ تخرجك من عدة سنوات مضت".

تنهدت "أشلي" كارهة نفسها لاضطرارها الكذب:

"نعم عملت ممرضة خاصة ولكن أوراق خبرتي ضاعت و.."

دخلت "ماري" بصخبها المعتاد لتعفيها من سرد المزيد من الأكاذيب عن حياتها الزائفة:

""أشلي" هل أنتِ مستعدة الآن لتحلي محلي..أنا شاكرة لكِ يا عزيزتي، و"جيمي" أيضاً يرسل لكِ خالص شكره، آه عفواً سيدتي إلى اللقاء".

 انصرفت الفتاة مسرعة قبل أن تتمكن أي منهما من الرد عليها.

كان المكان هادئاً في الليل بعد أن خلد كل الأطفال للنوم هانئين في أسرتهم، تسللت على أطراف أصابعها حيث تقف المشرفة تراقب سير الأمور بعين المراقب الحذرة.

"كل شيء على ما يرام آنسة سميث؟"

"نعم سيدتي".

"جيد جداً بإمكانك نيل قسطاً من الراحة الآن، أوه من أنت؟ لقد أخفتني يا دكتور لم أتوقع زيارتك في هذا الوقت".

كانت مفاجئة لها أيضاً فلم تجد الوقت للاختباء وهو واقف يراقب المكان حوله بعيني الصقر، بعد أن جال بعينيه في المكان بنظرات صارمة قال بصوته الذي تخلل كل خلية من خلاياها وكأنها كانت أرض عطشى مشققة من الاشتياق، وجاء مطر نبراته ليرويها ويروي شوقها الشديد إليه.

"المكان هادئ هنا".

ردت المشرفة بغيظ:

"نعم دكتور، بفضل الممرضة سميث فهي..."

قاطعها دون أن يلتفت نحو الممرضة التي تشير عليها:

"أين الحالة التي وصلت لكم اليوم من قسم الطوارئ؟"

"إنها في عهدة الممرضة سميث".

ولأول مرة يلتفت نحوها ليحدجها بنظرة ثلجية اخترقت عظامها وأشعرتها وكأنها في قلب عاصفة هوجاء أطاحت بما تبقى من ثباتها، أفاقت على صوته الصارم ينهرها بقسوة:

"ما بكِ يا آنسة مسمرة هكذا كالتمثال الحجري، أين الطفل قدمي لي تقرير كامل عنه..أسرعي".

حمل الان  / تطبيق حكايتنا للنشر الالكتروني واستمتع بقراءة جميع الروايات الجديده والحصريه 


الكاتبة ميرفت البلتاجي
الكاتبة ميرفت البلتاجي
ميرفت البلتاجي عضو اتحاد كتاب مصر و كاتبة في مجالات أدبية متنوعة المجال الروائي روايات اجتماعية وفانتازيا ورومانسي وصدر لها على سبيل المثال لا الحصر أماليا \ ناريسا \ ألا تلاقيا \ لقاء مع توت شاركت مع الهيئة العامة للكتاب في سلسلة ثلاث حواديت نشر لها قصص مصورة في مجلة فارس، ومجلة علاء الدين..ومجلة شليل وكتبت في مجال أدب الطفل عشرات القصص إلكترونيا وورقيا. ولها العديد من الإصدارات الإلكترونية لعدة مواقع عربية موقع مدرسة Madrasa تطبيق عصافير شركة وتطبيق Alef Education
تعليقات