" " " " " " " " رواية حفنة من رماد (الفصل الثامن)
📁 آحدث المقالات

رواية حفنة من رماد (الفصل الثامن)

 


عاشقة تسأل الفراق

أسألك الفراق .

فك قيدي وأغلال تطوق عنقي

دعني عنك أرحل

فما عدت أطيق البعاد

أنت لي ..وملك امرأة غيري

أبداً لن أنساك

أبداً سأبقي علي هواك

فهو مسطور علي جبيني من يوم لقياك

أسألك العذاب الأبدي بدون رؤياك

لا تعطف ..لا تشفق

علي حبي وهواك

فقدرهما عذاب قربك ونار بعدك

لا تبكي حبيب العمر فما سألتك

 إلا ما الموت دونه أهون

بدموعنا سننقش اسمينا علي جدار الزمان

ويخلد للأبد منارة للعاشقين

أسألك أن تعتقني من أسرك الجميل

أن تهبني حريتي لأهيم في الدنيا

شريدة..وحيدة..متيمة

وبذكراك

..مجنونة..مجذوبة..محطمة

لا تسأل عني ولا تدمع عيناك بذكري

وبكأس من خمر الدنيا انسي حبي

فأنا لا أستحق قلبك ولا حبك

بيدي غرست بذور الفراق

وحصدناها ألماً  ولوعة واشتياق

أسالك بحق لحظة تعانقت فيها أحداقنا

بحق همسة جمعت بين شفاهنا

أو لمسة حشدت مشاعرنا في أناملنا

أن تودعني بابتسامة اللقاء

أن تنسي يوما لحظة الفراق

أن تبحث دوماً عن حباً بلا اشتياق

ولكنك لن تجد أبداً

مثلي

عاشقة تسألك الفراق

******************** 

الارتواء... كمّ سخرت من نفسها كلما فكرت أن ارتباط هذه الكلمة في عقلها من اللحظة التي فارقته فيها.. برؤيته مرة أخرى.. ولكن الإحساس بالخواء وبالصدمة كانا مرادفان في هذه اللحظة لكلمة خيانة... خيانة إحساسها.. خيانة قلبها... خيانة أنوثتها التي ضاعت بين ملامحه العابسة وبرودة أحاسيسه الثلجية وهو ينظر في عينيها وكأنه لا يراها.. وكأنها غير موجودة.. كانت وستظل مجرد طيف مرّ بحياته.. وكل هذه الأحاسيس كان عكس ما تعرف تماماً عن الارتواء.

وكان الارتواء من ناحيته قد اتخذ منحنى آخر تماماً.. من أول لحظة سمع فيها شائعات بوجودها.. إلى إحساسه بها في أول زيارة والإحباط الذي تبع تلك الزيارة الفاشلة.. فقرر أن يفاجئها بزيارة أخرى في وقت لا تستطيع فيه الهرب... وكانت لحظة الارتواء التي امتلأت فيها تماماً كل وجدانه وأحاسيسه المحبطة من لحظة هروبها وقد ظن أنه لن يهتم أبداً ولكن ما حدث كان العكس تماماً فأصبح الأرّق ضيفاً ثقيلاً غير مرغوب فيه في تلك الليالي الطويلة بدون دفئ أحضانها، ظن أنه أفضل حالاً.. ولكن قلبه عزف نغمات مستوحدة مختلفة لتسخر منه ومن ادعاءه باللامبالاة... وعندما رآها أمامه تجسدت مرة أخرى كل صورها القديمة المظلمة، التي قرر في لحظة ندم أن يحرقها كلها في مقابل أن ترضى بالعودة له.. لقد بَنت لنفسها كياناً منفصلاً عنه.. تقف أمامه بعينين من زجاج وكأنه لا يشكل لها أي أهمية.. لم ترتمي على صدره تعلن ندمها.. مَن هي.. مَن تكون لكي تترك به كل هذا التأثير.. وهو ليس بحاجة إلا أن يثبت لنفسه أنه يستطيع التخلي عنها كما فعلت بسهولة..

أعاد سؤاله مرة أخرى بحدة أشبه بزلزال أرضي:

"ما بكِ يا آنسة مسمرة هكذا كالتمثال الحجري، أين الطفل قدمي لي تقرير كامل عنه.. أسرعي".

زفراته العدائية أعادتها للواقع فردت بارتباك، وكأن سطلاً من الماء المثلج انسكب على عواطفها الحارة التي أوقدتها عينيه في كيانها الهش.

"آسفة يا... دكتور.. تفضل .. من هنا".

دعت الله أن تظل متماسكة، فهو لن يسهل عليها الأمور خاصةً الآن وقد وجدها، مَن تجرأت وهربت من جبروته الظالم.. مَن سمحت لنفسها بتحديه وهو الدكتور العظيم الذي لا يقف بوجهه عاقل ويفلت بفعلته، فما بالك بزوجة هاربة هجرته.. أم أنه كان يراقبها طوال الوقت ويلاعبها من بعيد كالقط الذي يسمح للفأر بالهروب داخل قفصه بانتظار اللحظة الحاسمة التي يظن فيها أن عبير الحرية قد أصبح داخل أنفاسه.. لينشب مخالبه المفترسة فيه ويجهز عليه... كما توقعت، أثناء تقديمها للتقرير صرخ بها بصوت مرتفع ارتجت له جدران القسم لما ظنه إهمالاً، فتوسلته بهمس:

"أرجوك يا دكتور اخفض من صوتك، الأطفال نيام ولو استيقظوا..."

رد بصوت ثائر:

"عملك الذي تقبضين عليه أجراً في نهاية الشهر، يُحتم عليكِ أداء عملكِ بتفاني، وهذا يتضمن إعادتهم لأسرتهم إن استيقظوا، وإلا اتركي عملك لمَن هي بحاجة إليه أكثر منكِ".

تلقت كلماته الجارحة بصبر حتى أفرغ شحنته وغادر المكان بخطوات منتشية بالنصر بعد أن حدجها بنظرات احتقار وقرف، تمنت بعدها لو تنشق الأرض وتبتلعها كي لا تواجهه مرة أخرى في حياتها.

انهارت على الأرض مصدومة لا تُصدق ما حدث للتو، ربتت المشرفة على كتفها مواسية:

"لا بأس لا يقال عنه عدو الممرضات هباءاً، وهو أقل بكثير من الحقيقة كما رأيت بنفسي، يبدو أن الإشاعة التي سمعتها حقيقية".

رفعت "أشلي" رأسها إليها متسائلة:

"أي إشاعة؟؟؟".

"ألم تسمعي..؟ يقال أن مجلس الإدارة قدم له عرضاً ليتقلد منصب مدير المستشفى، وهو ما يزال في مرحلة التفكير ولكن بوجوده هنا الليلة... يبدو لي أنه اتخذ قراره، وها قد بدأ بممارسة مهام عمله بتحويل حياتنا جحيماً".

ظلت ليلتها تعاني من كابوس لقاءه الغير متوقع، خائفة مرعوبة أن يعود لزيارتها في أي وقت، ولكن شمس الصباح أشرقت دون أن يطل عليها بقامته الفارعة وعواصفه الغاضبة، عادت لبيتها منهكة متعبة، فلم تشعر بالسيارة التي تتبعتها من المشفى إلى بيتها، والتي ظلت متوقفة بعد دخولها أسفل البيت فترة طويلة وصاحبها تتقاذفه مشاعر الحيرة والكرامة الجريحة مع أثار ندوب عميقة من الهجر الغير متوقع، واحتار ماذا يفعل معها بعد أن عرف أي حياة اختارتها بعيداً عنه، وأي حياة؟؟!!، هز رأسه غير مصدق ما يرى، هذا المكان الذي هربت إليه منه، لا يصدق أنها فضلت أن تعيش في جُحر الفئران هذا على البقاء معه!!!

لماذا؟؟ اجتاحته رغبة مؤلمة بالأخذ بالثأر لكرامته الجريحة، بدلاً من الشعور بالارتياح المفروض عندما هجرته بلا رجعة، أياً كانت أسباب هجرها له، ولكن أليس هذا ما كان يريده، من أول لحظة عرف فيها أنها ستعود لحياته مرة أخرى، وها قد تحققت كل أمنياته، فلماذا السعي خلفها والرغبة المتقدة في هزها حتى يشفي غليله منها_ لكل جرائمها في حقه، ثم بعدها يأخذها بين أحضانه ويضمها لقلبه كي لا تفارقه أبداً وللأبد.... تأمل البيت القديم حيث تقطن وهز رأسه متعجباً، المرأة التي تزوجها لا تهجر حياته المترفة الهانئة لتلقي بنفسها في هذا الجُحر القذر، ولم تكن لتهين نفسها بالعمل كممرضة مبتدئة بدون أي شهادات خبرة، لماذا تقوم بكل ما هو ضد مبادئها التي يعرفها عن ظهر قلب؟؟، لماذا يشعر نحوها بالمسؤولية بل ويشغل تفكيره بها لدرجة وقوفه تحت بيتها هكذا بلا مبرر، أو هدف لكل هذا الوقت سوى تعذيب نفسه، ضغط بقوة على دواسة البنزين فانطلقت السيارة مطلقة صرير مزعج باحتكاك كفراتها بالإسفلت من قوة انطلاقها.

استلقت في فراشها بعد أن تناولت النذر اليسير من الطعام، فقد فقدت شهيتها بعد أحداث الليلة العاصفة ولقاءها مع مَن اِعتاد ذبح قلبها في كل مرة يلتقيان، انهارت باكية فجأة عندما أدركت أخيراً محاولاتها للكذب على نفسها، كمّ كانت غبية عندما هربت منه وظلت حريصة على الاختباء كي لا يجدها وهو لم يكلف نفسه عناء البحث عنها أو القلق على مصيرها لدرجة أنه لم يأبه عندما رآها أمامه وكأنّ وجودها أو عدمه لا يؤثران عليه قدر ذرة، وربما لم يفقد أثرها لحظة واحدة، وأنه الآن بانتظارها كي تعود لذُل الحياة معه مقرّة بذنبها في هجره... بألم تذكرت كيف كان يحيطها بذراعيه برقة في المرات القليلة التي ينسى فيها قسوته أو ينسى جرائمها في حقه، وكيف كان يجبرها على الاستجابة لقبلاته برقته وسحره، والآن يبدو أن "فراني" تكفيه وترضيه فلم يعد يأبه حتى بالنظر في وجه زوجته العاصية...

اتصلت بـ"ماثيو" في اليوم التالي لتُبلغه رغبتها برؤيته ولكنها أحبطت حماسته عندما رفضت دعوته على الغداء وترجته أن يقابلها في شقتها ورغم تذمره من تصريحات مالكة البيت ولكنه لم يعترض.

كانت الليلة أكثر برودة من أي يوم آخر، الضباب يفترش الشوارع بغلالته البيضاء النقية ورغم كثافتها وصعوبة الرؤية خاصةً في سواد الليل البهيم، استطاع "ليام" القابع مكانه داخل سيارته أسفل منزلها كعادته كل يوم منذ عرف مكان سكنها، أن يتعرف على سيارة الطبيب الشاب، وازداد يقينه عندما رآه يتأنق قبل أن يخطو داخل البيت مسرعاً هارباً من رذاذ الندى المتطاير المصاحب لغلالة الضباب، شعر بجسده كله ينتفض من الاحتقار، واشتعلت مراجل الغضب لتتفجر برأسه وقد وجد الشيطان سبيله ليلهو به ويصور له أبشع ما يحدث فوق في شقة زوجته وربما على فراشها.

فقد "ماثيو" حماسته التي انتفخ بها صدره بآمال عريضة طوال النهار، من لحظة اتصالها به، وقد ظن أنها ربما تكون قد فكرت في عرضه وتراجعت عن قرارها وهي على استعداد الآن لأن تستسلم له وتنسى "ماجواير" وكل ما يمثله في حياتها، ولكنه أحبط تماماً عندما فتحت الباب وقابلته بوجهها الحزين الشاحب والدموع المحتبسة خلف رموشها المبللة.

"أهلاً "ماثيو".. تفضل".

"ماذا بكِ يا "أشلي"؟"

بدأت بسرعة بإفراغ ما يضغط على أعصابها.

"لقد رآني "ليام" و.. عرف مكاني".

أزاح شعره بأصابعه للخلف وهو يصيح وقد باغتته بالخبر:

"يا إلهي.. هل تشاجرتما؟"

"على العكس تماماً، لم يبدو عليه أنه حتى استطاع التعرف عليّ".

صاح ساخطاً:

"ما هذا الهراء كيف لم يعرفكِ؟"

تنهدت قائلة بألم:

"بمعنى آخر... تجاهلني وكأني نكرة في حياته أقل من مجرد امرأة قضى معها ليلة عابرة".

"هدئي من روعك، هل هذا ما يحزنكِ لدرجة المرض، رغم أننا لم نتوقع هذه النتيجة، ولكن لابد أن تكوني سعيدة فالأمر ليس بالسوء الذي توقعته وإن كان لا يهتم بكِ للدرجة التي تخيلتها، ربما لو طلبتِ الطلاق الآن لن يمانع، "أشلي"... مازالت دعوتي للغداء مفتوحة، فأنا لم أتناول طعامي بعد... هيا ارتدي شيئاً ثقيلاً وتعالي معي، سنسهر سوياً الليلة وبعدها لن تتذكري رجلاً باسم "ليام ماجواير" هذا".

"أرجوك يا "ماثيو"... لا شهية لي كما.. كما أني لا أملك الملابس المناسبة لأي مكان يمكن أن نسهر فيه".

"هيا أيتها المدعية، لا تبحثي عن أعذار واهية للإفلات مني، سأصطحبكِ لمكان لا يهتم بالشكليات، ولن أقبل بأي اعتراض هيا أنتِ بحاجة لبعض التغيير، من قبل كُنتِ مقيدة بقيود وهمية فولاذية صنعها عقلك وأغللتها بأوهامك وحدها، والآن بعد أن اتضح أنها مجرد قيود من خيوط أكثر وهناً من خيوط العنكبوت، لا داعي لأن تعيشي تحت رزح هذا الضغط مرة أخرى".

وأمام إصراره لم تجد مناصاً من الرضوخ، فدخلت غرفتها وعادت بعد لحظات ببنطلونها الجينز والتي شيرت، هز رأسه باستياء:

"هذا لن يقيكِ شرّ البرد كيف لم تأخذي معكِ ما يكفيكِ من ملابس".

ردت بعناد:

"عندما أشتري ملابس بمالي الخاص سأعيد له هذه.. حتى لا يمس جسدي أي شيء يملكه، أرتديها فقط لأنني لا أملك غيرها".

خلع معطفه ورغم اعتراضها وضعه على كتفيها وخرج وهو يحيطها بذراعيه ولم يتركها حتى أدخلها السيارة ولحق بها ليقود مبتعداً عن العينين المتلصصتان في الظلام... قبل أن يقرر المراقب الغاضب من بعيد إطاعة شياطينه الغاضبة بتحطيم رأسيهما بقبضته.... تلك الخائنة وعشيقها، ولكنه ظل متحكماً في أعصابه الثائرة وهو يعذب نفسه بمراقبتهما وكيف يحيطها "ماثيو" بكل هذه الحميمية، وهي ترتدي معطفه وتمنحه ابتسامة أشعرت الزوج الغاضب وكأنه تلقى لكمة من قبضة فولاذية في صدره كان يفضل لو كان ميتاً بدلاً من مكابدة هذا الشعور القاتل وكأنه يُسلخ حياً، ضرب المقود بقبضتيه وأسرع بالضغط على دواسة البنزين بكل ما يشعر بغضب عاصف للحاق بهما حتى وصلا لمطعم هادئ لا يصلح إلا للقاء العشاق، وظل مستمراً بتعذيب نفسه بانتظارهما بالخارج، ولم يأبه برذاذ المطر الذي أخذ بالتزايد مع الوقت... ولا بالبرد الذي لم تؤثر به التدفئة في السيارة لدرجة أنه كف عن الشعور بأطرافه.. وربما كان البرد مظلوماً من الاتهام، وكان للإحساس الذي يخترق عظامه أسباب أخرى... وطال انتظاره حتى كاد أن يدخل إليهما عندما انتصف الليل ولم يغادرا بعد، حتى لو صنع من نفسه أحمقاً مستهيناً بكل العواقب..، وقبل أن يهمّ بالتحرك كانا قد خرجا ككيان واحد متلاصقان، دون أن يلاحظا سيارته، دمدم بكلمات زاجرة غاضبة وهو يطالع المشهد المكرر، الطبيب الشاب يحيطها بذراعه وكأنها كنزه الثمين الذي يخشى عليه من السرقة، ولم يتركها إلا بعد أن جلست في السيارة، وما زاد من حنقه وغضبه الهمسات التي تحولت لضحكات متبادلة حمل هواء الليل البارد رنينها إلى أذنيه... كاد أن ينخلع المقود في يده وهو يقود مرة أخرى خلف سيارتهم، إلى أن عادا لشقتها مرة أخرى، وكانت القشة الأخيرة وهو يودعها أمام السيارة وهو تمد يدها له بالمعطف لتشكره فجذب يدها ليطبع قبلة دافئة على شفتيها الباردتان المرتعشتان، الآن فقط تأكد أن العلاقة بين هذين الاثنين أبعد ما تكون عن البراءة ولكن فيمَ هذه المحادثة الطويلة ومن الواضح أنها تكاد تتجمد من البرد، هذا ما لم يفهمه فلم يصله حوارهما الغاضب عندما فاجئها "ماثيو" بقبلته الخاطفة والتي لم تستطع تفاديها.

""ماثيو".. لماذا فعلت ذلك؟ ألم نتفق على الصداقة".

أطرق رأسه خجلاً من تصرفه المتسرع:

"سامحيني عزيزتي ولكني لم أستطيع المقاومة فأنتِ جذابة إلى حد كبير".

عقدت ذراعيها على صدرها متسائلة بسخرية:

"وبعد ذلك ماذا تريد؟ أن أدعوك لفراشي، لتعرف كمّ أنا ممتنة لكل ما عملته معي؟ أهذا كل ما يريده أي رجل من أي امرأة لقاء بعض الـ..."

قاطعها بحدة مدافعاً:

""أشلي" أنا آسف.. حقاً لم أقصد كل هذا السيناريو الذي دار برأسك".

صاحت بنشيج متقطع من خلال دموعها الحارة:

"كلكم ذلك الرجل، تبذرون أموالكم والهدايا الثمينة والمقابل واحد لا يتغير.. ولكن أتعرف يا "ماثيو".. حتى أنت رغم طيبتك لا تملك الثمن الكافي ليملأ عينى امرأة مثلي".

دخلت مسرعة وتركته واقفاً في مكانه مذهولاً من انفجارها الغريب.. وكلماتها الأكثر غرابة، ولكنه انسحب متحسراً على الفرصة التي أضاعها من بين يديه ليكون معها، سيكون الآن آخر رجل بعد زوجها قد تفكر بالخروج معه.

هطل المطر بغزارة في تلك الليلة، ورغم ذلك لم يقتنع هذا الرجل القابع في سيارته فريسة لكل الأفكار السوداء تنهش عقله وقلبه، ليذهب للبحث عن الدفء في منزله، فظل مكانه دون أن يريح نفسه ولو بالاعتراف عن ما يبقيه هنا في البرد والمطر خاصةً بعد أن تأكد بالدليل القاطع أنها لا تعيش كقديسة، فهي بدأت كغانية وانتهت بما هو أسوأ.

دخلت شقتها لا تكاد ترى أمامها من الصداع الذي يشطر رأسها بآلامه المبرحة، راحت تلف وتدور بدون هدف داخل شقتها الصغيرة لعلّ صوت المطر ووقع صوته على النوافذ ينسيها ألمها المبرح، ولكن ما حدث أنه راح يزداد سوءاً في كل لحظة، فأسرعت تخرج من شقتها لتدق على باب الشقة المجاورة بإلحاح، طلت من شق الباب وجه جارتها ذات الشعر المصبوغ بطريقة فجة باللون الأحمر وظلت تحدق بها بفضول بعينيها الناعستين وقد سال الكحل على وجهها فبدت كـ"بوزو" المهرج وقد صحا من النوم لتوه

تمتمت بصوت مرتجف من البرد والألم:

"أعتذر يا "سالي" عن إزعاجك في هذه الساعة، ولكني مضطرة للأسف للخروج لشراء دواء لصداعي من الصيدلية وكما ترين الطقس ماطر بالخارج، هل تعيريني معطف المطر رجاءاً؟"

لاكت الفتاة الكلمات في فمها كمن تمضغ علكة ثم هزت كتفيها بلامبالاة:

"ولمَ لا؟ انتظريني لحظة واحدة".

دخلت الفتاة للحظات ثم عادت تناولها معطف المطر ومعه نقود تطلعت لها "أشلي" بدهشة متسائلة بصمت فردت الفتاة بصوت كسول:

"آه.. لو لم يكن لديكِ مانع حبيبتي، هلا اشتريتِ لي من الصيدلية جهاز اختبار الحمل المنزلي؟"

هزت "أشلي" رأسها بموافقة اضطرارية وأسرعت بارتداء المعطف لتحتمي من العاصفة الماطرة بالخارج، رغم أنه لم يمنع عنها البرد ولكنه حماها من أن تبتل ملابسها.

لم يصدق "ليام" عيناه وهو يراها تخرج في مثل هذا الوقت وهذا الطقس وكاد أن يُكذب عيناه ولكنه يعرفها جيداً ويعرف طريقتها في المشي، وإن لم يعرفها من شكلها، فقد عرفها قلبه الذي راح يدق بجنون، تبعها بهدوء بسيارته وقد استبد به الفضول لمعرفة وجهتها في مثل هذا التوقيت ولم يتعجب كثيراً عندما رآها تدخل صيدلية وما هي إلا لحظات وخرجت منكفئة الرأس بإحباط غريب استشعره من ارتعاشة قدميها وهما تضربان على الأرض المبتلة بترنح وكأنها تكاد تنوء بحملها، دخل الصيدلية بعد خروجها ولم يغادر إلا بعد أن عرف سرّ زيارتها الليلية لهذا المكان، خرج وبراكين الغضب تتفجر في رأسه وسؤال حائر يبحث بلهفة حارقة على إجابة، لماذا تريد جهاز اختبار الحمل المنزلي هل تشُك أنها....؟ لا مستحيل لقد تناولت الحبات في كل مرة.. كما أنه كان قد أوصى "بريانكا" منذ عودتها أن تعطيها الحبات في كوب العصير كل ليلة خفية خوفاً من أن تعاود ألاعيبها القذرة.. ولا يمكن أن تخدعه "بريانكا" كما لا يمكن أن تكون...؟

وهذه المرة لم يصبر على البقاء ساكناً في سيارته، فأسرع صاعداً لشقتها قافزاً فوق الدرجات مثنى وثلاث وراح يطرق الباب بكل قوته حتى كاد أن ينخلع من مكانه.. في نفس التوقيت كانت في حمامها الضيق البارد تعرض جسدها المنهك تحت رذاذ المياه التي لم تصل لدرجة السخونة كي تخرج منها البرد الشديد.. ولكنها استسلمت لرذاذه لعله يخفف من حدة هذا الصداع الملعون، بعد أن رفض الصيدلي إعطائها الدواء الذي طلبته إلا بوصفة خاصة من الطبيب، عندها انتبهت للطرقات المتوالية على بابها بقوة أسقطت قلبها في قدميها من الرعب، فأسرعت متسائلة عمَن يمكن أن يزورها في هذه الليلة المشحونة بالأحداث، لفت جسدها المرتجف بالمنشفة وركضت ترتعش من شدة البرد خاصةً بعد خروجها من دفء الحمام لشقتها المثلجة.

وقفت خلف الباب متسائلة بأسنان تتخبط في بعضها وقد ازرقت شفتاها:

"مَن بالباب؟"

كان الرد المزيد من الطرقات الغاضبة، فظنت أنها ربما تكون جارتها "سالي"، جاءت تطالبها برد ما تبقى من مالها_ بعد أن اشترت لها اختبار الحمل المنزلي.

فتحت الباب وتطلعت بصدمة للطارق وتراجعت متمسكة بأطراف المنشفة وقد نسيت البرد بعد أن اجتاحتها سخونة في كل أنحاء جسدها حتى الأطراف، أفاقت من ذهولها على الباب وقد أغلقه بقدمه وراح يتطلع باحتقار لشقتها البسيطة، استجمعت شجاعتها وهي تتساءل بصوت متحشرج وأسنان مصطكة من البرد:

"مــ.. مـ.. اذا تفعل هنا؟أرجوك اذهب لم يعد بيننا ما يُقال".

دفعها عنه بأطراف أصابعه وكأنّ لمسها سيوسخ أصابعه الطاهرة:

"ارتدي شيئاً أولاً قبل أن تصابي بنزلة رئوية، وأنا سأبحث عن المكان الذي يمكن فيه إعداد فنجان من القهوة فيه في جُحر الجرذان هذا".

لم تجادله رغم رغبتها الحارقة في ذلك، ولكنها كانت في وضع لا يسمح لها بأي جدل، لا يسمح إلا بالطاعة، فاستدارت متجهة لغرفتها وأغلقت الباب خلفها بعنف، وأسرعت تبحث عن قميص نومها الوحيد ارتدته على عجل ولفت شعرها المبلل بالمنشفة وهمت باللحاق به في المطبخ ولكنها وجدته متصدراً باب غرفتها وقد حمل الكوبين في كلتى يديه، حدق بما ترتديه شذراً وتساءل بغضب:

"هل أنتِ مصرة على التقاط المرض، اذهبي وارتدي شيئاً دافئاً، اللعنة".

هزت كتفيها محاولة ألا ترتجف من البرد الذي يكاد يسحق عظامها، ولكنها تفضل الموت على أن تعترف له بذلك:

"أنا لا أشعر بالبرد وهذه الملابس تدفئني تماماً".

صاح متهكماً باتهام:

"وربما لا تملكين غيرها".

احتدت بانفعال:

"هذا ليس من شأنك".

دفعها جانباً ودخل غرفة نومها الصغيرة رغم اعتراضها وضع الكوبان في مكان قُرب فراشها الصغير ثم عاد إليها ليشدها من مرفقها قاومته فأحبط محاولاتها بسهولة فقد كانت أضعف من أنّ تواجهه، دفعها للفراش ورتب الأغطية حولها ثم تلفت حوله متسائلاً:

"ألا توجد مدفأة في هذه الثلاجة التي تعيشين فيها؟"

ردت بإحباط:

"لا.. لا يوجد".

مد يده وأعطى لها كوبها ورشف رشفة من كوبه، وبعد صمت دام عدة رشفات حطم أعصابها متسائلاً بلا مبالاة وببرود أكثر صقيعاً من طقس يناير:

"ماذا كانت النتيجة؟"

"أية نتيجة؟"

رد باشمئزاز وبكل نظرة من عينيه سهام اتهام مسمومة، استطاع أن تحملها نظراته القاتلة نحوها وهو يتشدق بمعلوماته التي يحملها مراقباً بتسلية مقيتة ذهولها وشحوبها:

"نتيجة اختبار الحمل المنزلي الذي اشتريته من الصيدلية منذ نصف ساعة فقط".

 

****

الصعود إلى الهاوية

*************

 

لا تدري لماذا تذكرت في تلك اللحظة موقف غرق اليخت.. وضياعها في البحر.. واللحظات التي شعرت فيها عندما أوشكت على الموت لدرجة الاستسلام التام لتيارات البحر، تتقاذفها كخشبة طافية على وجه الماء.. كان الإحساس ذاته.. الشعور بالضعف والاختناق والآلام، آلام رهيبة تنخر كل عظمة في جسدها فكان الترحيب بالموت أسهل السبل كي تحمي نفسها من الشعور بهذا الألم، ولكن لم يبدو على جلادها أنه شعر بأي من أحاسيسها المحطمة..

رشف رشفة أخرى من السائل الساخن وتساءل بتهكم:

ـ لا تتظاهري بالغباء.. تعرفين عما أتحدث، أعرف أنكِ اشتريتِ اختبار الحمل المنزلي.

جف حلقها لدرجة الاحتراق وشهقت مصدومة:

ـ هل تراقبني؟!

بحثت في ملامحه.. في عمق عينيه الأسود الحالك.. فلم تجد إلا القسوة والاتهام الظالم يطل من كل خط يجعد ملامحه العابسة..

ـ لا تتهربي من الإجابة.. وأجيبي عن السؤال.. ماذا كانت النتيجة؟.

فكرة شيطانية تلاعبت برأسها.. ورغم محاولاتها المستميتة كي لا تخرج لفمها، ولكنها انتصرت في النهاية، رسمت ابتسامة ماكرة تلونت بها شفتيها وهي ترشف رشفة من السائل البني الحار مع ارتفاع أحد حاجبيها بنظرة إغواء محسوبة:

ـ ما رأيك أنت؟

صرخ بتوعد وقد انتفخت أوداجه من شدة ما يكبت من غضب وهي تعود للصورة التي كرهها لدرجة الموت:

ـ لا تتخابثي يا امرأة.

ردت بنزق ونبرات دلال قفزت من بين كلماتها بدون أن تستطيع تقييدها:

ـ ماذا تريد مني.. ليام؟؟.. لقد هجرتك منذ أكثر من شهر، ولم تكلف نفسك عناء البحث عني، وعندما رأيتني في المشفى تجاهلتني.. كما لو أنك لا تعرفني.. أخبرني أولاً.. كيف علمت بوجودي؟؟

رد بابتسامة واثقة:

ـ هل ظننتِ بعقلك الصغير.. أنكِ يمكنك الاختفاء تحت سمعي وبصري ولا أعرف؟!.. ظننتك تقدريني أكثر من هذا!!.. لو كنتِ لا تعلمين.. فمنذ اختفاءك ولي عيون في كل مكان ترصد ظهورك.

زفرت متمتمة:

ـ أعتذر لغبائي.. ولكن اقتحامك لشقتي بطريقتك المفزعة، لتسألني سؤالاً أنت أكثر دراية مني بالإجابة عليه.. جعلتني أشك بقدراتك.

أدار الكوب بين أصابعه بعصبية قائلاً في محاولة جيدة كي لا تلتف أصابعه حول عنقها، ولا يتركها قبل أن تلفظ آخر أنفاسها بين يديه:

ـ قد لا أكون بالدراية الكافية لكل الأمور، خاصة وأنكِ هجرتني منذ فترة معقولة تتيح لكِ أن تتلاعبي بي من جديد،  لذلك أطرح عليكِ هذا السؤال... وأريد إجابة واضحة وصريحة.

سألته بوقاحة وجرأة وهي تخرج لسانها بحركة إغواء أخرى لتلتقط قطرة من القهوة تعلقت بطرف شفتها العليا:

ـ هل تتهمني صراحة يا ليام أني على علاقة برجل غيرك؟.. أوه.. كم هذا محبط لرجولتك التي تعتز بها كثيراً!..

حدق بها للحظات دون أن ينطق بحرف، ثم ازدرد لعابه بصعوبة وكأنه يحاول إيجاد مخرج لهذا الموقف العصيب، وإلا.. البديل.. أن يجذبها من تلابيبها ليقتلها بين أحضانه المتلهفة لضم تلك المغوية وتحطيم ابتسامتها الآثمة بكل خطاياها!!..

 علا رنين ضحكتها الشيطانية بسخرية:

ـ إنك حتى لا تملك الجرأة لتلقي هذا الاتهام.. أليس كذلك؟ ولا حتى لتعترف أني أنا.. الممرضة الحقيرة.. التي لطالما قللت من قدرها، فضلت رجلا ً آخر عليك.. وليس هذا فحسب.. بل أني أحمل له طفله، بعد أن رفضت أنت أن أنال هذا الشرف الرفيع بحملي لطفلك!!.. أليس هذا رداً كافياً على معاملتك القاسية لي؟.. ماذا ستفعل الآن.. ليام.. هل ستجرني من شعري لبيتك لتنتقم مني؟؟.. لن تجرؤ على هذا!!.. ولن أسمح لك.. خاصة بعد أن وجدت رجلاً يحبني ويقدرني ويفخر بي كأم لطفله..

نهض مبتعداً عنها وعن سمومها التي تقذفها من فمها بدون رادع..

 فأكملت بدون وعي، وكأن شيطانها لم يكتفِ بعد بتحطيم كل جدران الثقة التي حاولت أن تبنيها بصبر دؤوب لبنة.. لبنة.. في سعيها لإقناع ليام أنها تغيرت بالفعل.. فأردفت بنبرة ساخطة متكلفة:

ـ أم أنك ستعود لعصر الفرسان؟!.. تغمد سيفك.. وتتصرف مثلهم بشهامة.. وتتنحى عن الطريق.. لأنعم بالحياة السعيدة مع رجلي وطفلي القادم.

رغم وقوفه صامداً متحملاً نفثاتها السامة، ولكنها شعرت في مرحلة ما.. أن كل أسهمها السامة تؤذيه وتجرحه في مقتل، ولكنها لم تستطع التوقف، ولم يطربها منظره هذا..

 وفجأة شعرت باهتزازة قوية انتفضت لها كل خلية في جسدها المتجمد، اتسعت حدقتاها رعباً بعد أن أدركت بذهول ما تفوهت به تواً.. وكأنها كانت فاقدة للوعي.. شهقت وهي تضع يدها على فمها وكأنها تخرسه عن الكلام ولكن متأخراً، تمنت أن تتوسله ليسامحها.. وتخبره بالحقيقة..

بدأ هجومه متسائلاً بهدوء ما يسبق العاصفة:

ـ هل هذا ما تريدينه فعلاً؟

ازدردت لعابها بصعوبة وهي تعيد عليه سؤاله:

ـ ليس هاماً ما أريده، الأهم دائماً ما تريده أنت.

حدجها بنظرة قاسية بسؤال حائر:

ـ لماذا لا تعيشين معه؟!.. لماذا يتركك هكذا بدون مال أو طعام أو ملابس كافية تقيك شر البرد؟؟!!

قفزت الكذبة لفمها بسهولة غريبة:

ـ لقد اشترط عليه ألا نعلن عن علاقتنا إلا بعد حصولي على الطلاق.

قهقه ليام بخشونة وعيناه تلمعان بشر مخيف:

ـ ولكن ألم تنسي شيئاً صغيراً في حساباتك الدقيقة هذه؟؟.. أنني قد لا أكون كما تصورتني.. فارساً شهماً من العصور الوسطى.. ألم يخطر ببالك أنني ربما.. أمثل دور الشرقي حار الدماء فأنظف شرفي بدمك الدنس؟؟..

سألته بتهور:

ـ وما يمنعك أن تفعل؟.. هل تفضل لو أكتب رسالة انتحار كي تبعد عنك الشبهات؟؟..

رد بانفعال أقل مفكراً:

ـ ليس هذا ما يمنعني.. عندما أعرف من هو.. لن أتورع عن قتلك وقتله.

وضعت الكوب جانباً، ثم التفتت له تحدجه بعينين ناعستين واعدتين ثم تمتمت:

ـ ليام.. هل تغار حبيبي؟؟

زوى ما بين حاجبيه مدققاً النظر فيها.. وقد استخدمت لغة جسدها لترسل له رسالة خاصة جداً، لا يفك شفراتها إلا رجل محنك ومشتاق مثله، ولكنه لم يرد ولم يتحرك، تسمر في مكانه.. فهو وحتى تلك اللحظة كل تفكيره ينحصر في الانتقام منها، وأن يذيقها من الكأس الذي تمتعت وهي تسقيه من مرارته.. ولكن الآن وهي تفرش له برموشها المسبلة أبسطة وردية لطريق الجنة بين ذراعيها الممتدان.. نسي كل شيء.. إلا التوق الذي يحرق كل أخضر ويابس بداخله..

 تسارعت أنفاسه وهو يراقب يديها اللتان امتدتا بدعوة مفتوحة، خطا نحوها.. وتمسك بتلك اللحظة وتمنى لو تستمر للأبد، فأمسك بيديها الباردتان يدفئهما بنيران رغباته النهمة..

 همست بصوت ناعم مغناج وهي تركل آخر حجر يعوق طريقها لتكتمل خطة الغواية:

ـ ليام.. هل تشعر بيداي كم هما باردتان؟.. أدفئني ليام.. أدفئني بين أحضانك.. اشتقت لك كثيراً.

حدقت عيناه الداكنتان بجسدها الممدد أمامه في رغبة واضحة، فمرت بها انفعالات خرجت عن سيطرتها.. وبدأت تشعر بالخوف قبل أن ينوء السرير الصغير بثقل جسده جوارها  بهجومه عليها كالمجنون.. ينهل من رضاب شفتيها ويدفئهما احتراقاً ببراكين قبلاته اللاهبة..

 كانت قد بدأت صراعاتها العقلية الداخلية تدور في دوامات الحيرة، وهي تتساءل كيف انتهى ليام ليكون بين أحضانها؟!.. ولكنه لم يترك لها الفرصة للتردد.. وكان أوان التراجع قد فات عندما بدأ هجوم جديد وهو ينضم إليها أسفل غطاءها الرقيق الذي ما عادت بحاجة إليه.. وانحصر تفكيرها في تأثير هذا اللقاء الكابوسي على حياتها.. فبعد أن تنتهي لحظات المتعة، عليها أن تعيش أبدية الاهانة المخزية التي ستظل تؤرق كل لياليها في المستقبل.. ومرة أخرى قتل ليام بعواطفه الجياشة كل فكرة تومض بالتحذير في رأسها وحملها معه بطريقة خالية من الحنان إلى عالمه.. إلى الجنة التي دخلتها مرة وتلوت كل ليلة من ذكرياتها فيها..

 كفت عن الاعتراض.. ولو بعقلها.. فقد لمست منه شيء قوض كل اعتراضاتها، فقد شعرت أنه يريدها فعلاً، وربما اشتاق إليها.. فكل لمسة من يديه على جسدها تحكي لها قصة حب بمعنى مختلف، فأرادت أن تعيشها ولو كانت من خلال الاتصال الحسي فقط، أثملها ذلك الإحساس أن تكون محبوبة..

 رفع رأسه وتأملها ببريق عينيه الذي خف شره، وحل مكانه حنان جميل.. تمنت لو تستطيع إمساكه ولا تفلته أبداً من بين أناملها.. ولكن فجأة عاد إليها الإحساس الرهيب بالحرمان الذي كابدته من يوم خرجت من حياته، عندما ابتعد عنها...

 وسألها بملامح غائمة بالغموض:

ـ هل تريدينني.. أشلي؟

أعاد سؤاله مصمماً على سماع الإجابة.. فهزت رأسها بالموافقة.. بعد أن أغمضت عيناها بقوة كي لا يرى دموع الألم محتبسة بعينيها، ولكنه لم يكتف بهزة رأسها، تصلب جسده وشدد أصابعه على كتفيها معيداً سؤاله بحدة أكبر وإصرار:

ـ أجيبي بلسانك يا أشلي.. هل تريدينني؟ نعم.. أم.. لا؟؟

أدركت من نبرة صوته أنه يريدها أن تعترف بحاجتها إليه، ربما ليسخر منها ومن رغبتها به.. وربما كي لا تتهمه أنه قد فرض نفسه عليها.. فهو يريدها كاملة بعقلها وقلبها...

تمتمت بصوت مخنوق:

ـ نعم ليام... أريدك.

أطلقت شرارات الانتصار والفرح في عينيه وانحنى عليها يقبلها في عناق حار، حاولت دفعه بدفاع واهن ولكنه قوض احتجاجها بسهولة، فتركت نفسها أخيراً لتستمتع بكل لحظة بقربه حتى لو يليها ندم طوال العمر.. ولكن فجأة.. عاد إليها بقسوة ذلك الشعور المقيت بالخواء، عندما بدأ الريح يصفر بين ذراعيها وقد أصبح خاوياً ممن كان يملأ أحضانها بدفء جسده، ولكنه لم يعد، فهو واقفاً فوقها يراقبها بمزيج من نظراته المشمئزة والمحتقرة..

 وأجاب تساؤلاتها باستمتاع مهين بحالتها:

ـ وأنا.. لا أريدك.. أشلي..

نحر مشاعرها وأحاسيسها بلحظة واحدة.. بجملة واحدة.. بعد أن أعلنت بكل صرخة تأوه.. وبكل نبضة تنبض في صدرها.. وبعد أن أرغمها على أن تعلنها صريحة.. أنها تريده، فسلمته دون أن تشعر السكين التي ذبح بها ما تبقى منها، فأضحت كجثة تتردد بها أنفاس، بلا روح أو مشاعر.

تمتمت بنبرة بالكاد سمعها:

ـ أنا.. آسفة.

قلب شفتيه ممتعضاً:

ـ لا أعلم ما تقصدين.. ولكن من ناحيتي لست آسفاً أبداً، فأنا لا أحب استخدام البضائع المستعملة، ولكني استفدت من هذا اللقاء وتعلمت منه الكثير.. أهم ما تعلمته أنكِ وصلتِ لمستوى رفيع في تقديم خدماتك، وأنكِ لم ولن تتغيري أبداً.. لا أريدك في حياتي أشلي، وإياكِ أن تفكري مجرد تفكير أن تنسبي ابن الخطيئة الذي تحملينه إلي، سأقف لكِ بالمرصاد وسأسجنك إذا اقتضى الأمر، فالسجن هو المكان الوحيد الذي يلائمك.

لقد انصرف... ربما منذ نصف ساعة أو أكثر، ولم يتبقى بعد ذهابه إلا صدى أصوات نقرات المطر الغزير يدوي بأصواته الرتيبة على زجاج النافذة، ولا شيء آخر يدل على وجود حياة في تلك الغرفة الباردة.. حتى ذلك الجسد الضئيل المتجمد علي السرير الصغير، وليس من البرد بل من الذهول، عندما أدركت بعد فوات الأوان هول ما حدث.. فأخذت تهز رأسها في الفراغ المظلم حولها هامسة بذهول:

ـ كيف فعلت ما فعلت؟!.. وكيف قلت له هذا الكلام المروع؟!.. كنت أرغب بالثأر منه.. ولكن ليس بهذه الطريقة.. ليس أنا.. أنا لا أقوم بهذه التصرفات.. أنا لا أغوي الرجال، ولو كان زوجي.. لماذا تركتها تستمر؟.. لماذا لم أوقفها وقد أتيحت لي الفرصة؟.. لماذا ضعفت؟.. تلك الملعونة بداخلي لابد أن تموت قبل أن تؤذيه مرة أخرى.

وعادت تشهق وهي تستشعر كلماته التي ذبح بها مشاعرها بدون رحمة.. تستشعر مرارة الهجر والبعاد، بعد أن كانت تتذوق نعيم الجنة على صدره.. ولكن لما لا؟.. فهي تستحق كل نبذه واحتقاره بعد ما تفوهت به..

 قضت ليلتها تفكر بكيفية إصلاح ما حدث.. لابد أن تذهب إليه وتخبره بالحقيقة.. تخبره أنها لا تحمل أي أطفال.. ولم يلمسها رجل غيره.. فقد عرفت في قرارة نفسها أن حبها له هو السبب الوحيد على ندمها الشديد علي جرحه وإيذائه، مهما فعل فهو لا يستحق أن تؤذيه في شرفه بهذه الطريقة، لابد أن يعلم أنها تغيرت.

*************

مرت أسابيع عديدة دون أن تتاح لها الفرصة للقائه لإصلاح خطأها.. فزادت كآبتها وذبولها مع تفانيها في عملها، وكذلك ازدادت وحدتها.. فهي لم تشجع أي صداقات مع زميلاتها الممرضات اللاتي ابتعدن عنها حسداً، فهي دائماً متفوقة في عملها وتنال استحسان الرؤساء..

 قبضت راتبها الثاني.. ولكنها لم تشعر بنفس السعادة التي غمرتها عند إمساكها بأول نقود من راتبها الأول..

 عادت تكمل عملها بهدوء تسيطر عليها أفكارها كالعادة.. تمر بين مرضاها الصغار، بسمات أفواههم الصغيرة كانت خير دواء للسقم الذي يزحف على كيانها بدون رادع، عندما داهمها شعور رهيب بدوار فتمسكت بأحد الأسِرَة التي تمر بقربها، للحظات فقدت الإحساس بما حولها، لم تدري ما حدث، ولكن راودها إحساس غريب خاصة عندما تكررت الحادثة مرات عديدة حتى ملأها الشعور بخوف رهيب..

 أسرعت بعد انتهاء مناوبة عملها إلى استراحة الأطباء، كانت تبحث عن ماثيو بحذر شديد وخوف أن تقابل ليام..

 نهض يقابلها بابتسامة واسعة وفرحة تطل من عينيه لرؤياها:

ـ أشلي.. يا لها من مفاجأة!!.. ظننت أنكِ نسيتني.

ردت متجهمة وهي تتلفت حولها كلصة سارقة:

ـ أريدك في أمر هام.. من فضلك يا مار... أعني يا دكتور.

هز رأسه بحيرة ثم أشار لها بيده:

ـ طبعاً.. تفضلي معي نتكلم براحة أكبر في الحديقة.

اعترضت بتوتر في نبراتها:

ـ لا.. بل لمعمل التحاليل، سأحكي لك كل شيء في الطريق.

رد بحذر وحيرة:

ـ حسناً.. تفضلي.

خرج كلاهما من معمل التحليل متجهمان بعد أن سحبت عينة من دمها للتحليل ثم أشار لها ماثيو:

ـ تعالي معي لأفحصك في أحدى غرف الفحص.

اعترضت:

ـ لا.. أرجوك أنا....

أجهض اعتراضاتها وهو يدفعها دفعاً، فاستسلمت كي لا تتسبب بمشهد يلفت الانتباه

هز رأسه بعد الفحص:

ـ لا داعي لانتظار نتيجة التحليل يا أشلي.. أنت تعلمين مثلي أنكِ حامل.

شهقتها المفزعة أدهشته فتساءل بتعجب:

ـ هل الخبر سئ لهذه الدرجة.

صاحت بذهول:

ـ ولكن.. كيف؟ هذا مستحيل!!

ـ لاشك أنه حدث قبل هجرك لماجواير.

ردت ورأسها لا يزال يدور في دوامات الحيرة:

ـ أنت لا تعلم كم كان حريصاً في كل مرة على أن أبتلع تلك الحبات.

صاح بدهشة:

ـ "تقصدين لمنع الحمل!!.. هل هو مجنون؟... لم أتصور أن يصل الأمر بينكما لهذا الحد، ولكن... على كل حال هو طبيب ويعلم جيداً أن هذه الموانع غير مؤكدة بنسبة مائة بالمائة، أعدي نفسك للخبر اليقين يا أشلي.. ليس بيدك أن تفعلي شيئاً حيال هذا الأمر ولا بد أن...

قاطع كلامه رنين الهاتف فرفع السماعة ثم وضعها وهو يهز رأسه آسفاً مؤكداً:

ـ النتيجة ايجابية، أنتِ حامل يا أشلي.

وضعت يدها على فمها لتكتم شهقة جديدة، وكأن مصيبة كارثية وقعت على رأسها:

ـ يا إلهي.. ماذا أفعل؟

استمر تعجب ماثيو من تصرفها الغريب:

ـ اهدئي يا عزيزتي.. مؤكد أن ماسون لن يرفض ابنه.. من صلبه.

همست بذهول:

ـ ومن سيقنعه أنه من صلبه؟.. يا إلهي.. أنت لا تعرف ماذا قلت له، أو ماذا فعلت؟

تسائل بحيرة:

ـ قلت له!!.. ومتى تحدثتما؟

ـ أنها قصة طويلة.. ماثيو.. ما سأطلبه منك هذه المرة قد يفوق كل ما طلبته منك سابقاً، ولكن لابد أن تساعدني.. أرجوك.. ليس أمامي حلاً آخر، لابد أنك تعرف طبيب ما يجري لي عملية.. إجهاض.

صرخ بغضب:

ـ هل أنتِ مجنونة؟ إياكِ أن تفكري بهذا الأمر أبداً، ألا تدركين خطورة هذه العمليات علي حياتك؟؟

صرخت بيأس قتم بريق الحياة بعينيها:

ـ أنت لا تفهم كم كنت أتوسل هذا الطفل ليملأ حياتي بحب حقيقي أنا بأمس الحاجة إليه، ولكني الآن بالكاد أعيش على لقيمات تكاد تكفيني لأبقى على رمق الحياة، فكيف سأربي طفلاً وأرغمه على حياة مثل حياتي؟.. إذا تجاوزت كل هذا.. وكتب له أن يعيش سيلعنني عندما يكبر ويعرف أني حرمته من أن يحيا في ثراء والده، الذي لن يعترف أبداً بأبوته بعد كل ما قلته له من كلام مروع.

ربت علي كتفها بحنان أخوي:

ـ اهدئي يا عزيزتي.. لا شك أن كل مخاوفك هذه لا أساس لها.. ما إن يطلع ماسون على الحقيقة.. وفي أسوأ الفروض أنا لن أتركك يا أشلي.. كوني على ثقة من دعمي لك مهماً كانت النتائج.

همست ساخرة وهي ترمقه بنظرة يائسة:

ـ مهماً كانت النتائج!!.. ألم تفكر لحظة فيما سيحدث لهذا الطفل المسكين؟.. بأي شخصية سأربيه وأنا كقنبلة موقوتة مهددة بالانفجار في أي لحظة؟.. أتدرك لو أن تلك الشريرة داخلي كسبت المعركة.. ماذا ستفعل بطفلي وبدون لحظة تفكير واحدة؟.. أبسط ما يمكن التفكير فيه أنها ستبيعه!.. أو تساوم ليام عليه.. وهذا ما لن أسمح به أبداً.

راقبها ماثيو حائراً وهي تغادر الغرفة شاردة تعصف بها أفكارها وكأنها تحادث نفسها لدرجة أنها مرت بزوجها ولم تراه متأبطاً ذراع صديقته الحميمة.. حدق بماثيو شذراً وقد ظهر عبوسه واضحاً من تجاهلها المتعمد له ومرورها من جواره وكأنها لا تراه..

ـ ماذا كانت تفعل عندك؟

تنهد الطبيب الشاب بضيق محاولاً أن يكون مؤدباً في الحديث:

ـ نعم.. دكتور.. كانت متوعكة فطلبت مني أن أفحصها.

سأله ليام ساخراً:

ـ إذن.. تعرف أنها حامل.

صاح ماثيو بدهشة:

ـ ولكن.. متى عرفت أنت؟!.. لم تصل النتيجة من المعمل إلا منذ لحظات.

تجاهله ليام قائلاً بلهجة اتهام:

ـ أعرف أنك من ساعدها منذ البداية.. كان عليك الرجوع لي أولاً.

ـ لجأت لي يا دكتور.. ولم أشأ خذلانها.. أنا أيضاً.

تبادل الرجلان نظرات من الرصاص ثم تابع ليام بتساؤل:

ـ هل تعرف الرجل الذي على علاقة معها وتسبب بحملها؟

اسود وجه ماثيو هادراً بغضب:

ـ إنك تحرجني وتحرج نفسك يا دكتور.. أشلي لا أصدقاء لها.

رد متهكما ببريق مخيف:

ـ سواك... أليس كذلك؟.. حسناً.. يبدو أنني تأكدت من ظنوني الآن فقط، أخبرها.. أنني لن أرحمها لو قررت الإبقاء على هذا الجنين، وأنت... تأكد أنني لن أسقطك من حساباتي.



حمل الان  / تطبيق حكايتنا للنشر الالكتروني واستمتع بقراءة جميع الروايات الجديده والحصريه 


الكاتبة ميرفت البلتاجي
الكاتبة ميرفت البلتاجي
ميرفت البلتاجي عضو اتحاد كتاب مصر و كاتبة في مجالات أدبية متنوعة المجال الروائي روايات اجتماعية وفانتازيا ورومانسي وصدر لها على سبيل المثال لا الحصر أماليا \ ناريسا \ ألا تلاقيا \ لقاء مع توت شاركت مع الهيئة العامة للكتاب في سلسلة ثلاث حواديت نشر لها قصص مصورة في مجلة فارس، ومجلة علاء الدين..ومجلة شليل وكتبت في مجال أدب الطفل عشرات القصص إلكترونيا وورقيا. ولها العديد من الإصدارات الإلكترونية لعدة مواقع عربية موقع مدرسة Madrasa تطبيق عصافير شركة وتطبيق Alef Education
تعليقات