الزوجة العذراء
**********
كانت الصدمة أقسى من أن يتوقع...شعر كأنه مخدوع..لقد لهت وتلاعبت به منذ
البداية، وما زالت تتقن دورها التمثيلي بادعاء عدم الفهم والغباء،والدموع...يا
إلهي أتظن نفسها قد تستطيع التأثير عليه قدر ذرة بدموعها الزائفة....
لم يعد يتمالك أعصابه وهو يشدها من كتفيها ليهزها بقوة صارخاً:
"لا تدعي الغباء قولي الحقيقة.... كيف وبعد كل هذه السنوات أجدكِ يا
زوجتي الحقيرة الكاذبة...عذراء؟"
رفعت يدها لفمها لتكتم صرختها:
"ماذا.... ولكننا....ولكننا تزوجنا و.... و....!!!"
أكمل بمرارة وعاصفة تهدد باقتلاع عنقها تطل من قبضات أصابعه التي تلوح في
وجهها:
"تزوجنا لأنكِ أقنعتِ أمي أنكِ حامل مني في تلك الليلة اللعينة التي
نمتِ فيها في فراشي وأوحيتِ لي بكل حقارة أنني...أنني،" وصرخ كبركان ينفجر:
"والآن كما يبدو أنكِ كنتِ كاذبة حقيرة،"عاد لهدوئه المصطنع
مردفاً:
"أخبريني كيف حدث وأتقنتِ كذبتك لدرجة
أن صدقتك؟؟ هل خدرتني؟؟ اللعنة أي صنف من النساء أنتِ لم تريدي التضحية بنفسك من
أجل الزواج بالمال، أردتِ الاستحواذ على كل شيء
دون أن تفرطي حتى بنفسك، وكأنها تساوي شيئاً.."
صرخت بعذاب:
"لمَا لا تصدقني؟ أنا لا أذكر أي شيء مما حدث، ولم أعرف أني.. أني عذراء إلا منك
الآن، وكيف لي أن أعلم؟ ربما كان يجب أن أعلم بحكم مهنتي كممرضة، ولكني أشعر وأنا
معك أنني دائماً أسير على حبل مشدود، أقل رفة جفن وأسقط في هوة لا قرار لها".
ندت عنه زفرة استهزاء قائلاً:
"عجباً أنا لا أصدقك، ولكن أتعرفين ما يمنعني من قتلك الآن على خدعتك
الحقيرة، الوجه المضيء الوحيد في لعبتك القذرة، يقيني أنكِ لم تخونيني كما كنتِ
تلمحين دائماً وهذا بالطبع ليس من أجل الحفاظ على شرفي، بل لأن طبيعتك الوضيعة
الأنانية تُحتم عليكِ الحصول على كل شيء دون أن تخسري أي شيء... أي بدون مقابل،
وكما سبق وأخبرتك حان وقت السداد".
حاولت البحث بين ملامحه المسودة المهتاجة على لمحة رقة أو حتى شفقة قد تحيي
بداخلها أمل أن يصدقها أو أن يعتبر ما اكتشفه فيها قد يكون مؤشراً لوجود بعض الخير
فيها، وأنها ليستكائناً صرفاً من الشر كما يتخيل.
همست بتوسل:
""ليام"
أرجوك اتركني أذهب، أتوسل إليك أنت لا تحبني والكُره هو المشاعر الوحيدة التي تكنّها
لي، حتى...حتى أنك لا تريد مني أطفالاً، وأنا من السير فوق هوة الجحيم التي تهددني
بها في كل لحظة، أتوسل إليك دعني أذهب".
رد بحقد ظاهر:
"كيف يكون لي منكِ طفل وأنتِ علاقتك بوالدكِ تنبئ عن عُقد نفسية داخلكِ
مما يجعل منكِ أسوأ أم قد أحظى بها لأولادي بالإضافة لكونكِ زوجة سيئة من منابت
شعرك لأصابع قدميك...كامرأة من الجحيم".
ارتعشت بشدة عندما ذكرها بوالدها رفعت رأسها إليه فلم تراه، بل رأت والدها
ثملاً مترنحاً يهجم عليها ورائحة الخمر تفوح منه تكاد تفقدها وعيها....أفاقت على
صوته الحاد:
"لمَا لا تردي؟ أم أن الحيلة تنقصكِ
في الرد الآن".
أشاحت بوجهها بعيدة عنه لتدفنه في الوسادة هامسة بصوت مبحوح:
"لست في حاجة للساني الآن، مازلت ترغب بجس**دي هو لك حتى تشبع كل رغباتك
مني في الانتقام، ولكن لآخر مرة سأقولها لك أنا لست المرأة التي خدعتك وآذتك، هي
موجودة بداخلي أشعر بها تحاربني لتسيطر على عقلي، ولكني لم أنهزم بعد وسأظل
أحاربها المعركة تلو الأخرى كي لا تؤذي المزيد من الأبرياء، ولو شعرت بضعفي
ستقتلني في وقت أقل من أن أستوعب ما يحدث لي، وعندها لو أدركت فعلاً من أنا بعد أن
تنقشع الغشاوة عن عينيك وبحثت عني لن تجدني أبداً".
ظنت أن كل أحداث الليلة الماضية كانت مجرد كابوس مزعج عندما استيقظت في
الصباح ووجدت نفسها وحيدة في .. ولكن أثار رأسه المطبوعة على الوسادة
المجاورة لها أكدت لها أن الكابوس كان أكثر من حقيقة واقعية ممكن أن تحدث لها في
سلسلة من المآسي التي تعيشها من اللحظة التي ظنت أنها بعد رجوعها من الموت ستستعيد
كل حياتها الضائعة، ولكنها ومنذ تلك اللحظة وهي تستمر في السقوط في هاوية لا قاع
لها.
تحركت بصعوبة تأن بصوت مكتوم، فقد كانت ساقها خدرة ومتألمة من جروحها التي خلفتها أظافره الليلة الماضية متعمداً إيلامها وإهانتها بكل طريقة ممكنة خاصةً بعد الاكتشاف المذهل الذي أذهل كلاهما، دخلت الحمام بصعوبة تتساند على الجدران، لتترك المياه تنساب على جسدهاالمرهق.
وتعمدت الإطالة حتى شعرت أن جلدها سيذوب من كثرة المياه ورغم ذلك لم تستطع محو لمساته التي أوشمها بها كوشم النار والتي خلفت كدمات زرقاء في كل أنحاء جسدها، ارتدت ثيابها على عجل بعد أن يئست من محو أثاره التي تتغلغل داخل كل خلية في جسدها وحده الموت القادر على أن يخرجه منها، ساوت شعرها كيفما شاء وحرصت على أن ترتدي بنطلون يخفي جروحها وتي شيرت بكم طويل ليخفي الكدمات على ذراعيها.
ودون أن تلتفت لأي أحد أو حتى تسأل عن مكان تواجد زوجها خرجت مسرعة وكأنها تهرب من نفسها وليس منه لتنطلق بسيارتها لمكان واحد كان هدفها الذي عقدت عليه العزم منذ ليلة أمس....
ولأول مرة تحجرت الدموع في عينيها ترفض النزول لتغسل ما تشعر به من عار وألم، ربما لو رأت والدها مرة أخرى ستتذكر نفسها وجرائمها التي ارتكبتها في حق "ليام" ومن قبله في حق نفسها، وحمدت الله أن ذاكرتها لم تخنها هذه المرة فقد تذكرت الطريق لبيتها الذي تربت فيه بسهولة رغم بُعده عن المكان الذي تعيش فيه مع "ليام" في فيلته الفخمة فهذا الحي هو حي الفقراء يميزه مساكنه المتزاحمة المتهالكة.
أهلكها الزمان وأنهكها الفقر كما أنهك سكانها فباتواً مجرد كومات من اللحم والعظام يتسترون بما لا يكاد يقيهم شرّ البرد في الشتاء ويسدون جوعهم بما لا يكاد يشبعهم ويروي بطونهم وبطون تلك الرؤوس الكثيرة من الأطفال، وكأن إنجابهم هي الرفاهية الوحيدة التي يستطيعون الحصول عليها في هذا العالم الذي نسيهم أسفل ركام مشاغله الكثيرة.
أغمضت عيناها بألم تتذكر أنها كانت جزءاً لا يتجزأ من هذا المكان فقد عاشت مع الجوع والفقر والعُري والجهل ردح من الزمن، كانت تلهو في صغرها في ذلك الزقاق الذي يبدو مظلما عما تسعفها ذاكرتها المنهكة، وربما كانت تشتري من ذلك المتجر الصغير لوازم البيت بما يتبقى مع أمها أو ما تخبأه من زوجها الذي لا يترك معها قرشاً واحداً للطعام، ويتجاهل دائماً صرخات بطونهم الجائعة وهو ينفق كل ما معه لآخر قرش في المشروب الذي أفقده عقله في النهاية.
حتى حدث ما حدث،التف الأطفال بملابسهم الرثة كالجراد حول سيارتها يحدقون
فيها بعيونهم المتسعة بفضول، بادلتهم نظراتهم بابتسامة باهتة ثم رفعت رأسها للبيت
المتهالك حيث يسكن والدها في أحد الأدوار العليا، آه كم بدت تلك السنوات التي سكنت
فيها هنا بعيدة بُعد الأرض عن القمر، تمسكت بمقودها بعصبية حتى ابيضت مفاصلها
متسائلة بحنين خطف أنفاسها وهي تحاول أن تعتصر ذاكرتها لتتذكر المرة الأخيرة التي
رأته فيها.
"كيف سأراه بعد هذه السنوات؟ بعد أن آمن بموتي،" ولكنها ورغم
ترددها لم تستطع دفع نفسها للتراجع الآن وبعد أن وصلت إلى هنا، فلابد أن تتخلص من
آخر أذيال الماضي الأليم، لابد أن تتذكر من هي المرأة التي تسكنها.
خرجت بعد أن ملأت صدرها بالهواء بعدة شهقات متتالية، أوصدت باب السيارة غير مبالية بالأطفال الذين استخدموها للعبهم ولهوهم بالقفز عليها من كل جانب، وبدأت بصعود الدرجات المتهالكة تتأمل الجدران المتآكلة من الرطوبة والذكريات تتسابق لعقلها عن طفولتها وكم مرة ركضت صاعدة ونازلة على هذه الدرجات.
وكم مرة اختبأت أسفل الدرج خوفاً من صراخ والدها الغاضب وهو يتشاجر مع أمها، ولا تخرج من مخبأها إلا بعد أن تتأكد أن الخمر أنهكه وفقد الوعي مثلما يفعل كل ليل.
كانت تشعر بآلام مبرحة في ساقها الجريحة عندما وصلت للطابق الأخير حيث شقتها القديمة، كان الباب مفتوحاً كالعادة فهي لا تتذكره مغلقاً أبداً، كان صريره مزعجاً وهي تفتحه أكثر لتستطيع المرور للداخل، دخلت بخطوات مترددة تبحث بعينيها والألم يعتصر صدرها فتلك الحجرة هناك كانت لها هي وأمها يتقاسمان فراشها الصغير وغالباً لتحميها من بطش والدها عندما تلعب الخمر برأسه.
المكان كما هو لم يتغير إلا بلمسات الزمن الغابرة والتي تركت بصماتها على كل زاوية به فاختفت مظاهر الحياة وظهر البؤس والشقاء واضحاً على كل رُكن في الشقة الصغيرة.
فهاهي السجادة البالية التي منذ وعت على الدنيا وهي في مكانها وإن اختلف حالها الآن من سيء للأسوأ وفوقها ارتكزت المائدة ذات الأرجل الثلاث بعد أن سقطت الرابعة من النافذة عندما حاول والدها يوماً قذفها بها.
ولكنه أخطأ التصويب فسقطت من النافذة بعد أن قضت على زجاجها تحطيماً، وكان حولها مقعدان والآن لم يتبق منهما إلا واحد فقط بعد أن قضي الآخر نحبه محطماً في الزاوية هناك مجرد حطام تختبئ فيه الفئران التي لم تتورع عن إظهار نفسها بلا مبالاة للزائرة الجديدة وكأنها تعلن ملكيتها عن المكان وتتحداها بعينيها البراقة الصغيرة أن تطردها.
بعد أن اكتفت باستعادة بعض الذكريات التي
تتدفق عليها بكرم، اتجهت لغرفته حيث وجدته كما هو دائماً وقد انكفأ على وجهه على
فراشه القذر لا يكاد يعي وجودها وقد ترهل لحمه أكثر بكثير مما تذكر.
استندت على باب الغرفة وقد تسمرت قدماها على العتب لا تجرؤ على المضي خطوة
واحدة، وبصوت حاولت ألا تخونها عبراتها من خلاله أخذت تنادي عليه:
"أبي..أبي هل أنت مستيقظ؟"
ولكنه لم يبدو عليه أنه شعر بوجودها فلم يرفع رأسه من بين زجاجات الخمر
المتناثرة حوله على السرير القذر، تنهدت بضيق من الرائحة الكريهة التي زكمت أنفها،
ثم تذكرت الطريقة التي كانت هي وأمها تستخدمانها لإيقاظه من سباته، فاتجهت للمطبخ
وملأت أحد الزجاجات الفارغة بالماء ثم عادت لتسكبها على رأسه بعد أن اقتربت منه بما
يكفي لوصول الماء لرأسه ثم تراجعت مسرعة لتقف بالباب مرة أخرى وكأنه يمثل لها
حماية ما...!! شهقت بفزع متفاجئة عندما رفع رأسها بحدة غاضباً فانتفض جسده المكتنز
متلفتاً حوله بذهول متسائلاً بصوت أجش:
"مَن هنا؟"
ردت بحلق جاف:
"هذه أنا بابا..ابنتك "أشلي"".
بالكاد كان يعتمد على ذراعيه ليرفع رأسه الثقيل ولكنه عاد ينتفض صائحاً
عندما سمعها:
"اللعنة على هذه الخمر المغشوشة فهي تصور لي أشباح وهلاوس".
أحاطت صدرها بذراعيها لتتحكم بارتعاشة
جسدها المفاجأة وهي ترد عليه بصبر مستعينة بما تبقى لديها من عزيمة كي لا تفر من
أمامه مهرولة:
"انهض يا أبي أرجوك... هذا أنا "أشلي"، أنت لا تهذي".
رفع رأسه مرة أخرى وراح يحدق بها مطولاً محاولاً التركيز على وجهها من بين
الغشاوة التي تغطي عينيه من شدة الصداع الذي يفتك برأسه ثم صرخ بدهشة وعدم تصديق:
""أشلي"..آرني حبيبتي..أهذه أنت حقاً..ولكن هذا مستحيل لقد
قالوا لي أنكِ غرقتِ في المحيط.."
هزت رأسها تحاول أن تتماسك بصعوبة وهي تتمتم من بين جفاف شفتيها:
"نعم يا أبي، ولكن كما ترى لقد نجوت... وليتني ما عدت..."
تهالك برأسه على الوسادة القذرة يتأملها بابتسامة حفرت أخاديدها بين ثنايا
وجهه المترهل ولحيته المشعثة بصعوبة:
"ولكنكِ عدتِ يا آرني كما كنتِ وأنتِ صغيرة طيبة.. طيبة.. وديعة..هادئة".
صرخت بحدة منفعلة وكأنه دون أن يقصد ضغط على زناد تحكمها في أعصابها:
"لماذا تقول عني هذا الكلام كُل مَن يعرفني يوصمني بالشرّ المجنون، كُنت
شريرة وكل أفعالي وتصرفاتي هي الشرّ بعينه".
رد بصوت مقهور:
"أنا السبب يا صغيرتي في تحولكِ لمخلوقة شريرة أنانية متسلطة.. ولكنكِ
لم تكوني أبداً شريرة، فأنتِ كأمك رحمها الله طيبة هادئة ومسالمة".
ثم أردف في صوت خائر شبه باكي:
"أرجوكِ يا آرني لا تعودي كما كنتِ.. تسُبيني وتُهينيني وتلقين
بأموالك في وجهي كأنني مجرد متشرد متسول ولست أباكِ".
لم تسمح لنفسها أن تتأثر بضعفه واستكانته فسألته بصوت متجرد من أي مشاعر
فقد استهلكتها كلها:
"كيف تعيش؟ من أين تنفق؟ على ما يبدو أنك كما أنت عاطل عن العمل".
غمغم وهو يغمض عيناه باستكانة:
"لا تقلقي على أباكِ العجوز يا صغيرتي، لن أموت من الجوع فالحكومة
تصرف لي إعانة بطالة، ولكن إن كان معكِ شيء لي لمساعدتي لن أرفض بالطبع".
غمغمت بزفرة ساخرة:
"آسفة يا أبي ليس معي أي أموال".
فتح عينيه متسائلاً والجشع يرتسم بأبشع صوره في بريق عينيه النهمتين:
"وكيف هذا؟ إنّ زوجك خزانة أموال متحركة لقد رأيته في جنازتك ورأيت
سيارته الفارهة، هل فقدتِ عقلك وتركتِ مثل هذا الزوج يفلت من بين يديكِ؟"
ردت ساخرة بمرارة:
"ليس بعد ولكني سأفعل قريباً... ولكن بعد أن أدفع ثمن كل ما أخذته
بدون وجه حق وبعدها سأرحل خالية الوفاض".
صاح حانقاً بغضب:
"لا تتركيه أيتها الغبية، هل جننتِ لتتركي مثل هذا الزوج لتعيشي في
الفقر الذي يلتهمنا أحياء بين هذه الجدران التي أكلتها الرطوبة، اللعنة لم أدرك
أنكِ تغيرتِ لهذا الحد، من الأفضل أن تعودي شريرة كما كُنتِ.. على الأقل كانت
أموالك تفيدني ولو كانت مغمسة بالذُلّ".
ردت بتنهيدة متعبة وكأن رأيه لم يفاجئها فهذا هو أباها مهما مرت عليه من
سنوات:
"لا تقلق يا أبي سأبحث عن عمل وسأحاول مساعدتك قدر استطاعتي ولن أتركك
تعيش على الكفاف".
مط شفتيه بتبرم:
"لا تشغلي نفسك بي.. لقد أذيتك في الماضي وكُنت عقبة دائمة في حياتك،
ابتعدي عني ربما تجدي سعادتك الغائبة بعيداً عن والدكِ المخمور دائماً".
دمعت عيناها وردت بتأثر:
"كم كنت أتمنى لو كُنت لي أباً مثل كل الآباء، أركض لدفء أحضانك عندما
تغلق الدنيا أبوابها في وجهي".
غمغم بحزن تكسرت تحت نبراته آخر معاقل عاطفتها المتجمدة تجاهه:
"أنا عجوز هرم لا أستحق الحياة التي طال بي أمدها..خيبت أمل أمك ولم
أكنّ لكِ الأب الصالح الذي تمنيته...أين الموت ليأخذني برحابه لعله يكون أكثر رحمة
بي من هذه الدنيا القاسية".
تماسكت كي لا تركض لأحضانه تُذكر نفسها أنها كبرت على أن تصدق أنه يمكن أن
يكون قد اشتاق أو ندم على كل ما فعله بها كما يبدو من كلماته.
"أنا ذاهبة يا أبي ولا أدري إن كنت سأعود مرة أخرى أم لا".
خيل إليها أنه لم يسمعها وهي تفر من المكان هاربة وكأنها تهرب من ذكرياتها
المريرة التي تطاردها بين جدران الشقة المتهالكة، والتي باتت لا تشبه شقتها
القديمة التي تحتفظ بها في ذاكرتها، فهي أكثر ظلاماً وظُلماً على مشاعرها الواهنة
مما تقدر في الوقت الحالي، تنفست بعمق وكأنها طوال فترة وجودها مع والدها قد حبست
أنفاسها، فراحت تشهق الهواء وتزفره بقوة حتى وصلت للشارع.
انطلقت بسيارتها مبتعدة عن هذا المكان بأقصى سرعة ولم تهدئ من سرعتها إلا عندما وصلت للشوارع النظيفة الهادئة والعمائر الضخمة، ونسيت الوقت ومعه نفسها وهي تتجول في كل مكان وأي مكان، والأفكار تدور برأسها كحجر الطاحون يفتت ما تبقى من قواها تحت أنين الذكريات مع والدها وما قاله لها، ولكنها لم تقف بعد على ما حدث معها وسبب اللعبة التي لعبتها لتتزوج بـ"ليام"، واحترق الوقت بسرعة الوميض حتى فوجئت بالشمس وقد أوشكت على المغيب ووجدت نفسها في مكان مألوف بالقرب من المستشفى التي يعمل بها زوجها.
اتخذت قرارها في لحظات وأدخلت السيارة في أقرب
مكان لوجهتها ونزلت لتتجه بخطوات لأول مرة منذ عودتها تكون واثقة وغير مترددة
للقرار الذي اتخذته منذ لحظات وتعجبت كيف لم يخطر ببالها هذه الفكرة من قبل، اتجهت
فور دخولها مبنى المستشفى حيث مكتب شئون العاملين كما تذُكر.
نظر الموظف لها بابتسامة مشرقة واهتمام وسألها بكياسة:
"هل من خدمة أستطيع تقديمها يا..."
قاطعته بلهفة:
"جورج..ألا تذكرني لقد كنت ممرضة هنا.. أنا "أشلي ماجو.."
أعني... "سميث"".
حك الرجل رأسه للحظات مفكراً ثم قفز من مكانه باحترام:
"آه... سيدة "ماجواير" مرحباً بكِ وحمداً لله على سلامتك".
غمغمت بضيق:
"حسناً إن كنت تذكرتني هل يمكنك أن تعطيني ملف أوراقي الذي تحتفظون به
رجاءاً".
"ملف أوراقك، آه طبعاً لحظة لأبحث عنه في الكمبيوتر.."
وبعد أن ضغط على عدةً أزرار ثم تطلع في الشاشة الصغيرة واستدار لها
بابتسامة متوترة:
"عفواً سيدة "ماجواير" ولكنه غير موجود".
شهقت بقلق:
"ولكني متأكدة أني لم أسحبه بعد زواجي".
أطرق برأسه ليقرأ في شاشة الحاسب ثم رفعها ليعلن بابتسامته الحذرة:
"لقد سحبه الدكتور "ماجواير" بمعرفته بعد.... الحادث مباشرةً،
ألم تسأليه عنه؟؟".
شكرته بعبارات مهمهمة ثم خرجت شاردة قاصدة المصعد حيث القسم الذي يعمل به
زوجها، الآن ستضطر لمواجهته رغم أن الخطة التي فكرت بها كانت المواجهة في آخر مرحلة
وليست في الأولى، تلفتت حولها، لابد أن الكثير من الوجوه قد تغيرت فلا وجه مألوف
تراه وهي تبحث عن "ليام" كالتائهة في هذه الأروقة التي هيئ لها ذات يوم
أنها تحفظ كل شبر فيها عن ظهر قلب.
سألت إحدى الممرضات عنه فأشارت لها على مكانه حيث يتابع إحدى الحالات وأعطتها
رقم الغرفة، اتجهت إليه فوراً عاقدة العزم ألا تتردد فربما هذا هو الحل الأخير،
راقبته من خلف الواجهة الزجاجية يتحدث مع مريضه ببشاشة وجاذبية كادت تخطف أنفاسها،
كم اشتاقت لهذا الرجل الذي لا تراه إلا من بعيد، اشتاقت لأن يحتوي ضعفها، يهدهد
خوفها، ويكون هو أمنها وأمانه، وراحت تتساءل إن كان هذا الرجل الذي يضحك مع مرضاه
ويداعبهم بنكاته هو نفسه الذي تسبب لها بكل هذه الأذية في الليلة الماضية.
فوجئ بها عندما خرج من غرفة المريض تجمد في مكانه وتصلبت كل ملامحه الباشة
وتساءل بحدة:
"أنتِ؟ ماذا تفعلين هنا؟"
لفت ذراعيها حول صدرها وكأنها تستجدي الحماية:
"أريدك في أمر هام".
وضع يداه في جيبي معطفه وهو يمط شفتيه بامتعاض:
"ألا ينتظر هذا الأمر الــ...هام حتى عودتي مساءاً".
هزت رأسها بالرفض وبإصرار لمحه في حاجبيها المعقودين بتصميم:
"آسفة "ليام"، ولكن الأمر عاجل ولا يحتمل التأجيل للمساء".
خلع السماعات الطبية من على أذنيه ليبرمها كالحبل ويلفها على عنقه مرة أخرى
ثم أشار لها بتكبر وهو يسبقها بخطواته السريعة:
"حسناً اتبعيني لغرفتي فأنا منهك وأكاد لا أقوى على الوقوف لحظة أخرى".
لاحظ عدم لحاقها بها ووقوفها متجمدة فحدجها بنظرات مرتابة:
"ماذا بكِ؟"
تسمرت مكانها تحتج بشدة:
"لا أريد أن أذهب لغرفتك..أي مكان آخر سيكون مناسب".
أصر على رأيه بعناد وهو يدفعها أمامه بقسوة مستمتعاً بارتباكها وبعينيها
التي خف وهج بريقهما خلف غيمة من الدموع ظلت محتجبة خلف رموشها:
"لن نذهب إلا لغرفتي تفضلي وإياكِ أن تفتعلي مشهداً يفضحني أمام
العاملين".
ولم يتركها إلا بعد أن فتح باب غرفته ودفع بها للداخل وأغلق الباب خلفه،
شعرت للحظة وكأن ركبتيها ارتختا فجأة وتحولتا لفروع شجرة جافة ستتحطم تحت ثقل
ذكرياتها البشعة ولكن...
لدهشتها لم تهاجمها أي ذكريات سيئة، حدقت بالسرير الصغير ولكن لا شيء.
جلس خلف مكتبه وخلع سماعاته الطبية ودفعها جانباً بإهمال وسألها ببرود
متجاهلاً حالتها:
"ما هذا الأمر الخطير الذي لم ينتظر عودتي؟"
ملأت صدرها بالهواءوهي تستخدم كل طاقتها لتشيح بعينيها عن المكان الذي تحدق
به دون أن تنجح في استدعاء أي ذكريات عنه واستجمعت فتات شجاعتها لمواجهته:
"أخبروني أنك سحبت ملف أوراقي".
قطب متسائلاً:
"أوراقك..أي أوراق؟"
سحبت كل الهواء الذي استطاعت رئتيها تعبئته وراحت تزفره ببطئ متسلحة
بالهدوء المطلوب في هذا الموقف:
"شهاداتي في التمريض والخبرة وكافة أوراقي الأخرى".
"ولماذا تسألين عنها؟"
"حسناً كنت ستعرف على أي حال... لقد قررت العودة لعملي..."
اتخذت وقفة التحدي محاولة ألا تتأثر بزفرته الساخرة ولا بنظراته الهازئة
لها وكأنها طفلة تطلب لعبة غالية الثمن، ثم تنهد بضيق يرمقها بنظراته المتسلية من
أسفل رموشه وقد قرر التلاعب بها سألها ساخراً:
"مَن.. قرر.. ماذا؟"
أخذت نفس عميق من جديد تحاول تهدئة نفسها كي لا تثور وهي تدافع عن حقها
فتفقده أمام جبروت زوجها الطاغي:
"أنا قررت أن أعمل.. كما قررت أن أتركك..سأنفصل عنك يا "ليام"..هذا
قراري النهائي... لقد فكرت كثيراً وهذا هو الحل الوحيد والأمثل الذي توصلت له لحل
مشاكلك ومشاكلي".
تناول سماعته الطبية ليعيدها لعنقه قائلاً:
"عودي للبيت "أشلي" واطلبي من "بريانكا" أن تعد
لكِ فنجان شاي يهدئ أعصابك المتوترة، فأنا مشغول ولا وقت لدي للإستماع لترهاتك هذه".
صرخت بغضب وهي تطرق على المكتب بقبضتيها:
""ليام" لا تفعل هذا لا تتجاهلني وكأني لا شيء أمامك، كان
بإمكاني هجرك من دون أي إنذار ولكن..."
هز رأسه باسماً باحتقار:
"ولكنكِ بحاجة للأوراق التي بحوزتي".
ردت بصوت يائس متعب:
"ليس إلى هذا الحد، لو لم تعطيها لي لن تتغير النتيجة وسأصر أكثر على
قراري بهجرك ولو أدى بي الأمر لأتسول لقمتي في الشوارع".
قهقه قائلاً باستهانة وبرود مقيت:
"لهذا الحد أنتِ غاضبة من أحداث ليلة أمس، ما كان المفروض حدوثه منذ
سنوات، بالمناسبة كيف حال ساقك؟ أظن أنكِ ستمتنعين عن ارتداء ما هو أقصر من الركبة
لفترة طويلة".
ردت باستهزاء:
"ربما لن يمنعني بقدر ما تعتقد بل سيسعدني أن أستعرض قسوتك التي تتباهى
بها كي يري الناس حقيقتك خلف الواجهة الراقية والابتسامة الجذابة التي تحاول رسمها
بإتقان".
تجهم وجهه وكأنه تذكر كل ما حدث في الماضي ثم أشار نحوها بإصبعه مهدداً:
"كان هذا عقاباً صغيراً لسماحك لذلك الوغد بوضع يده على ما هو ملكي، وكي تتذكري دائماً أنكِ ما زلتِ تتنفسين
الهواء في هذه الدنيا فقط لتكفري عن خطايا ماضيك الأسود..."
انتابتها أحاسيس مرعبة بعد تلقيها تهديده وخيل إليها أنها لن تنجو أبداً
ويوماً ما ستدفع حياتها مقابل أخطائها، فهذا الرجل لن يتركها أبداً قبل ذلك،
وسيتأكد أن تدفع كل ديونها ولو استهلك عقابها كل عُمره.
شهقت تُعبء هواء جديداً ليمحي شبح الإغماء
الذي يتسلل إليها من بين نظراته الحاقدة الكارهة كما لو تمنى أن تحترق أمامه الآن
وهذا أقل ما يمكن أن يهدئ من غضبه المتقد نحوها دائماً.
ردت بابتسامة مريرة ونظرات عينيها ترسمان لوحة معبرة عن التحدي بأبشع
معانيه:
"ماضي الأسود هذا أنت جزء منه "ليام"، ربما أنت من دفعني
لأكون تلك المرأة التي تحتقرها، وربما لأنك لا تستحق إلا امرأة من هذا النوع، قد
أكون عقاب القدر الذي ساقه لك حظك على غرورك وعجرفتك، ألم تفكر مرة واحدة أنك لو
كنت عاملتني بلطف لكانت النتيجة مختلفة، ربما كنت أنا وأنت نعيش سعداء مع
أولادنا".
عبت صدرها بالمزيد من الهواء وهي تردف بصوت لاذع:
"ولكنك تشتاق لي يا عزيزي، وكأنك تهوي تعذيب نفسك بي، ولعلك ترفض
عودتي بشكل مختلف لذلك تتعمد دائماً وضع تلك النظارات السوداء على عينيك كي لا ترى
إلا شخصيتي السوداء، آه لو تعلم كم تعشقك بدورها، في وجهك الآخر وهي أنا..."
شعرت من تحديقه الغريب بها أن ما تفوهت به لم يكن بلسانها فهاجمتها نوبة
الصداع بضراوة، كادت تشعر معها بأن رأسها يتصدع فانهارت متهالكة على أقرب مقعد
ممسكة برأسها وتصيح بأنين مكتوم:
"ستعود..يا إلهي ستعود".
لم تشعر بتحديقه المستمر ودهشته التي تزداد مع كل لحظة يراها على هذا الشكل
فلم تشعر به وهو يتناول يدها ليقيس النبض ثم صاح باستغراب:
"نبضك متسارع بشكل غريب".
صرخت بدون وعي متوسلة:
""ليام" أرجوك أوقف هذا الصداع بأي شكل".
أسرع لخزانة الأدوية وناولها حبتان ابتلعتهما بسرعة وظل يراقبها لعدةً
دقائق حتى بدأ الدواء يعطي مفعوله ويعود الهدوء إليها.
سألها بقلق:
"بماذا تشعرين الآن؟"
رفعت رأسها إليه وردت بصوت منهك:
"لقد ذهب الوجع وهدأ كل شيء، وعادت لجُحرها".
سألها بدهشة:
"مَن هي التي عادت لجُحرها؟"
وقفت بإنهاك تحاول إبعاد شبح الانكسار والضعف عنها:
"لا عليك مني يا "ليام" أعطني أوراقي من فضلك واسم ذلك
الدواء الذي يُسكن صداعي وحاول أن لا تهتم فأنا لا شيء في حياتك".
تجاهل الشق الأول من كلامها وأجاب عن الشق الثاني:
"لن تستطيعي الإعتماد عليه للأبد في مرحلة ما لن يجدي استعماله بعد أن
يعتاد جسدكِ عليه وستحتاجين لما هو أقوى منه وتدخلين في دائرة الإدمان لابد من عمل
بعض الأشعات والتحاليل لنعرف سبب الصداع ونستطيع التعامل معه بعيداً عن المسكنات".
ردت برنة استهزاء:
"أرجوك لا تُحمل ضميرك مشقة التفكير في حالتي وأنا وأنت نعلم جيداً
أنك لا تهتم بي كما تحاول الإدعاء".
كان يهم بالرد عليها عندما علا صوت النداء في ميكروفونات باستدعائه في
أنحاء المستشفى لوصول حالات طارئة في استقبال الحوادث تستدعي وجوده فأسرع يلبي
النداء ثم التفت إليها محذراً قبل يذهب:
"لا تتحركي من هذه الغرفة ابقي مكانك إلى أن أعود لعمل هذه الأشعات وكُفي
عن الرثاء على نفسك فأنتِ تبدين مثيرة للشفقة".
*******
هاربة إلى الجحيم...
حدقت بالجدران البيضاء حولها شعرت وكأنها تطبق على أنفاسها، وهي تتجاهل النظر للفراش مرة أخرى، ولكنها لم تستطع تجاهله للنهاية فنهضت واتجهت نحوه تتلمسه بأصابع مرتعشة تستجدي ذكرياتها عن ذلك اليوم والتساؤلات تدور في رأسها بعلامات استفهام لا تنتهي، ولكن دون جدوي لم تقترب لذلك اليوم الذي تجردت فيه من ملابسها ليدخل "ليام" ويجدها في فراشه ولا ما حدث بعد ذلك كي تضمن أن لا يلمسها، صرخت بأنين وهي تعتصر الملاءة البيضاء بأصابعها حتى ابيضت مفاصلها، لماذا فعلت ما فعلت لماذ؟
وفجأة التمعت فكرة برأسها، لن تجلس مكتوفة اليدين لتثير الشفقة على نفسها إن كان يرفض إعطاءها الأوراق
فستعمل بدونها ورغماً عنه ولتكن لديه الشجاعة الكافية ليحملها أمام زملاءه ويجبرها
على العودة للمنزل...رفعت رأسها بشموخ وخرجت لتتخذ طريقها لمكان حوادث الاستقبال
وحيث يعمل زوجها.
كان منهمكاً في إنقاذ طفل صغير وأمه غارقان في دماءهما بعد أن صدمتهما
سيارة وبدون أن يشعر أحد بوجودها بدأت تتسلل بهدوءوتمد يد المساعدة.
ومع مضي الوقت بدأت باستعادة نشاطها وحماسها وتذكرت الأيام الماضية التي
كانت تعمل فيها ممرضة في قسم الطوارئ عندما كانت اللحظة تعني إنقاذ روح بريئة من
الموت، وهذا ما كان يعمله "ليام" وفريقه يحاربون الموت قبل أن ينفذ ما
لديهم من وقت وفجأة علا صوته الصارم متسائلاً:
"أين فصيلة الدم التي طلبتها هذا الطفل بحاجة ماسة لكيسين على الأقل".
ردت الممرضة بخيبة أمل:
"لم نعثر على فصيلة مماثلة يا دكتور فهي فصيلة نادرة اتصلنا ببنك الدم
ووعدونا بتوفيرها بعد دقائق".
صرخ بغضب:
"هذا الطفل لا يملك هذه الدقائق وكيف تنفذ مثل هذه الفصائل النادرة من
خزانتنا دون أن يشعر أحد، كلكم محولون للتحقيق... مَن منكم فصيلة دمه مماثلة؟".
بعد لحظات ترقب جميعهم يحدقون في وجوه بعضهم وأخيراًتقدمت "أشلي"
من مخبأها قائلة بهدوء وبساطة:
"أنا.."
حدق بها بغضب أسود بسؤال كالفحيح انطلق من بين شفتيه
المضمومتين بعصبية وتوتر:
"ما الذي جاء بكِ إلى هنا وكيف دخلتِ؟"
تنحنحت رئيسة الممرضات:
"أنا أدخلتها كنا بحاجة للمساعدة وهي قدمتها بوفرة".
ضغط على أسنانه كاظماً غضبه قبل أن ينفجر حتى سمع صوت احتكاكهم ببعضهم كل
من بالغرفة:
"أمرتك أن تنتظريني في غرفتي".
تمتمت بتوسل وهي تمد يداها بضراعة:
""ليام" انظر للأمر من جانبه المضيء هذا الطفل بحاجة لفصيلة
دمي وأنا متوفرة وأنت عليك إنقاذه والوقت ليس في صالحك أو صالحه، وقد تصادف أنك لن
تعثر على فصيلة الدم النادرة... ليس قبل أن يفوت الأوان".
شهق بصوت مكتوم عندما صدمته الحقيقة بقسوة في كبريائه المتعنت ثم دفعها
للممرضة قائلاً بنزق:
"نكاد نفقده لا وقت لدي للثرثرة الفارغة، أعدِيها بسرعة لعملية سحب
الدم".
ألقى أوامره وأسرع بإشغال نفسه بالأم المصابة في الغرفة المجاورة.
ألقت نظرة جانبية على الطفل الممدد بالقرب منها كان عمره ستة أعوام فقط وقد
نزف الكثير من الدماء حتى بدا وجهه شاحباً هزيلاً، توسلت بصمت أن لا يموت ويعيش
لأمه المسكينة لا شك أنها ملتاعة على صغيرها، غصة أوجعت قلبها وهي تتمنى لو كان
لديها طفل مثله تغدق عليه من الحب الذي حرمت منه طوال حياتها ويكون سندها عندما
تغلق الدنيا أبوابها في وجهها، ولكن ما منعها من
الحصول على مثل هذا الطفل طوال هذه السنوات غير أنانيتها الشديدة وكُرهها لنفسها
وكل من يحيط بها،من بين أفكارها الحزينة فوجئت بـ"ليام" يمسك بمعصمها
ويقيس النبض للحظات ثم نادى على الممرضة دون أن يوليها نظرة الاهتمام التي توسلتها
ولو في مثل هذه الظروف:
"هل وصل الدم؟"
"كلا يا دكتور سيصل حالاً".
"انزعي عنها الأنابيب يكفي ما فقدته من دماء والطفل بإمكانه الصمود
إلى.."
صرخت بهلع تمنعه عن نزع الأنابيب عن ذراعها:
"لا..أرجوك يا "ليام" الطفل المسكين ما يزال شاحباً ...هو
مجرد طفل صغير وأنا امرأة ناضجة لن يضرني أن أفقد بعض دمي..كما أن الكيس لم يمتلئ
لنصفه بعد، أرجوك لا تتظاهر بهذا بالاهتمام الزائف كما لو أنك قد تحزن لو فقدتني".
رد ساخراً بلامبالاة وهو يغادر المكان ماسحاً جسدها المستلقي بنظرات محتقرة:
"أنتِ على حق، أنا لا أهتم...ستكون الدنيا مختلفة فعلاً من دونك".
أغمضت عيناها تتجرع الحقيقة المُرة التي تعيشها كل لحظة في حياتها وها هو
يلقيها في وجهها وكأنها لا تملك أي أحاسيس أو مشاعر لتتألم من كلماته التي أطلقها
لأذيتها وقد أصابت هدفها تماماً.
فتحت عيناها على صوت الممرضة المهلل وهي ممسكة بكيس من الدم وكأنه كنزاً
ثميناً:
"لقد وصل أخيراً، وهذا لا يعني أننا لن نحتاج لدمك فذلك الصغير سيحتاج
للكثير اليوم بعد كل ما فقده المسكين، والآن سأنزع عنكِ هذه الأشياء".
ردت بوهن:
"لا يهم المهم أن يكون ذا فائدة".
هزت لها الممرضة رأسها بابتسامة راضية ثم سألتها قبل أن تعود لتهتم بالطفل:
"هل تشعرين بأي دوار؟"
أكدت لها أنها بخير وأنها ستنهض حالاً لتساعدها ولكن ما إن وضعت قدمها على
الأرض حتى مادت بها وأصبحت ترى كل ما حولها بالمقلوب... فأسرعت بالعودة مكانها مترنحة
ولم تشعر برأسها تسقط جانباً بعد أن فقدت الوعي.
دخل "ليام" مرة أخرى ونظر للطفل وتأكد أنه تخطى مرحلة الخطر ثم
سأل الممرضة عنها فأخبرته أنها بخير وأنها فضلت الإستلقاء لبعض الوقت.
لم يعرف لمَا ساوره القلق ربما لبياض شفتيها الشديد أو لربما لحبات العرق
المتزاحمة على جبينها، تحرك نحوها في سرعة ولهفة بعد أن تأكد أنها تعاني هبوطاً
حاداً وأسرع بعمل الإسعافات الضرورية في مثل هذه الحالات، شهقت عندما اخترقت أنفها
رائحة النشادر النفاذة، فتحت عيناها بصعوبة متسائلة عما حدث لها فطالعها وجه "ليام"
بملامحه الحادة الغاضبة دائماً ولكنها ظنت أنها لمحت بعض القلق يتسلل من بين
عواصفه التي لا تهدأ أبداً ثم سخرت من نفسها عندما عادت ملامحه الغاضبة لتسيطر
عليه بتملكها المعتاد.
رسمت شبح ابتسامة واهنة لوجه "ماثيو" الذي طل من خلف كتف زوجها
بتساؤلات لم تتعدى نظراته القلقة:
"أنا بخير، لا شك أنني بدوت كالبلهاء".
سألها "ليام" ضاغطاً على أسنانه:
"متى تناولتِ طعاماً آخر مرة يا سيدة "ماجواير"؟"
فكرت للحظة ثم همست:
"أمس ربما..لا أتذكر فعلاً".
هتف بسخرية:
"وتهرعين للتبرع بالدم بكرم حاتمي لتصورين نفسك الشهيدة المضحية
الخيرة التي تضحي بنفسها في سبيل إسعاد الآخرين، ماذا سيظن العاملين بالمستشفى عني،
أني أمارس هوايتي المفضلة بتجويع زوجتي ومنع الطعام عنها ثم اسحبها إلى هنا
وأدفعها لتتبرع بدمها".
ردت بعينين مغرورقتين بالدموع بصوت مخنوق:
"لم يكن الذنب ذنبك يا "ليام"، لقد نسيت، لم يخطر ببالي".
تدخل"ماثيو" ليرد برقة لأول مرة:
"لابد أن أشياء هامة كانت تشغلك لتنسي الطعام".
عاد "ليام" يصرخ:
"المجنونة لا تزال تسعى لقتل نفسها".
هدأه "ماثيو" وهو يحاول إبعاده عنها عندما لاحظ تأثرها الشديد
بغضبه:
"لا تقسو عليها يا دكتور أقترح أن تأخذ زوجتك وتضعها في فراش دافئ
وتعطيها وجبة حساء دافئة فوجبة الجلوكوز هذه لن تشبعها".
نظر لها زوجها وقد هدأ قليلاً وسألها:
"هل تشعرين بالقوة للعودة للبيت؟"
"أنا بخير، أقسم لك لقد أصبحت على ما يرام، كيف حال الصبي؟"
رد بنزق وكأنه يكره مجرد سماع صوتها وربما أصبح يكره نفسه لمجرد اضطراره
للوجود معها بنفس المكان:
"لقد أصبح بخير، سأذهب لأعد نفسي للخروج.. وأنت "ماثيو"
ابقى معها واحرص على أن لا تؤذي نفسها مرة أخرى فيبدو أنها تسعى لحتفها بكل قوتها".
بعد ذهابه مد "ماثيو" يده ومسح دمعتان سالتا على وجنتيها فهتفت
مدافعة بحزن وآسى غلف نبراتها الكسيرة:
"لم أتعمد افتعال أي ضجة"ماثيو"، ولم أسعى لقتل نفسي لابد
أن تصدقني".
مد أنامله ووضعها على شفتيها برقة قائلاً بابتسامة رقيقة:
"أنا أصدقك يا عزيزتي ولكنكِ حمقاء لتنسي شيئاً هاماً كالطعام، ماذا
شغلكِ لهذه الدرجة؟".
أطرقت برأسها هامسة وهي تستعيد منظر والدها البائس:
"لقد ذهبت لرؤية والدي هذا الصباح".
شهق "ماثيو" بدهشة:
" كيف تفعلين هذا ألا تعلمين أنه قد يكون خطراً".
"خطره يكون في المساء ولكن في الصباح يكون تأثير الشراب أخف وطأة".
أمسك بيدها متسائلاً برقة:
"لماذا ذهبتِ إليه "أشلي"؟"
أشاحت بوجهها تتأمل المكان الذي اختفى فيه "ليام" وكأنها تناجي
طيفه:
"أردت أن أعرف يا "ماثيو".. وأن أتذكر كي لا أتيح لها
الفرصة لتسيطر على حياتي مرة أخرى... تلك المتوحشة بداخلي".
"أمازال ذلك الصداع يهاجمك؟"
"نعم وإن كان يشتد ضراوة يوماً بعد يوم خاصةً عندما يشتد الصراع بيني
وبينها فهي لا ترضى عن أفعالي".
"وما هي أفعالك التي لا ترضيها؟"
تنهدت قائلة بضعف:
"أن أتخلى عن كل شيء حصلت هي عليه
بالخداع والمؤامرة، أتخلى عن "ليام" وأمواله وأبحث عن عمل أتعيش منه".
سألها متنهداً:
"هل استحالت الحياة بينكما لهذا الحد؟"
تمتمت بصوت خافت أضعف من أن تسمح لنفسها أن تسمعه كي لا تستعيد التفاصيل
المخزية التي تسعى لتنساها:
"لا داعي لإزعاجك بتفاصيل الطريقة التي يعاملني بها زوجي".
أمسك بيدها ليدعمها معنوياً:
""أشلي" دعيني أحدثه رجل لرجل قد..."
شهقت بفزع:
"لا أرجوك "ماثيو"لا تتدخل قد تزداد الأمور سوءاً سأحاول حل
مشاكلي بنفسي".
تنهد بضيق متسائلاً:
"كما تشائين، وأين ستعملين؟هنا في هذه المستشفى".
"إذا أصر زوجي على الاحتفاظ بأوراقي وعدم تسليمها لي".
رد بابتسامة مشجعة:
"إذن أتمنى أن يحتفظ بها للأبد كي أراكِ كل يوم".
"هل أنتِ مستعدة؟"
كان "ليام" يحدق بكليهما بنظرات احتقار، فاعتذر "ماثيو"متململاً
وانصرف متورداً من الإحراج.
لم يوجه لها كلمة واحدة طوال الطريق إلى أن أوقف السيارة في باحة الفيلا
فرفعت الغطاء الذي أحكمه حول ساقيها لكي تستعد للنزول من السيارة فمنعها من التحرك
آمراً:
"لا تغامري بالتحرك الآن أم تريدين الانهيار مرة أخرى لتثيري الشفقة
في من حولكِ هنا أيضاً".
ضغطت على نواجذها بغيظ:
"أنا بخير ولا داعي لأن تحملني لست مقعدة".
راحت احتجاجاتها أدراج الرياح فلم يسمع منها وهو يحملها بسهولة ودون أن
يكلف نفسه عناء النظر إليها ولا مرة واحدة وهي بين ذراعيه إلى أن وضعها في فراشها
وهم بتركها عندما أوقفته:
""ليام"..ما حدث لم يغير من قراري ما زلت مصرة على ما سبق وأخبرتك به في المستشفى، الحياة معك تحت سقف واحد
أصبحت مستحيلة، وأنا لن أحتمل أكثر، سوف أذهب".
قطب جبينه وتمتم بصوت حاد وهو يرمقها بنظرات فوقية:
"ألم تكُفي عن هذا اللغو بعد؟".
"أنت لست بحاجة لي.... ستعود "فراني" بعد فترة وستكون سعيدة
كعاداتها لإرضاء رغباتك".
سألها بحذر وترقب:
"أهذا تصورك لي، مجرد كائن يسعى لسد رغباته".
ردت بتهور:
"لم أرى منك سوى هذه الفضيلة حتى الآن طبعاً إلى جانب توقك الدائم
لإيذائي".
رفع أحد حاجبيه قائلاً بتهكم ولكن بريق عينيه أرعبها فقد كان وكأنه على وشك
الانقضاض على عنقها ليفتك بها:
"يبدو أن ضعفك لم يصل للسانك السليط، سأوصي "بريانكا"
بإعداد عشاء لكِ كي تكتمل عافيتك وأستطيع الرد عليكِ بما يتناسب وتفكيرك بي
عملياً.........."
وترك باقي الجملة معلقة لتقرأ هي ما تريد من ابتسامته الماكرة.
بعد خروجه دفعت عنها الغطاء بعصبية صائحة في نفسها:
"لن أجلس مكتوفة الأيدي كالعنزة المعدة للذبح والسلخ".
شعرت لدهشتها بقدميها ثقيلتين ورأسها يدور في حلقات ولكنها لم تستسلم
وقاومت ضعفها إلى أن بدلت ثيابها وارتدت ثوب النوم وقبل أن تعود للفراش كان قد دخل
كالإعصار حدجها بنظرة قاسية ثم جذبها من تلابيبها فكانت كالورقة في مهب الريح بين
يديه وراح يهزها بقسوة:
"هل أصبحت كل مهمتك في الحياة أن تتحدي أوامري، أمرتكِ ألا تتحركي من
مكانك".
ردت بوهن لاهثة:
"لم أفعل شيء كنت أبدل ثيابي فقط".
بصق الكلمات من فمه متبجحاً:
"ومَن قال لكِ أني أريدك في فراشي بأي ثياب".
وأتبع قوله بالفعل فشق الثوب عن جسدها ودفعها للفراش بخشونة لتسقط عليهمزمجراً:
"أفضلكِ هكذا بدون أي منها حتى لا تتعبيني بنزعها عنكِ في كل مرة".
تمسكت بالغطاء لتخفي عُريها عن وقاحة عينيه المتجردتان من أي شفقة أو رحمة،
وهي تصيح بصوت مرتعش:
"أنت لن تكرر ما حدث أمس؟ أرجوك "ليام" أنا منهكة".
كان يراقب ملامحها المتوترة بتسلية وابتسامة ساخرة بشفتيه:
"لو كففتِ عن هدر طاقتك في المقاومة لن تتعبي".
صرخت بما تبقى لها من عزم:
"ألا تفهم أنا لا أريدك".
لا أريدك..لا أريدك...صدى كلماتها الأخيرة ظلت تدور في فلك أفكاره لا يجد
لها أي معنى في قاموسه.
لدهشتها تحولت ابتسامته الساخرة وملامحه المستهجنة لضحكات مقهقهة ثم اتبعها
بكلماته المتجبرة الواثقة لحد الغرور المفرط بالنفس:
"أنتِ لا تعرفي ما تريدين بدليل أنكِ تستجيبين لي بشكل رائع بعد
مقاومة خفيفة في البداية كما تفعل كل النساء، وهذا هو الدليل".
ولتأكيد وجهة نظره هجم عليها بقبلة عنيفة استمرت قاسية حتى تحولت لعناق من
نوع آخر، كانت أضعف من أن تقاومه وأكثر غباءاً من أن توهم نفسها أنها لا تريده
فعلاً، فهاهو "ليام" الرجل الوحيد الذي يشعل حواسها بنيران الرغبة بمجرد
تواجده في الغرفة حتى لو كان يعاملها كعاهرة بدون أجر، ما لبثت أن تحول جسدها
الخائن بين ذراعيه لجسد راغب ومشتاق لكل لمسة من أنامله وكل لمسة تتمنى في عقلها
الباطن لو يلمسها لها ويحتويها بها.
ابتعد عنها أخيراً يراقبها بابتسامة منتصرة تلملم الغطاء عليها مرة أخرى
متوردة هاربة من نظراته المتهكمة بعد أن أثبت وجهة نظره بالدليل الدامغ مما جعلها
تكره نفسها مرات ومرات وتحتقر كل نفس تتنفسه ولتموت بعده من الذُل والمهانة.
أضجع بجسده جوارها مستمتعاً بانتصاره وبملامح الأسى التي تلون وجهها بعد أن
كانت متوردة منذ لحظات فقط وهي بين ذراعيه مشرقة كوردة رواها بستانيها بالحب،
والآن تبدو كعشبة صفراء شاحبة تبكي مجداً زائلاً أيام المطر، سألها محاولاً سبر
أغوارها:
"والآن أخبريني لمَا قمتِ بهذا العمل
اليوم، التبرع بدمك!!"
سألته متعجبة سؤاله:
"وهل كان لي خيار؟ الطفل كان في حالة خطرة وأنت سألت الجميع إن كان
أحد يملك نفس فصيلة دمه... وكنت بالصدفة بالجوار".
حدجها بنظرات غير مصدقة ولا كلمة واحدة مما تحاول إقناعه به خاصةً هالة
البراءة الزائفة التي تحيط نفسها بها وهي تروي ما حصل:
"أتذكرين، لقد تكرر هذا السيناريو من قبل وفي غرفة الطوارئ من عدةً
سنوات ماضية، مع الفارق أنكِ في المرة الأولى رفضتِ بإصرار غريب التخلي عن نقطة
واحدة من دمك ولو لإنقاذ مريض من الموت".
تمتمت شاحبة مذهولة من هول ما تسمع:
"هل فعلت هذا؟وكيف يمكن أن..... هل كنت فعلاً بهذه البشاعة يا
إلهي..أنا آسفة حقاً.."
غمغم بحيرة وهو يقرّبعدم تصديق:
"ربما تكونين قد تغيرتِ فعلاً ولكن إلى متى وإلى أي مدى لا أدري.."
دخلت "بريانكا" بعد أن طرقت الباب تحمل صينية الطعام فأشار لها "ليام"
أن تضعه على الطاولة في الشرفة ثم أمرها بالإنصراف.
أطاعته الخادمة في صمت وبعد أن أغلقت الباب خلفها هز رأسها مراقباً زوجته
بحيرة متزايدة:
"هل سحرتِ الخدم، في الماضي كانوا يخدمونك بدافع الواجب المُر
المرغمين عليه كي لا يفقدوا وظائفهم، والآن تحدجني"بريانكا" باستنكار
وكأنها تود قتلي، لقد أثرتِ شفقتها هنيئاً لكِ لقد نجحتِ في مسعاكِ، هل آتي لكِ
بالطعام هنا أم ستتمكنين من تناوله في الشرفة".
حدقت به بدهشة وتساءلت كيف ينتقل من مشاعر الكُره الشديدة إلي الاهتمام
المفاجئ بهذه السهولة.
ردت بهدوء:
"لم أصبح مقعدة بعد".
مد يده بدثارها ليساعدها على ارتداءه فتقبلت مساعدته بهدوء، فقد شعرت أن طاقتها استنفذت في مواجهته وهو في النهاية الفائز وبكل
الجولات بلا منازع... استسلمت لذراعيه تساند جسدها المنهك حتى الشرفة.
ما إن وقعت عيناها علي الطعام حتى زمجرت معدتها لتنبهها بالخواء الذي تعاني
منه منذ فترة طويلة، فشرعت تأكل بنهم لدرجة أنه رغم جوعه فضل مراقبتها لتزداد
حيرته بشأنها في كل لحظة عن سابقتها، فالمرأة التي كان يعرفها لا تتصرف بمثل هذه
التلقائية والبراءة، فقد كانت متكلفة في كل تصرف يصدر منها متأففة على الدوام
ومتطلبة فكان الخدم يتنفسون الصعداء عندما تنام أخيراً بعد طلباتها التي لا تنتهي إلى
ساعات الصباح الأولى، كانت قد شعرت بالإمتلاء عندما لاحظت مراقبته لها فمسحت فمها
بالمنديل المعطر وتساءلت بحذر وخجل:
"ألن تأكل؟"
رد بشبح ابتسامة مداعبة:
"وهل تركتِ لي ما يكفيني؟"
نظرت للطعام وقد ازداد خجلها من تصرفها:
"أوه يبدو أنك ظننتني حوت جائع من كمية الطعام التي التهمتها".
لم يبتسم علي مزحتها فقد مد يده لها قائلاً بجفاء:
"لا تنسي تناول هذا؟"
حدقت بالحبة التي يصر على تناولها ثم رفعت عيناها إليه بدموع حبيسة وهمست
برجاء وتوسل:
"أرجوك "ليام" ليس مرة أخرى.. ليس رغماً عني".
خطوة خطوة كلما تقدمت ببارقة أمل تتعلق بأهدابها تتوسل لها بدموع الرجاء
تتلاعب بها وربما تتراقص بين أناملها تريها لمحة، مجرد لمحة من السعادة التي قد
تحصل عليها لو....لو سامحها "ليام" أو لو نسي ولو لدقائق فقط، ولكن
بارقة الأمل تتلوى وترفض البقاء ولو حتى لتتمتع بتلك اللمحة المستقبلية من وهم لن
يحدث ولو ببارقة الأمل تلك، كانت تتأمل زوجها بتحسر على لحظة فرت ولن تعود وهو
يردد كلماتها بسخرية:
"رغماً عنكِ..أمازلتِ تضعين نفسك من ضمن قوائم الشهداء وتوهمينها بأنكِ الضحية هنا وأنا شرير الرواية التي يكرهه كل القراء ويتمنون لو ينتقم منه القدر لقسوته المفرطة على البطلة البريئة صاحبة الدموع السخية؟ تباً لكِ أفيقي من هذا الدور الذي رسمته لنفسك فأنتِ هي الشريرة، أنتِ هي التي وضعت نفسك هنا في هذا المكان، لم أكن ولا في أقصى أحلامي جنوناً قد أفكر أن تكوني أنتِ من ضمن نساء الدنيا كلها أن تكوني زوجتي وتحملي اسمي،
أنتِ هنا لأنكِ أردتِ هذا وبشدة لدرجة
أنه تحقق بفضل ألاعيبك وخداعك، فلا تلومي إلا نفسك لأنني فقط أستفيد من هذا الوضع
السيءوالمزري قدر استطاعتي، ومما يدعو للسخرية أنني وبعد أربع سنوات من الزواج بكِ
أنتِ، أجدكِ "أشلي" تثيرينني كما لم تفعلي من قبل وكما لم تفعل بي أي
امرأة في حياتي... وكما لم ولن أفكر بكِ ولو كنت مخموراً وأرى الدنيا كلها بلون
واحد كئيب، ومع الأسف هذا الأمر يقض مضجعي لأنني لم أكرهامرأة كما كرهتك، ولم
احتقر امرأة كما احتقرتك، ثم أكتشف تأثيرك هذا، هل
تدركي الآن كم أن هذا سخيف ومحبط لرجل مثلي".
توقف فجأة لاهثاً على رنين ضحكتها التي غطى على شخير غضبه فتوقف مدهوشاً يحدق
فيها بذهول فهي تبدو كمَن مسه الجنون تحدجه باستهزاء وبصوت لا يقرب من صوتها قالت
بغنج:
"أووووووه "ليام" أنت حقاً تجعلني أرفل بثوب الغرور، وأكاد
لا أصدق ما أسمع، الطبيب العظيم والجراح العالمي المشهور لا يستطيع الإستغناء عن
الممرضة الحقيرة، أتعرف أين تضعني بكلمات هذه..وأين تضع نفسك...تحت حذائي... كم
أنت رائع بل مذهل ومثير للشفقة يا دكتوووور..."
أسكتها بصفعة مدوية ملأ رنينها أذنيها طنيناً ولم يبالي بذهولها ليس من
الصفعة ولكن من هول ما تلفظت به بدون أن تشعر كانت تحدق في الفراغ وكلماتها التي
نطقت بها شفتيها ترنّ في أذنيها وكأنها تستمع لشريط سبق تسجيله ولكن ليس بصوتها
وإن خرجت الكلمات من فمها، استسلمت وهو يدس الحبة في فمها صائحاً:
"حتى الأورام الخبيثة لها جراحات فعالة، الاستئصال.."
ابتلعتها بغصة مؤلمة وقد اقتنعت أخيراً أنها من المستحيل أن تحب هذا الرجل
أبداً وكل ما شعرت به نحوه كان مجرد افتتان، في الماضي أو الحاضر لا يهم ما يهم هو
الآن لا تبادله إلا كُرهاً بكُره.
فرض عليها عناقه بقسوة فاستسلمت دون أن تتجاوب معه، كانت تحاول جهدها ألا
تستمع لذلك الصوت الشيطاني داخلها، أغاظه جمودها وزاد من عنفه ليجبرها على التجاوب،
ولكن جاءت النتيجة عكسية فشعرت بغثيان شديد وبالكاد استطاعت الإفلات والهروب ركضاً
للحمام حيث أفرغت كل ما في معدتها.
وقف على عتب الحمام يراقبها لاهثا متوعداً:
"هل تظنين أنكِ استطعتِ الهروب مني، اللعنة عليكِ ما من امرأة رفضتني
مثلك وأنتِ من دون نساء الأرض جميعاً ترفضيني أنا، لن أمكنكِ من التلاعب بي مرة
أخرى، ولن أسمع لدموعك الزائفة أن تؤثر بي فما أنتِ إلا الشيطانة ذاتها التي
أعرفها ولن يتغير جلدك ولو بحرقه بالنار".
همست برجاء وهي تتمسك بحافة المغسلة كيلا تسقط من فرط وهنها:
""ليام" أرجوك لا تفعل، أنا..أنا لا أريد.. أكره أن تجبرني...."
رد بصلف وتكبر:
"وأنا أكره نفسي التي تتوق إليكِ، لم تتركي لي الكثير من الخيارات
بإمكانك أن تستسلمي لأنال حقوقي الشرعية كما أريد، ولكنكِ غبية تفضلين أن أغتصبك
وسأفعل لو أصررتِ على عنادك الأحمق".
حدقت في سواد عينيه فلم تلمح إلا كل إصرار وعزم على ما يريد وأدركت من
داخلها أنها لا تملك أي فرصة لأن يلين لها أو حتى أن يحاول التخفيف عنها بتلوين
سواد تلك العلاقة ببعض الرقة من جانبه.
وكانت ليلة أسوأ من سابقتها عندما جرها جراً للفراش واستطاع بعنفوانه
الذكوري أن يسلب منهارغبتها في التجاوب معه، بل وأرغمها على التوسل له أن يعيد
الكرة مرة تلو المرة.
وقبل أن تشرق الشمس تسللت من جواره تحاول منع نفسها من إلقاء أي شيء ثقيل
على رأسه لتقتله كما قتل روحها على مدي ليلتين متتاليتين، دخلت للحمام تجر أقدامها
جراً، استحمت على عجل ثم وضعت في حقيبة جلدية صغيرة قميص نوم واحد وبنطلون وتيشيرت
وارتدت مثلهما ثم وضعت مفاتيح السيارة جوار رأسه لتكون أول شيء تقع عليها عيناه في
الصباح، ألقت عليه نظرة أخيرة وانصرفت مبتعدة عنه وعن حياته إلى الأبد..كما
تتمنى..
