رحلة الموت الأخيرة
دخلت الغرفة مترددة حتى شجعتها مرة أخرى وهي تدفعها بابتسامتها الطيبة الحنون..
قبل أن تغلق الغرفة تمتمت بصوت ممتن:
ـ سيلا..
شكراً لكِ.. أنتِ حقاً الأخت التي لم تنجبها أمي.
استلقت
على السرير تحدق بالسقف مع أفكارها ثم تتحسست بطنها هامسة بألم:
ـ
اعذرني يا صغيري.. تمنيت لو استطعت الاحتفاظ بك.. تمنيت لو احتضنتك على صدري،
وضممتك بذراعي.. لو هدهدتك وأنفاسك تمنحني أماني وكل أسبابي للحياة.. ولكني لا
أملك نفسي.. بداخلي شر لا أعرف متي سيعود ليسيطر على حياتي مرة أخرى.. ولا أدري
ماذا سيفعل بك؟.. لن أمكنه من تعذيبك وتعذيب ليام بك.. سامحني أرجوك، لا يوجد حل
آخر أمامي.
تململت
في مكانها عندما بدأت أشعة الشمس تغزو فلول الظلام لتحتل السماء وتنشر الدفء والأمل الذي لم تشعر
به تلك الحزينة، فقد كتمت شهقتها بيدها وهي تهمس لنفسها:
ـ عند
الشروق التالي لن تكون داخلي يا صغيري.. لن تكون معي أستأنس في وحدتي بضربات قلبك
الصغير تدق في أحشائي.. لن أحظى أبداً بغرام النظر في صفاء عينيك.. ولن أغرق في
بحر براءة ضحكاتك.
من
شدة حزنها على نفسها لم تلاحظ لهفة سيلا على التخلص منها وهي تطمئنها أنها ستلحق
بها فور بيعها للخاتم.. أوقفت لها سيارة أجرة، فتحت لها الباب كادت تدفعها دفعاً،
ثم نقدت السائق أجرته وأعطته العنوان..
هتفت أشلي قبل أن تتحرك السيارة:
ـ سيلا..
حقيبتي معك، انتظري.
ولكن
الفتاة ادعت أنها لا تسمع شيئاً، وهي تركض لتقطع الشارع المزدحم وتختفي بين الناس..
طمأنت أشلي نفسها وأعطت الإشارة للسائق ليكمل طريقه..
وعادت
هي لتغرق في دوامة شرودها ويدها مثبتة على بطنها وكأنها تودع وليدها.. لم تلحظ
دخول السيارة في شوارع جانبية حتى أعلن السائق بتذمر:
ـ سيدتي
إلى هنا لا يمكن التوغل أكثر، فالشوارع ضيقة.. بإمكانك استعمال قدميك في هذه
المسافة الصغيرة المتبقية.
تمتمت
بإحراج:
ـ ولكني
لا أعرف المكان.
أشار
لها بيده:
ـ يمكنك
الدخول من هذا الشارع حتى تصلي لآخره، وبعده على اليمين ستجدي المكان الذي تقصدينه..
هيا أسرعي.. فهذه المنطقة غير مأمونة قد يهجم علينا قطاع الطريق في أي لحظة.
كانت
قد خرجت من السيارة عندما قال ما قال، وقبل أن توقفه نادمة على النزول كان قد طار
من شدة سرعته واختفى في ثوان، تلفتت حولها بخوف.. وقبل أن تتخاذل همت بخطاها لتقطع
الشارع الذي أشار لها عليه حتى وصلت لشارع لم تكن لتطأه أبداً إلا وهي مرغمة كما
هي في وضعها الحالي، فالطرقات ممتلئة بالمتسكعين الزائغة عيونهم بفعل المخدرات
التي أنهكت طاقاتهم وأفنت شبابهم النضر بسمومها..
كادت تصرخ عندما اقتربت منها إحدى الفتيات ترتدي
الثياب الجلدية السوداء التي لا تكاد تخفي من مفاتن جسدها بقدر ما تكشف، راحت
الفتاة تمسحها بنظراتها الوقحة الساخرة وسألتها بنبرة هازئة:
ـ هل
أنتِ تائهة يا حبيبتي؟.. تكلمي معي قد أستطيع إرشادك.. لا تبدين وكأنكِ من هذا
الحي.. تكلمي معي يا صغيرتي، هل أنتِ بحاجة للمخدرات؟..
صرخت
أشلي بفزع:
ـ لا..
أريد.. أريد أن أصل لعيادة الدكتور سامرز.
قرقعت
الفتاة الغريبة الأطوار بضحكة سمع صداها لما بعد عدة شوارع وأخذت نفساً عميقاً من
سيجارتها الطويلة ذات المبسم الذهبي، ثم نفخت دخانها في وجه محدثتها غير مبالية
بضيقها الواضح من الدخان:
ـ أنتِ
إذاً تريدين خدمات الوغد سامرز؟.. ليخلصك من عارك الذي تسبب لك به وغد آخر..
ردت
أشلي بحدة وهي تحاول إجلاء صوتها من نبراته الضعيفة بفعل الدخان والتوتر:
ـ أنا
لا أعرف أي وغد من النوعية التي تشيرين إليها، وإذا تفضلتِ هل يمكن أن تدليني على
العنوان.. أم ابحث عنه بنفسي؟..
تراجعت
الفتاة عن هجومها وهي تشير بطرف عينها لأقرب شرفة:
ـ اهدئي
يا صغيرتي.. ولا تشحذي مخالبك، فستحتاجينها حتماً لمصاص الدماء بالأعلى!!..
ستجدينه في هذه الشقة.. يمكنك الدخول لها من هذا الطريق.
تمتمت
أشلي وهي تتجاوزها:
ـ شكراً
لك.
ردت
الفتاة:
ـ اعتني
بنفسك.
التفتت
أشلي للفتاة فلم ترى منها غير ظلها بعد أن توارت بسرعة، فشكت أشلي فيما سمعت..
لابد أنها تتخيل نبرة التعاطف في الجملة الأخيرة لتلك الفتاة.
ملأت صدرها بالهواء وهي تتذكر وصفها
للطبيب سامرز بمصاص الدماء.. همت بالتراجع قبل أن تصعد أول الدرجات المتهدمة
تقريباً، شعرت بوخز ينخر من قمة عنقها إلى أسفل عمودها الفقري ثم شحذت عزيمتها وتغلبت
على خوفها.. سارت قدماً لتصعد الدرجات المتهاوية، حافظت على توازنها بصعوبة وهي
تصعد الدرجات حتى وصلت لباب الشقة النصف مغلق..
طرقت
عليه لأول مرة طرقة ضعيفة لم تسمعها هي نفسها.. وفي المرة الثانية كانت قد استنفذت
كل الأكسجين في هذا المكان الخانق المقبض، ووضعت عزيمتها في طرقة قوية فتح الباب
على إثرها فوقفت مذعورة منتظرة أن يهب لاستقبالها سكان الشقة التي تنبعث منها تلك
الروائح الكريهة لدرجة أنها بدأت تشعر بالغثيان.
خطت
للداخل خطوتان دون أن يظهر أي أحد، فتشجعت واقتربت أكثر مما بدا عليه مكتب
الاستقبال ثم استجمعت شجاعتها وهي تنادي بصوت خائر:
ـ هل
من أحد هنا؟؟
ومرت لحظات بلا مجيب.. مسحت المكان بنظراتها
المشمئزة فالقاذورات في كل مكان!!.. لا يمكن أن يكون هذا المكان عيادة طبية أبداً..
كما أنه لا يحوي إلا غرفتان فقط.. إحداهما مفتوحة، فطلت فيها بعينيها لم ترى إلا
فراش صغير.. لو دفعوا لها ثروة لن تستلقي فوقه ولو ظلت واقفة على قدميها العمر كله!!..
الغرفة الأخرى أثارت انتباهها للأصوات الخافتة التي تصدر منها.. ازدادت اقتراباً
ليتأكد لها حدسها..
طرقت بخفة على الباب وانتظرت ولم تسمع مجيب،
تسلحت بشجاعتها وهي تفتح الباب على مصراعيه لتقف شاهقة وقد احمر وجهها بكل الألوان،
عندما التفت نحوها بكل برود زوج من الرؤوس يحدقان فيها متمتعان بالحرج الواضح
عليها!!..
سألها الرجل بطريقة كرهته من أجلها قبل أن تعرف
من هو:
ـ تبدين
محرجة!!.. وكأنك لم تري رجل وامرأة عرايا من قبل يمارسان علاقة... !!
قاطعته
بحدة لتمنعه من استكمال جملته التي توقعت أنه لا يملك أي حياء ليسرد تفاصيل هي في
غنى عن سماعها، يكفي أنها رأتها بعينيها:
ـ ليس
في عيادة طبية.. ولكنني طرقت الباب.
نهضت
المرأة بتثاقل وهي ترتدي ثيابها وتغطي وجه
الرجل بالملاءة البيضاء قائلة:
ـ لا
عليك منه.. لقد حذرته بوجود أحد في العيادة، ولكنكِ تعرفين الرجال.. أووووووف..
تعالي معي واخبريني بمشكلتك.
تساءلت
أشلي وهي تلحق بها:
ـ وما
أدراكِ أني في مشكلة؟
التفتت
لها المرأة الأكبر سناً قائلة بلهجة فجة:
ـ حبيبتي..
كل من تدخل هذه العيادة تعاني من مشكلة.. لا يحتاج الأمر لذكاء حاد.. بالإضافة إلى
أنني تلقيت مكالمة صديقتك، ألست صديقة ستيلا؟..
هزت
أشلي رأسها بتفهم وكأن هذا الأمر تاه عن بالها:
ـ
آه.. تذكرت..
ثم
أردفت بصوت مرتجف بعد أن جالت بنظراتها في المكان المقبض:
ـ هل
سيتأخر الطبيب؟..
أمالت
المرأة رأسها على أحد جوانب كتفها قائلة وهي تغمز بعينيها:
ـ حالما
يرتدي ثيابه سيلحق بنا فوراً!!
شهقت:
ـ أتعني
أن الدكتور سامرز!!.. هو!!.. وأنتِ..؟!!
هزت
المرأة رأسها قائلة:
ـ نعم..
الممرضة.. والآن هلا أخبرتني عن مشكلتك؟.. سيلا لم تخبرني بكل شيء.
احتاجت
أشلي لبضع لحظات حتى استوعبت ما يحدث حولها.. فتلك المرأة أشبه بالغوريلا أكثر
منها ممرضة!!.. أما عن الطبيب الغير محترم بالمرة...
أغمضت
عيناها بقوة محتارة..
"كيف
ستسلم حياتها لمثل هذين الشخصين؟؟!!"..
ربتت
المرأة على يدها لتطمئنها:
ـ هدئي
من روعك.. أنتِ بين أيد أمينة!!.. إذا كنت تملكين الثمن المناسب!!..
ردت
أشلي بحشرجة في صوتها:
ـ وكم؟..
عفواً.. كم يكون هذا الثمن المناسب؟
أخرجت
الممرضة سيجارة وأشعلتها وراحت تنفثها بفجاجة:
ـ هذا
يعتمد على حالتك يا صغيرتي.. في أي شهر أنت؟.. متزوجة تريدين التخلص من عارك قبل
أن يعرف زوجك؟.. أم...
صاحت
أشلي بانفعال:
ـ وأنتِ
ما شأنك بكل تفاصيل حياتي؟.. ستعرفان كل ما يتعلق بمهمتكما فقط.. أما تفاصيل حياتي
الشخصية فلا شأن لكما بها.
نفثت
المرأة الدخان بابتسامة ماكرة قائلة وهي ترفع أحد حاجبيها:
ـ وهذا
يتطلب ثمناً أعلى بكثير.
ردت أونيلا متنهدة:
ـ سأدفع
لكما ما تطلبان.. شرط أن تتم العملية اليوم.
شخرت
المرأة الأخرى بصوت مزعج مستنكرة:
ـ اليوم!!..
ولكن هذا مستحيل.. ستبقين معنا اليوم وغداً...
هزت
أشلي رأسها بالرفض:
ـ هذا
مستحيل.. الآن وفوراً.. الأمر عاجل.
ـ ما
هو هذا الأمر العاجل.. يا قطتي الصغيرة؟؟
جاء
هذا الصوت من خلفها زاد من ارتجافة جسدها..
اكتشفت
أشلي أن الإضاءة في الغرفة لم تنجح في أن تستوعب ملامح هذا الرجل كاملة.. هو لا
يمكن أن يكون طبيباً.. ملاكاً من ملائكة الرحمة.. مهمته تخفيف الآلام عن الناس،
ولكن بهذا الوجه المخيف وكأن باصاً قد مر عليه عدة مرات مخلفاً ندوباً بعدد شعر
رأسه الأبيض!!.. وأضاف المعطف الذي غاب لونه الأبيض ليحل مكانه ألوان كثيرة عليه
اللمسة الأخيرة ليقف حائلاً ضد اقتناعها أن هذا هو الطبيب فعلاً.. ثم تذكرت مرة
أخرى كلمات الفتاة غريبة الأطوار التي قابلتها في الشارع عندما وصفته بمصاص الدماء..
لم يبقى إلا الأنياب ويكمل صورة مصاص الدماء الأصلي..
أيقظها صوته من شرود أفكارها:
ـ هل
ابتلعت القطة لسانك يا صغيرتي؟
ردت
عنها الممرضة بصوتها المميز بفجاجته:
ـ الآنسة
تصر على إجراء العملية اليوم.. لا أدري فيم استعجالها؟.. ولكنها...
قاطعها
بحركة من يده جعلتها تبتلع كلماتها التالية قائلاً بابتسامة واسعة صفراء:
ـ ولما
لا؟.. أخبريها بأسعارنا للمتعجلين.. وأنا تحت أمرها في كل ما تطلب.
التفتت
لها الممرضة وذكرت رقماً أذهلها.. ثم غمغمت بالموافقة فتهلل وجه الطبيب وممرضته
وكأنهما وقعا على كنز..
فصاح الطبيب بتلهف:
ـ هيا..
أعدي غرفة العمليات يا كويلا.. وأنتِ.. تعالي معي وأخبريني ببعض التفاصيل الصغيرة.
ردت
كويلا من خلفهما:
ـ سامرز..
لا تسألها عن تفاصيل لا تهمك.. الفتاة لا تريد أن تحكي.
الساعتان
التاليتان كانت أشد وطأة على أعصابها، وكلما شعرت بقرب انفلات أعصابها تذكر نفسها
أنها أوشكت على الخلاص من كل ما سيربطها بحياتها الماضية..
اقتادتها كويلا للغرفة الأخرى بعد أن فرشت
ملاءات نظيفة.. اقشعر بدنها وهي تجلس على السرير وهي تعرف ما تخفيه هذه الملاءة من
قذارة.
دخل الطبيب بمعداته يجرها على طاولة صغيرة
بعجلات ازدردت لعابها بصعوبة.. ليست المرة الأولى التي ترى فيها مباضع الجراح
وأدواته، ولكنها الأولى التي تشعر بشفرات هذه المباضع تمزق لحمها بمجرد النظر
إليها... أغمضت عيناها بقوة لتسمح لدموعها أخيراً بحرية الانفلات لتعيث بوجهها
الفوضى.. خاصة بعد أن شعرت بوخزة الإبرة في ذراعها.. وبعد لحظات بدأت تشعر وكأنها
في مكان آخر، ولكن ظل وجهي الطبيب البشع والممرضة مركزا الأحداث في عالمها الجديد
وهما يجولان حولها يتهامسان.. ويرمقانها بابتسامتهما الصفراء التي يقشعر لها بدنها،
فشعرت أن شيئاً ما على غير ما يرام...
******************
دخلت
سيلا أحد محلات المجوهرات المعروفة، وعيناها تدوران في محجريهما على الماسات
اللامعة في واجهة العرض..
انتبهت على سعلة البائع فالتفتت له بابتسامة
واسعة:
ـ
آه.. لديكم مجوهرات رائعة.
رد
الرجل بتهذيب:
ـ نحن
في خدمتك.. سيدتي.
ردت
بعجرفة بدت متناقضة مع مظهرها المتكلف:
"آه..
ولكنني جئت اليوم لأبيع.. لا لأشتري.
بهزة
من رأسه رد البائع بكياسة:
ـ تحت
أمرك.. سيدتي.
عرفت
أنها ستثير انتباهه عندما أخرجت الخاتم ووضعته أمامه، ثم جلست على أقرب مقعد لها
ووضعت ساق فوق أخرى قائلة بتكبر:
ـ كم
يبلغ ثمن خاتمي هذا؟
أمسك
الرجل بالخاتم وراح يقلبه بين يديه.. ثم سألها:
ـ هل
هذا خاتمك؟.. سيدتي.
ردت
بنبرتها الساخطة:
ـ بالطبع..
خاتمي.. هيا.. أعطيني ثمنه لأذهب بسرعة، ولا تبخسه.. فأنا أعرف ثمنه جيداً.
قلب
الرجل شفتيه وأعاده مكانه قائلا بأسف:
ـ ولكن
مع الأسف مثل هذا المبلغ لن يتوفر لي حالياً.. ربما بعد ساعة بإمكانك أن..
قاطعته
بلهفة وهي تزدرد لعابها بصعوبة وعيناها تجحظان بترقب:
ـ وكم
ثمنه.. بتقديرك؟
عاد
يقلبه بين يديه وقال بعدم اكتراث:
ـ ثلاثون..
ربما أربعون ألفاً وهذا المبلغ....
صاحت
بحدة:
ـ سأنتظر..
سأنتظرك حتى تعد المبلغ لن أتحرك من هنا.
أومأ
الرجل برأسه وأخذ الخاتم واختفى في الداخل لبعض الوقت، بينما جلست تحلم وتتخيل
نفسها غارقة في الرفاهية بعد الأربعون ألفاً وحدها..
عاد إليها يطمئنها:
ـ المبلغ
كله سيأتي حالاً مع ساع خاص، لا تقلقي، هل تشربين شيئاً؟
ردت
بكياسة وهي تضجع على المقعد:
ـ
آه.. لو ممكن بعض الشطائر وكأس من النبيذ الفاخر!!.. فلم أتناول إفطاري بعد".
لم
يبدو عليه أنه تفاجأ وهو يومئ لها برأسه :
ـ طبعاً
سيدتي.. هل من شيء آخر؟
ـ لا..
شكراً.
بالكاد
كانت قد انتهت من تناول شطائرها عندما اقتحم المكان رجلان ما كادت تقع عيناها على
أحدهما حتى خرت على ركبتيها من الرعب..
بينما توجه ليام للداخل يهتف:
ـ أشلي..
أشلي.. أنت!!.. أنت ماذا تفعلين هنا؟
سأله
ماثيو بدهشة:
ـ هل
تعرفها؟
رد
ليام وهو يحاول استيعاب الموقف:
ـ هذه
جارة أشلي، والتي ادعت أنها لا تعرف عنها شيئاً.
رد
صاحب المحل:
ـ هي
التي حاولت بيعي خاتمك سيد ماجوير، هل هذا هو؟
أمسكه
ليام ثم التفت للفتاة التي أمسكها وهي تحاول التسلل في غفلة منهم وشدها من
تلابيبها صارخاً:
ـ تكلمي..
كيف وصل إليكِ هذا الخاتم؟.. وأين هي زوجتي أشلي؟
شهقت
الفتاة بصوت مرتعب:
ـ ولكنها
أخبرتني أنك صديقها.
هتف
ماثيو:
ـ أنظر..
هي تحمل حقيبة أشلي.
اشتد
رعب ليام عندما رأى حقيبة زوجته بيدها فجذبها منها وهو يدفع بجسد الفتاة المرتجف لماثيو:
ـ لا
تفلتها، حتى أرى الحقيبة.
أفرغ
محتوياتها ففوجئ بكل أوراق زوجته ومحفظتها وحتى مفاتيحها.. أحس بشعر رأسه يقف من
شدة الصدمة، وقد خالجه شعور قوي مرعب أنها في مشكلة.. مشكلة كبيرة..
التفت نحو ماثيو هامساً بضعف وقد استهلكت الصدمة
طاقته:
ـ قبل
أن تصل الشرطة لابد أن تعترف أين هي زوجتي وإلا قتلتها بيدي هاتين.
أنهى
جملته الهامسة بصراخ ارتجت له جدران المكان.
فشد
ماثيو الفتاة من تلابيبها ملوحاً بقبضته فصرخت باكية:
ـ سأخبرك..
أرجوك لا تضربني، ولكن أقسم لك أن لا ذنب لي.. هي التي أصرت و....
صرخ
ليام بغضب ك
ـ تكلمي..
أين هي؟
*******************
أوقف
ماثيو سيارته فتلفت ليام حوله زاجراً:
ـ ما
هذا المكان؟!.. هل أنت متأكد من العنوان؟!!
تنهد
ماثيو باستياء:
ـ لابد
أن يكون هو، وإلا الويل للملعونة تلاعبت بنا.
اقتربت
من نافذتيهما فتيات الأرصفة تتلوين بملابسهن الخليعة، فخرج ليام أولاً وأبعدهن
بخشونة.. ثم تكفل بالفتيات حول صديقه كذلك، فلم ينجح بأخلاقه اللطيفة بإبعادهن.
أشار ماثيو للشرفة القريبة من الأرض:
ـ أعتقد
أن هذه هي العيادة.
حث
ليام خطواته بعزيمة ولكن أوقفته فتاة متسائلة:
ـ هل
تبحث عن أحد؟.. قد أستطيع إفادتك.
هم
بتجاهلها فنادته عندما تجاوزها:
ـ لعلك
تبحث عن فتاة لا تبدو وكأنها من هذا المكان.
ظهر
الاهتمام جلياً على الرجلين فعاد إليها ليام يمسك بعنقها:
ـ تكلمي..
وهاتي ما عندك.
ردت
وكأنه لا يهددها بالخنق:
ـ هل
تهمك لهذا الحد؟.. بكم تقدر معلوماتي عنها؟
ناولها
ماثيو بضعة ورقات نقدية فانتزعت نفسها من بين يدي ليام قائلة:
ـ أرجو
أن لا تكونا قد جئتما متأخرين، فمصاص الدماء هذا لن يتواني عن بيعها قطعة.. قطعة..
ربما قبل أن يخدرها.
هز
ليام رأسه غير قادر على استيعاب ما يسمع، وقد شعر بحمم بركانية تتدفق في رأسه وهو
يتخيل ما يمكن أن يكون قد حدث..
هزه
ماثيو:
ـ دكتور
ماجواير!!..
رفع
ليام يديه منتفضاً وكالوحش الذي كسر قيوده وحطم قضبانه انطلق بأقصى سرعة.. دفع
الباب الخشبي المغلق بقدمه فانفتح أمامه.. راح ينادي بصوته الملتاع
ـ أشلي..
أشلي.. أين أنتِ؟
فتح
الباب الأول بنفس الطريقة.. ثم انتقل للباب الآخر ووقف مذهولاً أمام مشهداً لن
ينساه في حياته أبداً.. رغم أنه طبيب ومعتاد على رؤية الدماء!!
وقف
الجميع وقد احتل الرعب محل ابتساماتهما الصفراء المتداولة.. وذلك الوحش الأدمي
يصرخ منادياً على زوجته بلوعة وألم...
"أشليااااااااااااااااااا
***********
تمر علينا لحظات نتمنى لو تتمدد بنا لساعات.. وساعات.. وأحياناً
نتمناها لو تكون كل حياتنا، وبعض اللحظات الأخرى قد نتوسل كيلا تزرونا حتى في
أحلامنا مرة أخرى، فيكفيها ما كابدنا من عذاب وهي تمر علينا تدهسنا بوحشية أسفل
وطأتها، تكاد لا تمر فتخنقنا بثقلها وتحبس عنا الهواء لدرجة تمنينا الموت لو كان
هو السبيل الوحيد لتمر تلك اللحظات بسلام دون أن تترك بصماتها علينا مدى الحياة...
في أقل من ومضة عين انتابت ليام كل تلك المشاعر بعد أن
دفع بقدمه باب الشقة، ليفاجأ بمشهد الصدمة الأولى تزلزل كيانه وهو يحدق بـ "ice boxes" التي يعرفها طبيب مثله كما يعرف
اسمه، فهي الصناديق المخصصة لنقل الأعضاء البشرية في الثلج كي لا تتلف أثناء
نقلها..
ظن أن تلك
اللحظة الكئيبة لن تمر أبداً، يتخيل نفسه وقد تأخر كثيراً على إنقاذها.. ولكن صوت
أنين لفت انتباهه فالتفت لماثيو الذي بدا وكأن تلك اللحظات السوداء ذاتها دهسته،
ولكن أملاً بدأ يضيق بخفوت آخر نفق الهواجس الكاحل الظلام..
فهمس:
ـ يبدو أننا لم نتأخر، هذا صوت أنينها.. الأوغاد
يمزقونها حية!!..
بينما تسمرت قدمي ماثيو من شدة الرعب في مكانه، دفعه
الأمل الخافت لأن ينقض الزوج المكلوم على الباب الذي يصدر من خلفه الأنين المستمر
وصوتها المعذب ينخر عظامه نخراً يصله متلوياً ثملاً:
ـ ماذا تفعلون.. بي؟... اتركوني...أرجوكم... كــ.. ـــم.
وبعد أن دفع الباب بقدمه لم يصدق ما تراه عيناه.. لم ولن
يصدق بعد مئات السنين أنه هو الجراح والطبيب الذي لم يهتز مبضع في يده أبداً، قد
يهتز لرؤية ذلك المبضع الملوث بالدماء بين يدي ذلك الجزار وقد بدأ بعمل شق في
صدرها.. ولم يكن ذلك المشهد وحده هو ما جعل قلبه يتلوى ويعتصر داخل صدره، بل
عينيها المفتوحتين الدامعتين وهي تراقب المبضع يتحرك على صدرها يشقه دون أن تستطيع
الذود عن نفسها إلا بدموعها وتوسلاتها بعد أن تخدرت أطرافها، شهقت الممرضة متراجعة
أمام منظر الرجل المقتحم المكان، بينما تطلع له الطبيب متسائلاً بتبجح:
ـ ما هذا؟.. من أنت؟.. وكيف تقتحم غرفة العمليات؟؟....
لم يكمل جملته إلا وشعر بجسده يرتفع فوق الأرض وقبضات
خطافية لا يكاد يراها تنهال على وجهه حتى حطمت أسنانه، وحولت وجهه لساحة معارك
دامية، أمسك ماثيو ذراعه قبل أن يجهز عليه متوسلاً:
ـ اتركه.. لقد أبلغت الشرطة، سينال جزاءه العادل.. أشلي
بحاجة لك أكثر منه، إنها تنزف.
تركه يسقط من يده وكأنه أفاق من غيبوبة إرادية والتفت
لها يفحصها بعين الطبيب تارة وبعيني الزوج الملتاع تارة، وشعر للحظات بالضياع
وكأنه لم يدرس أبسط أساسيات الإسعافات الأولية، ولم يعد إلى أرض الواقع إلا عندما
طمأنه ماثيو:
ـ اهدأ.. لقد جئنا في الوقت المناسب، تنحي.. سأحملها
عنك.
دفعه ليام بشراسة، مد يده يمسح دموعها بينما تولى ماثيو
وضع ضمادات على جرح صدرها.
تمتمت بضعف:
ـ ليام.. أنا... آسفة.
أخذ الألم يتنافس مع الغضب في معركة غير متكافئة بين
إحساسه وملامحه العابسة، وهو إحساس كافح بقوة ليقمعه كي لا تتأثر به وهي في مثل
حالتها هذه
ـ يتوجب عليكِ الأسف أيتها السيدة.. لقد خلعت قلبي من
مكانه وسيتوجب عليكِ إعادته لصدري فيما بعد.. أشلي.. أشلي..
ربت ماثيو على كتفه مطمئناً:
ـ لقد أعطيتها مخدر.. هل نسيت أن المسكينة كانت تشعر بكل
ما يفعلوه بها؟.
احتقن وجهه مسوداً وهو يلتفت للممرضة التي لا تزال ترتعش
في مكانها ملتصقة بالجدار..
ـ ألا تعرف الرحمة طريقاً لقلوبكم؟!.. ما أنتم وحوش في
هيئة بشر؟!..
ردت كويلا بصوتها الفج المميز رغم نبرة الخوف الواضحة
فيه:
ـ لم نعرف أن أحداً يبحث عنها.. قالت أنها وحيدة في هذا
العالم.. وصديقتها التي اتصلت بنا أكدت كلامها.
صرخ ليام وهو يهجم عليها لولا ماثيو الذي أمسكه قبل أن
يصل إليها:
ـ وهذا سبب كافي لتمزقوها حية؟!.. ترى وتشعر بكل ما
تفعلونه بها.. ولا تمنحوها حتى رحمة الموت بسلام؟!.. هل رغباتكم السادية تصل لدرجة
المتعة برؤية الألم يتآكلها ومخالبكم تمزق لحمها قطعة قطعة؟.. ليباع في مزاد لمن
يدفع أكثر.
قلبت شفتيها وهي تتأمل الطبيب الفاقد الوعي على الأرض
وقد ضاعت معالم وجهه من شدة الضرب:
ـ ولماذا نكلف أنفسنا شراء أجهزة
التخدير الباهظة الثمن وعاجلاً أو آحلاً ستصبح جثة فارغة؟!..
هذه المرة فوجئ ليام بقبضة ماثيو وقد طارت من فوق كتفه
لتحتل وجه كويلا الذي تفجر بالدماء مع بعض أسنانها، ثم رد على نظرة صديقه المتسائلة:
ـ هذه المتوحشة لا تستحق أن نستثنيها بصفتها أنثى..
اسمع.. هذا صوت سيارة الإسعاف.. احمل أشلي، وأنا سأظل مع هذه الحيوانات المفترسة
لأتأكد من تسليمهما للشرطة بنفسي.
أومأ له ليام، وبرفق شديد حمل زوجته حتى سيارة الإسعاف،
وقبل أن يغلق المسعف باب السيارة لمح تلك الفتاة الغريبة الأطوار تلوح له بابتسامة
دامعة، فهز رأسه بنظرة شكر وعرفان أغلق بعدها الباب لتنطلق السيارة بسرعتها
المعهودة.
بكلمات مختصرة أبعد المسعف يديه عندما علم هويته وتركه
يتأكد من مؤشراتها الحيوية ويقوم بدوره كطبيبها و.. زوجها.
فتحت عينيها رمشت لبعض الوقت حتى اعتادت الضوء، كان أول
شعورها هو جفاف شديد في حلقها فتمتمت بصوت متحشرج:
ـ ماء.. أريد أن...أشرب.
امتدت ذراع أسفل رأسها لترفعها عن الوسادة ويد أخرى
امتدت لتسقيها الماء فتقبلته بلهفة تروي عطشها الذي كاد أن يترك جرحاً في حلقها من
شدة الجفاف، أغمضت عينيها متمتمة بكلمة شكر وحيدة استطاعت أن تخرج من بين شفتيها،
واستسلمت بعدها لإغفاءة طويلة.
ظل بجوارها لا
يبرح مكانه رغم محايلات الممرضات كي يستريح لبعض الوقت ولكنه أبى أن يتحرك قبل أن
يطمئن أنها أصبحت بخير.
عادت لتفتح عينيها مرة أخرى تتلفت حولها بدهشة واستغراب،
وكأنها تذكرت شيئاً هاماً وشهقت بفزع وهي ترى ليام يتأملها بوجه جامد لا يقرأ من
ملامحه أي تعبيرات.. فعادت تتمتم:
ـ هل.. هل أنا ميتة؟.. أين أنا؟؟
رد بصوت جامد وهو ما يزال متأثراً بصدمة رؤيتها مشقوقة
الصدر أسفل مبضع الطبيب الجزار:
ـ برأيك أي مصير تستحقيه بعد ما فعلته بنفسك؟..
وما......
شهقت بقوة جرحت حلقها الجاف وهي تتذكر جنينها، فمدت يدها
على بطنها المسطحة تتحسسه بلهفة.. وضع ليام يده على يدها يطمئنها:
ـ أنت بخير.
هزت رأسها بعنف يمنة ويسرة وكأنها لا تريد تصديق ما
تخبرها به عيناه.. لا تريد تصديق الفراغ الهائل الذي تشعر به في أحشاءها.. وترفض
بشدة أن تتصور أنها من قتلته كي تحميه!!.
ضم رأسها بقوة متمتاً جوار أذنها:
ـ أنا لا ألومك.. كان قدره أن لا يحتمل كل ما حدث..
و....
كتم صراخها مرة أخرى بضمها أكثر لأحضانه فقد كانت تعوي
كحيوان جريح بأنين يمزق نياط القلوب:
ـ أنا السبب.. أنا القاتلة.. ليام، لا تسامحني.. لا
أستحق غفرانك، قتلت ولدي.. لا أستحق إلا الموت مثله.
أغمض عيناه بقوة، ثم أبعد رأسها يمسكه بقوة متفرساً في
دموعها وانهيارها ثم همس بحزن:
ـ لن أدعي أنني لا أبالي.. ولكني سعيد بنجاتك أنتِ، هذه
الخسارة يمكنني تعويضها.. أما خسارتك أنتِ، أنتِ.. لا تعلمين مقدار ما شعرت به من
عذاب من لحظة اختفائك حتى وجدتك.. إحساس لا أحب مجرد التفكير فيه مرة أخرى، كانت
لكِ أسبابك.. ولن أبرئ نفسي، كنت شريكاً لك فيما حدث.. دعينا نفكر في المستقبل.
همهمت بصوت جريح:
ـ أوه.. ليام.. كيف سأغفر لنفسي؟.. كيف؟....
قبل جبينها بقبلة دافئة أعادت لها بعض توازنها وسألها:
ـ هل تتذكرين ما
حدث لك؟
حدجته بنظرة متسائلة..
فأردف:
ـ سامرز.. وكويلا؟..
وضعت يدها على فمها بشهقة كبيرة، والصور تتوالى على
رأسها تتذكر ما أوشكوا أن يفعلوه بها.. فاضت الدموع من عينيها سيولاً ثم هزت
رأسها:
ـ بعد أن خدروني.. بدأوا بالتكلم أمامي، نعم كنت ممددة
أمامهما كالذبيحة يعدونها ويتقاسمونها بينهما، بل أنهما تجادلا من منهما سيحصل
على....
ضغطت بقوة على
بطنها فهدأها:
ـ لا بأس.. لا بأس عليكِ.. أنتِ بخير الآن، وهما
سيتعفنان في السجن حتى الموت.
هتفت بشهقات بكاء متتالية:
ـ أنا لا ألومهما.. ليام.. لا ألومهما.. أنا فعلت هذا
بنفسي، هان علي جنيني أن أقتله بيدي.. أنا سمحت لهما بهذا.. فكيف ألومهما ولا ألوم
نفسي؟.. ربما كانت لديهما أسبابهما، ولكن ما هي أسبابي أنا؟.. لماذا هان علي وليدي
لأقتله، لماذا؟
رفع رأسها عن الوسادة ليضمه لصدره فلفت ذراعيها حول عنقه
بتملك متمتمة بتوسل:
ـ لا تتركني.. ليام، أرجوك.. لا تتركني.
ربت على ظهرها بحنان:
ـ لن أتركك أبداً.. أشلي، لماذا ظننتني بحثت عنكِ؟
ابتعدت عنه وهي تعييد النظر إليه بتوجس:
ـ هذا صحيح.. لقد أنقذتني.. رأيتك تضربه.. كيف وجدتني؟..
ولكن.. لماذا بحثت عني؟.. لماذا؟..
مد يده ليمسد على خصلات شعرها المتطايرة فابتعدت عن
لمسته تتحاشاها كمن يتحاشى النار أن تحرقه.. تنهد متعجباً من موقفها ثم أجابها:
ـ بحثت عنكِ كالمجنون.. لم أهدأ حتى وجدتك، أنت زوجتي أشلي..
وحبيبتي.
رددت كلماته بعيني زائغتين:
ـ حبيبتك!!.. أنا حبيبتك؟!!.. لقد تبعتني لرغبتك بولدك،
ولم تحتاجني يوماً، هذا هو السبب.. أليس كذلك؟.. عندما جاءك خبر موتي منذ ثلاث
سنوات، لم تبحث عني، لأنك لو فعلت لوجدتني.. ولكن هذه المرة مختلفة، فأنا لم أختفي
وحدي هذه المرة، ابنك.. معي.
ـ أشلي.. أنتِ مشوشة الآن ولا تعرفين عن أي شيء تتحدثين.
التمعت عينيها ببريق مخيف:
ـ بل أنا واعية تماماً لكل حرف يخرج من فمي يا سيدي
الطبيب العظيم.. أنت لم تسعى خلفي لغرامك المتقد في عشقي.. أنت لم تحبني أبداً،
ولن تحبني.. فقط كنت تريد ما أحمله في
بطني، وبعدها لن يهمك من أمري ولو سلمتني بيديك لكويلا وسامرز ليمزقا لحمي
ويبيعونه قطعة قطعة.. هذا ما كان سيؤول له مصيري لو لم أكن حامل بابنك، أليس كذلك؟
أطرق برأسه قائلاً:
ـ لن أكذب عليكِ بكلمات لا معنى لها.. ولكني سأخبرك بأمر
واحد.. نعم في المرة الأولى لم أكلف نفسي عناء البحث عنكِ.. نعم ارتحت عندما جاءني
خبر موتك.. لست فخوراً باعترافي هذا، ولكنه الحقيقة، أنا مدان مثلك، عندما استحالت
الحياة بيننا كان لابد من الوصول لحل يرضي الطرفين بدلاً من انتظار موتك لأشعر
بالراحة التي شعرت بها، ولكن في المرة الثانية، كان الأمر مختلف.. أنتِ كنت
مختلفة.. لطالما حاولت إقناعي أنكِ أصبحتِ مختلفة.. ولكني لم أصدق، ربما كنت غبي
كي لا أفهم ما يحدث.. وأعمى كي لا أراكِ بعد ما تغيرت.. وأصم لم أسمع صوتك ولا صوت
كل من حاول الدفاع عنكِ، ولكن لحظة اختفائك كانت كالجحيم بالنسبة لي، وأنا أتخيل
أنني قد لا أستعيدك هذه المرة.. وأنا أفكر أن القدر قد لا يكون رحيماً معي هذه
المرة ويعيدك لي.. مرت حياتي كلها أمام عيني عندما دخلت تلك العيادة ورأيت صناديق
الثلج مرصوصة أمامي، وتخيلت الأسوأ في الحال، وعجباً.. لم أرى أي معنى لحياتي في
تلك اللحظات بدون وجودك فيها.
مد يده ليمسح دموعها، فأمسكت يده على وجنتيها تشم رائحته
المسكية وتغمض عيناها بقوة وهي تتساءل بهمس:
ـ هل خفت على حياتي ليام؟
هز رأسه بشبح ابتسامة مريرة تلاعبت بجانب شفتيه:
ـ كلمة خوف تبدو هينة الآن ونحن نتحدث، ولكن في تلك
اللحظة، كانت تبدو لي كوحشاً أسطورياً مرعباً يوشك على التهامي.
تمتمت بصوت باكي:
ـ حتى لو كان خوفك من أجل ابنك، أنا لا أمانع أن تشفق
علي بسببه، سأرضى بهذه العاطفة.. أنا أعلم أنه من المستحيل أن أنتظر حبك بعد كل ما
حدث.. ولكن...
سألها يستحثها:
ـ ولكن ماذا؟.. ماذا أردتِ أن تقولي يا أشلي؟
ـ فقط خائفة من أن يسيطر الشر الذي زرعه والدي داخلي..
ماذا سأفعل يا ليام؟.. هل ستكرهني مرة أخرى؟..
ظل سؤالها معلقاً بدون إجابة عندما غلبها النعاس مرة
أخرى
خرج ليام من الغرفة بعد أن تأكد من أنها في سبات عميق
بفعل المهدئ، فوجد ماثيو بانتظاره..
ـ كنت أهم بالدخول إليها.. كيف هي؟
أجابه ليام غارقاً في أفكاره:
ـ لم أصدقها من قبل، ولكني رأيتها الآن وكأنها مختلفة..
مرة أجدها تبدو وكأنها زوجتى الأولى قبل أن تفقد ذاكرتها، ومرة تعود ذلك الملاك
الذي عاد لي بعد طول غياب.. في البداية رفضتني بتعنت، لأني على حسب كلامها لم
أريدها إلا من أجل ابني.. وبعد قليل وافقت بعاطفة الشفقة كالرابط الوحيد بيننا وهي
تستحقه بجدارة.. أنا لا أفهمها، ما الذي يحدث بحق السماء لزوجتي؟
هز ماثيو رأسه بابتسامة واسعة:
ـ أخيراً.. الآن فقط سأسمح لنفسي أن أحكي لك كل شيء،
تعال معي.
**************
توقفت السيارة في باحة الفيلا، شد ليام ذراع الفرامل، ثم
التفت إليها ليسألها بحنان غريب لم تعتاده منه:
ـ هل أنتِ بخير؟
ردت بصوت مبحوح:
ـ نعم.. فقط ينتابني شعور غريب، كأنني لست أنا!!.. وأنت
شخص مختلف، ولكن هذه الفيلا هي المكان الذي أعود إليه دائماً من كل رحلة موت
لي!!..
سألها بتعجب:
ـ هل هذا شعور طيب؟
ضمت شفتيها وهي تهز رأسها بابتسامة ناعمة:
ـ هو كذلك بالنسبة لي.
قال لها قبل أن يفتح بابه:
ـ لا تتحركي.. سأحملك.
استكانت حتى فتح الباب بجوارها وانحنى ليحملها بسهولة،
فضحكت بخجل:
ـ أنا بخير صدقني.. أنت لم تسمح لي بمغادرة المشفى قبل
أن تفك كل قطبي.
ـ نعم.. أنا متأكد أنكِ بخير.. ولكني أرغب بتدليلك.. هل
ستمنعيني؟
أحنت رأسها بدلال على كتفه بابتسامة وهي ترفع كتفيها
قائلة بصوت ناعس:
ـ لا.. من يقدر أن يعترض لفرمان أصدره الطبيب العظيم!!
قاطعها هامساً وهو يجتاز بها الدرجات القليلة قبل أن
يدخل الفيلا:
ـ بل زوجك فقط.. و.. حبيبك.
خيل له أنه لمح التماعة غريبة في عينيها ما لبثت أن
اختفت خلف أجفانها التي أسبلتها بدلال وهي تتكئ برأسها على كتفه.
لاحظت أنه لا يتجه نحو غرفتها فحدجته بنظرات حذرة جعلته
يقهقه ضاحكاً:
ـ كم تبدين كصفحة شفافة.. أعلم ما يقلقك ولكن ما سترينه
الآن سيدهشك!!.. أغمضي عينيك.
أطاعته مستمتعة بجو الإثارة الذي ترى شقاوتها تتلاعب
بعينيه، حتى سمعته يقول:
ـ افتحي الآن.
شهقت بسعادة غير مصدقة ما ترى، فالغرفة تغيرت بالكامل،
كل الأثاث تم استبداله، حتى ألوان وديكورات الغرفة تغيرت لألوان أجمل وأكثر
روعة...
أنزلها لتقف على
قدميها تتلفت حولها بسعادة :
ـ ليام!!.. كل هذا من أجلي.. أنا؟!!
رد متأثراً بسعادتها:
ـ كل الفيلا سيتم تغييرها، ولكن الوقت لم يسعني لأتمكن
إلا من تغيير غرفة النوم فقط، والباقي سيخضع لأوامرك أنتِ وذوقك.
سألته بدهشة:
ـ أنا!!.. ذوقي أنا!!..
أحاط خصرها بيديه قائلاً:
ـ هذا بيتك أنتِ.. وأنتِ لك حرية تغيير كل حجر فيه.
سألته باندفاع:
ـ وفراني؟..
وضع يده على شفتيها:
ـ لقد ذهبت بلا رجعة.
أطرقت برأسها قائلة بإحساس ملتهب بالذنب:
ـ أنا.. أنا التي سرقت الخاتم، كنت أعرف أنك اشتريته
لها.. فبدا لي الحل المثالي لأضرب عصفورين بحجر واحد.
لدهشتها قهقه ضاحكاً وهو يزيح خصلة شعر هاربة على وجهها:
ـ إذاً قررتِ اغتيالي بكل الطرق.. تحطيم قلبي بضياع
الخاتم، وأذية نفسك.
أطرقت رأسها بدموع حارة وصوت مخنوق:
ـ أنا آسفة.
عاود الضحك وهو يرفع رأسها قائلاً:
ـ ولكني لست كذلك.. بإعادة النظر لحجم الخسائر بالمقارنة
بالغنائم، استعدت زوجتي وحبي الوحيد.. خسرت عشيقتي وخاتمها عاد لي، أعتقد أنني
الفائز.
سألته بحذر:
ـ عاد لك؟!.. ولكن.. كيف؟؟
ـ ألم تتساءلي ولو مرة كيف عرفنا عنوان العيادة التي كدت
تلقين حتفك وحتفي فيها؟؟
شهقت واضعة يدها على فمها:
ـ ظننت أنكما تعقبتما عيادات الإجهاض و..
هز رأسه بألم وأسف وعيناه تظلمان بالذكريات المريرة:
ـ مع الأسف صديقتك أرسلتك لعيادة غير مدرجة، لأنهم لا
يتعاملون مع الإجهاض، بل كل عملياتهم على تجارة الأعضاء.. وهي بكل وقاحة ذهبت
لتبيع الخاتم.. لم يكن مقصوداً أن أجدها عندما اقتحمت محل الصائغ الذي أبلغني فور
عثوره على الخاتم الذي عممت نشرة بأوصافه، توقعت أن أراك أنتِ.. وكم كانت خيبة
أملي.
أطرقت برأسها بتمتمة خجلة:
ـ وهي أبلغتكم بمكاني؟
تنحنح يجلي صوته بنظرات مكيرة:
ـ ليس فوراً.. ليس قبل أن يخيفها حبيبك القديم بقبضته.
رفعت رأسها بحدة متسائلة ببريق معاتب:
ـ حبيبي!!.. ليس لي حبيب سواك.. إلا إذا كنت تقصد...
كمش أرنبة أنفها بإصبعيه قائلاً بنبرة مشاكسة:
ـ نعم.. هذا هو..
تشاركا ضحكة نادرة بعد أيام طال فيها الحزن وكاد العبوس
يحتل محياهما:
ـ ليام.. هل أنت جاد بمسامحتي رغم أنك لا تحبني؟؟
تنهد بصعوبة وهو يضمها بحنان لصدره قائلاً بصوت أجش من
التأثر:
ـ ما يجمعنا أكبر بكثير من كلمات حب.. لا يمكن أن يترجم
من خلال حرفين، إحساسي نحوك، أو إحساسك نحوي أقوى.. ما أشعر به حالياً أنني أكثر
من سعيد باستعادتك.
ردت بنبرة حادة لا مبرر لها:
ـ وابنك؟.. هل ستنكر أنك حزين لأنني المتسببة بفقده؟
رد بحذر:
ـ قد لا أسامحك لو لم تعوضيني عنه.. ارتاحي الآن
فالإرهاق يرسم خطوطه على وجهك الجميل.
ظلت مسمرة مكانها بعد أن خرج وأغلق الباب خلفه، تلفتت
حولها، فغمرها إحساس رائع بالفرح.. لقد غير كل هذا من أجلها، ألوان الغرفة
أرجوانية بدرجاتها الناعمة كما تحب.. الأثاث كلاسيكي قديم كما أخبرته ذات يوم عن
غرامها بهذا الاستايل.. كيف تذكر كل هذا؟..
وقفت أمام
المرآة تتحسس زجاجات العطر ببهجة نُحرت في مهدها عندما رأت انعكاس صورتها في
المرآة.. أغمضت عيناها بقوة وهي تحاول الابتعاد ولكن صوتها الصارم الذي اخترق
عقلها أوقفها:
ـ انتظري أيتها النعجة المسكينة.. اسمحي لي أن اصفق
لكِ!!.. لقد تمكنت من فعل ما لم أستطعه.. لقد عدتِ للفيلا، والأدهى شغلت قلب
الطبيب العظيم، بسذاجتك وابتسامتك الخجولة.. استطعت استئثاره وطرد الغانية اللعوب
التي التفت حوله كالحية، وأنت أيتها النعجة بعينيك الناعسة وابتسامتك الخجولة
تفوقت على دهائي وحيلتي.. ولكن لا يهم، المهم أنكِ عدتِ بنا إلى هنا مع كل الغنائم،
ولكن إياكِ أن تصدقي ولو للحظة أن زوجنا العزيز قد يفكر بكِ بطريقة مختلفة.. فأنتِ
قاتلة ابنه.. كيف تصدقين بسهولة أنه قد يسامحك؟!.. لا تستسلمي.. كُفي عن التصرف
كنعجة بانتظار السكين لتنحر بدون شفقة ولا رحمة.. أبوكِ نفسه لم يرحمك، لماذا يكون
ليام مختلفاً؟
صرخت أشلي وهي تبتعد عن المرآة وتصم أذنيها بيديها
صارخة:
ـ لا..لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. لا.. ليست أوهام.. ليام..
رد الصوت المغناج داخلها بقهقهة ساخرة:
ـ ليام سينتظر حتى تعوضيه عن الابن الذي قتلته، وبعدها،
أنتِ إلى الشارع.. مهما اضطر الآن لأن يغني لكِ قصائد غرام ليملأ بها أذنيكِ كي
تسلمي له الوتين فينحرك بكلمة واحدة بعد أن تلدي ولي عهده، ويبعده عنكِ ليأمن عليه
منكِ ومن تصرفاتك الخرقاء، ولكن لو استمعتِ لي ولنصائحي، سأخبرك تماماً ما عليكِ
فعله لتضمني ألا تخرجي من هذه الفيلا أبداً.
دخل ليام الغرفة وخلفه الخدم ففوجئ بزوجته وقد استلقت
على السرير نائمة، التفت لبريانكا فردت بسرعة:
ـ أقسم لك يا سيدي لقد سمعت صرختها بأذني، ولست وحدي لقد
سمعها كل الخدم، أليس كذلك؟
تنهد ليام وأخرجهم من الغرفة:
ـ لا بأس بريانكا، سنتفق فيما بعد على عمل مناوبات بحيث
لا تُترك بمفردها أبداً.. تفضلوا الآن عودوا لأعمالكم.
تأمل بحيرة جسدها الذي استلقى بعشوائية على السرير..
استعاد بذهنه ما حكاه له ماثيو عن حالتها واستبد به القلق أن تؤذي نفسها مرة أخرى،
حملها بخفة كي يضع رأسها على الوسادة، ففتحت عينيها اللتان أشرقتا برؤيته جوارها
فاتسعت شفتيها بابتسامة ناعسة:
ـ ليام.. ماذا تفعل؟
رد وهو يزدرد لعابه بصعوبة:
ـ أساعدك لتتخذي وضعاً أكثر راحة للنوم.
تلاعبت ابتسامتها للتحول من البراءة للإغراء وهي تهمس
بدلال:
ـ سأكون أكثر راحة إذا ما ساعدتني لأبدل ثيابي.
أمسكت يده قبل أن يتحرك مبتعداً فبررر ابتعاده:
ـ سأنادي بريانكا لمساعدتك.
لمح توسلاً يئن في بريق عينيها وهي تتشبث بيده بقوة:
ـ ولكني لا أريد مساعدة بريانكا، أريدك أنت ليام.
راح ينظر لها بتركيز بعينين ضيقتين كأنه يحاول قراءة ما
يدور بعقلها.. لم يدري لماذا فجأة قفزت صورتها بحلة التمريض عندما دخل غرفته في
ذلك اليوم ووجدها تستلقي في فراشه بنفس النظرات الواعدة، فسألها وهو يعود ليستلقي
جوارها:
ـ هل أنتِ متأكدة مما تطلبين؟.. أشلي
اهتزت لدى اقترابه منها أحست بأنفاسها تعلق بحلقها، حتى
بدأت تشعر بحرارة أنفاسه على وجهها فدفعت صدره بيديها بحركة منفعلة شاهقة:
ـ توقف.. توقف.. انتظر.
همس وهو ينقض على شفتيها المتمردتين بجوع نهم:
ـ لن أنتظر، لقد تلقيت دعوتي منكِ، دعوة كنت أنتظرها فلم
وجع الانتظار؟!..
اجتاحت العواطف الجياشة كل كيانها، مد يديه ليجردها من
ثيابها وهي كاللعبة بين يديه.. وعندما انتهى منها شعرت وكأن الدماء في عروقها
تحولت لحمم بركانية ملتهبة، رمقها بنظرات طويلة أبدية قبل أن ينقض عليها مرة أخري
بكل ظلال الشغف التي تغيم بها عيناه متمتماً:
ـ أشلي.. حبيبتي.. لو تعلمين كم أعشقك!!
شعر بيديها وقد التفتا حول عنقه لتجذبه إليها بعد أن
كانتا سداً على صدره تبعده عنها، فابتعد ليلمح بريق عيناها وقد أظلمت حدته ورأى
فيهما ما شجعه على عناقها مرة أخرى سعيد بنجاح تجربته، وقد علم أخيراً كيف سيقضي
على تلك المتمردة داخلها.
**************
فوجئت بريانكا بسيدتها تدخل المطبخ لأول مرة بعد عودتها
فانتفضت من مكانها لتستقبلها:
ـ سيدتي!!.. مرحباً هل أردت شيئاً؟
ردت أشلي وهي تجول بنظراتها في المطبخ:
ـ نعم بريانكا.. أردت صنع طبق خاص طلبه مني زوجي للعشاء
الليلة، ويتوق لأن يأكله من يدي.
شهقت بريانكا بسعادة:
ـ هل أنتِ جادة؟!!.. لم لا تخبريني بمقاديره وأنا أعده
لكِ؟.. فمازلتِ في فترة النقاهة.
صاحت أشلي بحدة غير مبررة:
ـ لا!!..
وعندما لاحظت اندهاش بريانكا والطباخة المتزايد تراجعت
بابتسامة ناعمة:
ـ قلت لكِ أنه يتوق لأن يأكله من صنع يدي أنا.. ولا
تقلقي... فهو طبق خفيف ولن يأخذ صنعه مني وقتاً، لن يتعبني.
هزت بريانكا كتفيها وهي تنظر للطباخة نظرات متعجبة:
ـ لا بأس يا سيدتي.. طالما أن الدكتور لن ينزعج.
دوت قهقهتها المغناج في أركان المطبخ مما جعل بريانكا
ترتعد مفاصلها وهي تحدق فيها بغرابة فتراجعت بابتسامة ماكرة وهتفت تطمئنها:
ـ لا تقلقي.. سيدك سيكون سعيداً بأي شيء أعده له بيدي...
***************
الخاتمة
******
صوت المقاومة
داخلها كان يعلو ويعلو:
ـ لا..لا
تفعلي...لا ..لا..لا..
صرخت وهي تصم
أذنيها وعيناها تقدحان شراً:
ـ اخرسي...
لاحظت قلق الخادمة
وقد أوشكت على طردها.. فاعتدلت بابتسامة وتابعت بحماس:
ـ لا تقلقي بريانكا.. لقد اتفقت مع ليام، والآن.. أفسحي لي مكان
لأصنع طعام زوجي بنفسي.
تجاهلت نظرات
خادمتها المرتابة وشرعت بحماس تضع المكونات تحت عيونهن المتابعة الفضولية...
نظر لها ليام
مرة أخرى بمزيج من الحيرة والحذر وقد بدت بعباءتها الحريرية المزينة بالمجوهرات،
وشعرها الذي صففته بعناية واتقان، وتبرجها الذي حولها من مجرد امرأة، لملكة تخطو
برشاقة وتهدي لمن حولها نظراتها كمنح ملكية من كرمها.
ضاقت حدقتاه
متسائلاً بحيرة:
ـ والآن.. أخبريني ما هي مناسبة كل هذا.. مرة أخري؟
هزت رأسها
بعتاب وهي تتأبط ذراعه وتتجه به نحو قاعة الطعام:
ـ ليام.. حبيبي.. لو سألتني
هذا السؤال مرة أخرى سأغضب منك كثيراً، تعال معي لأريك مفاجأتي.
أوقفها ليمسكها
من كتفيها محدقاً بعينيها المكحلتين بخطوط جريئة وقحة:
ـ هل أخبرتك
اليوم كم أحبك؟..
اهتزت للحظات
انكسر فيها توهجها ثم زفرت بحدة وهي تدفعه أمامها:
ـ ليام.. حقاً.. هل تريد أن تفسد مفاجأتي؟
رد ضاحكاً وهو
ينصاع لأوامرها مستسلماً حتى أدخلته
قاعة الطعام:
ـ بالطبع لا.
وقف مذهولاً
أمام المائدة العامرة بكل ما لذ وطاب من طعام يكفي لإطعام جيش كامل من الجياع:
تمتم مفكراً:
ـ يبدو أننا
فعلاً نحتفل بمناسبة خاصة.
تعلقت بعنقه
بتملك هامسة بنبرة دلال:
ـ اليوم هو
ذكرى لقائنا الأول يا حبيبي، ألا يستحق الاحتفال؟
استقرت عيناه
عليها واجماً وذكرى ذلك اليوم تحيا مرة أخرى رغماً عنه في خياله، زحزحت عيناها
لأعلى فلاحظت ما اعتراه، عادت ابتسامتها تتلاعب بشفتيها وهي تحرك شفتيه بإصبعها
بحركة إغراء واضحة لم تخفى عليه:
ـ حبيبي.. هل نسيت أول لقاء لنا؟
رد بحدة وهو
يمسك كتفيها يغرز أصابعه في لحمها:
ـ كلا.. أشلي، لم أنسي.. ولكن
ذكريات أخرى سكنت عقلي أجمل وأحلى.
ثم خفف قبضته
عنها وهو يطوق خصرها ويدور بها، ثم ألصق جبينه
بجبينها قائلاً:
ـ مثل ذكرى تلك
الليلة التي اكتشفت فيها أنكِ عذراء، رغم صعوبة ما حدث وقتها على نفسي، ولكني كنت في قمة سعادتي لأنك منحتني شيئاً خاصاً جداً
لي، وفضلتني عن أي رجل آخر، ومثل تلك المناسبة التي منحتني فيها طفلنا، أجمل هدية
يمكن أن تمنحها امرأة لرجلها.
انسابت الدموع
من عينيها فلطخت وجهها بسواد الكحل، دفنت رأسها في صدره وهي تتشبث ببذلته بأصابع
متشنجة، فربت على شعرها يهمس بكلمات حانية، ثم أخرج منديله ورفع وجهها وراح يمسحه
وينظفه برقة بالغة:
ـ أشلي..
ردت بصوت متعب:
ـ نعم...
ـ أنتِ أشلي
حبيبتي، أليس كذلك؟
ـ نعم.
ازداد ضمه لها
وتحملت رغم اعتصاره لجسدها بقوة، ولكن الأمان الذي حملته أنفاسه الحارة هو ما كانت
تنشده فاستكانت حتى سمعته يقول ضاحكاً:
ـ معدتي بدأت تنادي
وتزعق لهذا الطعام الشهي، ما رأيك أن نسد زئيرها ببعض الطعام؟.. ثم..بعدها ....
رسم بإصبعه
خطوطاً وهمية على منبت عنقها، فسرت في جسدها قشعريرة لذيذة وهو يتابع بصوته الحالم
الواعد:
ـ وبعدها نصعد
لغرفتنا و أبثك حبي حتى تصرخي باكتفاء...
تنهد بارتياح
عندما لمح احمرار وجنتيها من الخجل وهي تنسل من بين ذراعيه وتسبقه لتجلس على
المائدة.. جلس في مكانه وعينيه تجولان على أطباق المائدة المتنوعة:
ـ أنا حائر.. بأيها أبدأ؟...
دخلت بريانكا
تحمل في يدها طبقاً تتصاعد منه الأدخنة ومعه رائحته الطيبة المشهية:
ـ أعتقد أنك
تريد أن تبدأ بهذا الطبق بالذات، فقد قضت سيدتي ساعتين تعده لك بنفسها.
حدج زوجته
بنظرة مازحة:
ـ أحقاً!!.. طبق مخصوص لي، يبدو أنكِ تكنين لي مشاعر خاصة جداً
كي تدخلي المطبخ وتقومي بإعداده بنفسك... ما هذا؟.. ما اسمه؟..
ردت بحدة غريبة
وهي تقبض يديها على بعضهما بتوتر:
ـ الباييلا.. أخبرتني ذات مرة أنك تعشق هذا الطبق الأسباني.
غمغم وهو
يتشممه بعمق بعد أن وضعته بريانكا أمامه:
ـ يبدو شهياً،
ولكني سأؤجل حكمي لما بعد التهامه لآخر قطعة، شكراً لكِ حبيبتي.
لم يلاحظ
نظراتها الوجلة التي راحت تراقب كل حركة منه وهو يمد يده بأول ملعقة ليلتهمها بعينيه
بتلذذ واضح قبل أن تصل لفمه..
وقفت بريانكا وهي لا تعلم لم شعورها بكل هذا القلق، سيدها يتلذذ بطبق
الباييلا الذي صنعته له زوجته الحبيبة، قبل أن يلتهمه ويتغزل فيها.. وينهال عليها بكلمات الشكر،
دون أن يلاحظ أنها لم ترد بكلمة واحدة، دون أن يرى عيناها المسمرتان على طبق
الباييلا لا تحيد عنه، ويداها اعتصرتهما في حجرها وقد تعرقتا بشدة لدرجة أن بريانكا
فكرت أن تمد يدها لها بفوطة المائدة لتجففها..
ولكنها وقفت مسمرة كذلك تفكر بهذا التصرف الغريب،
خاصة عندما بدأت عيناها تتحرك على الملعقة التي دسها ليام في طبقه لتخرج محملة بما
أثار شهيته ولعابه وهو يمني نفسه بألذ وجبة تناولها خاصة وهي من صنع يدي زوجته، يكاد
لا يصدق أنها فكرت فيه لتصنع له وجبة خصيصاً له..
كانت الملعقة قد
أوشكت على الدخول لفمه دون أن يلاحظ ازدياد توترها ولا حتى صوت الأنين الذي أخذ
يصدر منها دون وعي وكان مقاومة طاحنة تدور في نفسها، ولكن بريانكا لاحظت وبدأت استشعارها
بالخطر يزداد، ولم تعرف أين تماماً، فوقفت حائرة وهمت بفعل أي شيء، ولكن كانت أشلي أسرع منها فقفزت نحو زوجها تدفع
الملعقة قبل أن تدخل فمه لتسقط أرضاً أمام ذهول الجميع...
كانت لحظات
تسمرا فيها في أماكنهما كالأصنام، يجيلا النظر بين الملعقة والطبق وأشلي المنهارة
في بكاء هستيري على الأرض، هز ليام رأسه ليفيق ويهرع لزوجته يحملها ويضمها لصدره
بقوة ليهدئ من بكائها، ولكنها لم تهدأ، فصرخ لتفيق بريانكا من ذهولها:
ناوليني إبرة
المهدئ، ستجدينها معدة على مكتبي، أسرعي بريانكا
تحركت أخيراً
من مكانها لتلبي أمره، بينما احتضن جسد زوجته المرتجف بين أحضانه، ولم تهدأ وتيرة
بكائها إلا بعد لحظات من سريان المهدئ في وريدها حتى استسلمت للنوم وآثار الدموع
تغسل وجهها من كل آثار تبرجها.
مسد على آثار
دموعها برقة، ورتب شعرها المنفلت من تصفيفه يكاد يلتهمها بعينه عشقاً:
ـ حبيبتي،
سامحيني..كم ظلمتك دون أن أدري، ولكني لن أتخلى عنك أبداً..
تمتمت بريانكا
بصوت ضعيف:
ـ سيدي!!.. هل كان الطعام.. مسموم؟!
حمل زوجته وأمر
الخادمة بصوت منهك قبل أن يخرج بها من غرفة الطعام:
ـ ارمي كل هذا
الطعام، واحرقيه.
أومأت بريانكا
بصمت وهي تراقبه حتى غاب عن عينيها:
ظل جوارها طوال
الليل يراقبها لا يكاد يصدق ما كاد أن يحدث للتو، رغم المهدئ كانت ترتعش بشدة
وتتمتم بكلمات غير مفهومة.
سمع طرقات على الباب،
ثم دخلت بريانكا:
ـ سيدي.. دكتور ماثيو بالخارج يقول أنك طلبت منه الحضور.
هز رأسها ونهض
بزفرة راحة، وقبل أن يخرج ألقى عليها نظرة أخيرة وأمر بريانكا بحدة:
ـ لا تتركيها
ولو للحظة واحدة، هل سمعتِ؟
ـ كما تأمر
سيدي.. لا تقلق.
هب ماثيو نحوه
عندما لاحظ ملامحه المنقبضة:
ـ هل حدث شيء؟.. هل هي بخير؟
جلس ليام ووضع
رأسه بين كفيه قائلاً:
ـ لقد حاولت
تسميمي.
صدر من ماثيو
صرخة استنكار وعدم تصديق:
ـ يا إلهي!!.. وماذا حدث؟.. تبدو
لي بخير.
صاح ليام بحيرة:
ـ لا أدري.. شيئاً ما حدث.. في
آخر لحظة دفعت الملعقة قبل أن تدخل فمي، ثم انهارت تماماً، وهي الآن ما تزال تحت
تأثير المهدئ.. بمن ستتصل؟..
رد ماثيو وهو
يطلب رقماً من هاتفه الخليوي:
ـ صديقي الطبيب
النفسي الذي استشرته في حالتها.
انتحي ماثيو
جانباً في محادثات جانبية استمرت لنصف ساعة، ثم عاد بعد أن قطع الاتصال:
ـ يبدو لي أن
الأخبار جيدة، يقول أن تصرفها يعني، أنها انتصرت على شخصيتها الشريرة، ويبدو لي
أنها قتلتها عندما رفضت أن تقتلك.
تساءل ليام في
حيرة:
ـ وكيف أثق بها؟.. كيف أتأكد أنها لن تعاود قتلي؟.. أو قتل أي أطفال لنا في المستقبل؟..
تنهد ماثيو
قائلاً:
ـ السبب الذي
أخرج تلك الشخصية الشريرة، هل تذكره؟
ـ نعم، والدها.
ـ كما فهمت من صديقي أشلي
ليست مصابة بانفصام في الشخصية بالمعنى الدارج..
لكن شخصيتها الشريرة الحاقدة مجرد درع صنعه
عقلها لحماية نفسها، ظهر كرد فعل لما فعله بها والدها، وأنت أخذت مكانه،
الزوج والأب والحبيب، بيدك وحدك أن تضمن عدم رجوع تلك الشخصية
الشريرة، لو أحببتها بصدق، ولكن ربما لو تعرضت
للأذية مرة أخرى قد يعود درعها الواقي أكثر متانة وقوة من الأول وعندها سيكون من
المستحيل التعامل معه، العقل البشري يا صديقي له ألاعيبه الخاصة التي يبتكرها
للحماية.
فتحت أشلي
عينيها وابتسمت لوجه زوجها الذي وجدته يحدق بها بافتتان، سألته بدلال:
ـ ليام!!.. لماذا تنظر لي بهذا الشكل؟..
هل ستلتهمني؟..
رد بجدية:
ـ قد أفعل.
تظاهرت بالخوف
وهي تبتعد عن مرمى ذراعيه:
ـ وقد لا أسمح
لك.
تبنى دور
الشرير المتوحش وهو يقتنص ذراعيها ويجذبها نحوه ليتمكن منها ويشد على خصرها بقوة:
ـ ومن طلب منك
الإذن؟.. سألتهمك وقبل أن تعي ستكونين في معدتي،
لن أبقي منك شيئاً.
ضحكت وهو يتبع
كلامه بالفعل وهي تشعر بأسنانه على عنقها، وما لبث المزاح أن انقلب لعناق حار ألقت
فيه كل دفاعاتها وهي تستلم لأحضانه والأمان في لفحات أنفاسه المدغدغة.
تنهد بقوة قبل
أن يسألها:
ـ أشلي.. هل تذكرين والدك؟
ارتجفت
فاحتواها أكثر يضمها بقوة أكبر فهمهمت:
ـ نعم.
ـ هل تذكرين ما
كاد أن يفعله بك؟
شهقت بألم:
ـ ليام.. لا تحدثني في هذا.. لا أريد أن أسمع.
رفع وجهها
ليتطلع له قائلاً بكل حب:
ـ أردت أن
أخبرك أنه لن يؤذيكِ أبداً طوال حياتي، سأحميكِ منه ومن أي شر قد يؤذيكِ، لن أسمح
له أن يقترب منكِ أبداً طالما في صدري أنفاس تتردد.
دفنت وجهها في
صدره قائلة بانتحاب:
ـ هلا احتضنتني؟.. أرجوك.
لم تكن بحاجة
لالتماس أكبر إذ أدارت له ظهرها لتندس بين ذراعيه، فشد على خصرها بقوة يشدها
بإحكام لتلتصق بصدره قائلاً بصوت خشن:
"ـ تعالي
إلي يا حبيبتي، لن أسمح لكِ أبداً أن تبعديني عنك.
غمرها بحرارة
مشاعره وقوته الرجولية، فتشبعت برائحة الأمان المنبعثة من جسده وحرارة أحضانه،
فأخذت ترتعد من قوة العواطف التي جاشت بجسدها فهمست بصوت مشبع بالراحة:
ـ ليام.. أنا
أحبك.. أحبك كثيراً.. حتى قبل أن نتزوج، كنت أراك
من بعيد الطبيب الوحيد الذي لا يعيرني انتباه، ولكني شعرت من داخلي بحب عميق نحوك
ولم أعرف كيف أبوح لك به.. وعندما عدت من تلك
الجزيرة بعد أن عادت لي ذاكرتي، أول سبب لعودتي أنني سأعود لك أنت.. حبي الأول، ولك أن تتخيل كيف كانت صدمتي برد فعلك
لرؤيتي، وشيئاً فشيئاً فهمت كل شيء.
سألها غير مصدق:
ـ أشلي.. هذه المرة الأولى التي تعترفين فيها بحبي.
تحركت عيناها
في مكانهما:
ـ لأنها المرة
الأولى التي لا يمنعني فيها أي شئ عن الاعتراف بحبك، دائماً كان ذلك الصوت داخلي
يمنعني، ولكن هذه المرة أشعر بحرية كبيرة، وسعادة أكبر..
أنت هنا معي ترمقني بتلك النظرات، أشعر أنك قد تحبني في يوم من الأيام، ولكنك
ستفعل أليس كذلك؟؟.
سألها بضحكة
مكتومة:
ـ يا لها من
ثقة!!.. من أين لكِ بها؟..
أم أن هذا غرور زائد أيتها السيدة؟..
ـ أنا مغرورة
بك، ولو لم تحبني..
وضع يده على
شفتيها متمتماً:
ـ ليتني أستطيع.. منذ تلك اللحظة التي لامست فيها قدميك أرض المطار
وأنا أحارب كي لا أحبك.
*************
ـ أشلياااااااااااااااااااااااااااااااااااا...........
أطلت أشلي
برأسها من غرفتها صائحة بصوت مرتفع:
ـ ماذا تريد؟؟
عاد يصرخ بصوته
الجهوري:
ـ نحن لم نتفق
على هذا، إرضاع الأطفال مهمة الأم، وليس الأب.
دخلت عليه غرفة
الأطفال لتقهقه بالضحك أمام أجمل منظر لزوجها وقد حمل طفله الرضيع يصرخ بين يديه
ويرفض تناول الرضاعة، وهو كالغارق في بقعة ماء..
التفت لصوت زوجته الضاحك فنهض ودفعه إليها
متذمراً:
ـ تفضلي أيتها
الضاحكة.. هذا ابنك المتوحش الصغير.
تساءلت ببريق
عابث:
ـ ابني وحدي!!.. هل صنعته وحدي دون مجهود منك؟
صاح يلوح
بذراعيه:
ـ لا يمكن أن يكون صاحب الحنجرة الجهورية هذا ابني، انظري له
كيف....
توقفت محدقاً
بكليهما غير مصدق ما يرى، وقد هدأ الطفل فوراً بعد أن شعر بذراعي أمه، فتذمر
مهدداً:
ـ هذا ليس
عدلاً، ماذا ينقصني ويجده عندك ليسكت فور أن تحمليه؟..
همست بأذنه
بدلال:
ـ هل أخبرك؟.. بشرط ألا تحسده على حصوله عليه وحده!!..
قهقه ليام:
ـ لقد أصبحت
شقية أيتها الزوجة الحبيبة، وجريئة، تُرى لمن يرجع الفضل في
هذا؟
تنهدت برضا
قائلة:
ـ كيف أكون
زوجتك ولا أحصل على شهادة الدكتوراه في الشقاوة، يا زوجي الحبيب؟..
غمرها
بعناق قوي استسلمت له بكل خلية في جسدها حتى ابتعد مرغماً عند سماعه لأنين ابنه
يصرخ طالباً الهواء فصاح بتذمر:
ـ
هذا لن يجدي..أعيدي ذلك الصبي، لم أعد أريده..
مسدت
شعره قائلة بحنان:
ـ يا
لك من طفل كبير..
أبعد
يدها عن شعره وصرخ بحدة:
ـ بريانكا..بريانكا..
أسرعت
الخادمة بتلبية النداء، ولم تكد تدخل الغرفة حتى وجدته يضع الصبي بين يديها آمراً
بصرامة:
ـ
هذا عهدتك، لا أريد ان أسمع صوته، ليس خلال الثلاث ساعات المقبلة على الأقل
ثم
التفت لأشلي التي ازداد احمرار وجهها على نحو جذاب، فهمهمت بريانكا بابتسامة
واسعة:
ـ لا
تقلق سيدي، يكون بأمان تام
ـ
حسناً...
شهقت
أشلي بمقاومة ضعيفة وهو يجذبها من يدها ولم يتركها إلا داخل غرفته والتفت لها بعد
أن أحكم إيصاد الباب بالمفتاح:
ـ
والآن أشلي...
عقدت
يداها على صدرها واحتدت نظراتها قائلة بصوت رنان:
ـ
والآن ليام..من منا تحت رحمة الآخر، لقد أصبحت لي أخيراً، أنت بكل أموالك وبدون أي
رادع...
وأكملت
وعيدها بضحكة مغناج عالية..
ولكنها
فجأة توقفت أمام شفتاه المطبقتان ونظراته العاتبة:
ـ
ممثلة فاشلة..أنت يا زوجتي الحبيبة..ممثلة فاشلة اعترفي لا مستقبل لك في هذه
المهنة..
صرخت
بتذمر:
ـ
لماذا أين أخطأت..؟؟ لا يمكن أن تكون قد اكتشفتني..
أطلق
قهقهة عالية:
ـ
ولكني فعلت..
ـ
وكيف أيها الحاذق..
لف
ذراعيه حول خصرها وضمها لصدره بقوة متمتماً بصوت أبح من العاطفة
ـ
لأنني الوحيد الذي تمزق قلبه ألماً عند مواجهة تلك الشريرة وأعرف إحساسي جيداً عند
ظهورها..وهو لا يقان بما أشعر به الآن..لا يمكنك أن تخدعي إحساسي يا حبيبتي، أنت أشلي
حبيبتي وزوجتي وعشيقتي وأم ابني صاحب الحنجرة الجهورية
ولن
أسمح أبداً لتلك الشريرة بالظهور مرة أخرى، سأموت أولاً قبل..
وضعت
يدها على فمه شاهقة بخوف:
ـ لا
تقلها أرجوك..
قبل
يدها بقوة هامساً:
ـ
لقد مرت من الثلاث ساعات نصف ساعة، هل لنا أن ...قبل أن ....
ولم
تترك له الفرصة ليكمل جملته لتغيب معه في عناق مستحق هو مزيج من الحب والعشق بعد
سنوات من الألم والعذاب...
ـ ليام....
ـ
نعم أشلي..
ـ هل
تحبني..؟
تأوه
بشغف:
ـ دعيني أبرهن لك...بالفعل لا بالكلام ....
تمت بحمد الله
