زوجة منسية
**********
جلس خلف مكتبه منكفئ الرأس على دفتر صغير وقد انهمك في قراءته يقلب صفحاته
المهترئة من كثرة التقليب فيها وقد زاغت عينيه على الكلمات وكأنها خناجر تطعن فيه
بلا رحمة، ولم تمنعه آلامه من تقليب المزيد والمزيد من الصفحات، ربما كي لا ينسى
أبداً أو يحاول تذكير نفسه بماضٍ لم يستطع الموت محوه وها هو قد عاد ليسخر منه ومن
محاولاته للنسيان طوال هذه السنوات، تساءل لماذا لم يطعمه للنيران، لماذا لم يتخلص
منه، وسخر من نفسه، لابد أنه يهوى تعذيبها لأنها يوماً استجابت للشر رغم معرفتها
به، أغلق الدفتر بقسوة وكأنه اكتفى وضرب عليه بقبضته يتوعد بشرارات الغضب ألا يسمح
لشرها أن يَستشري مرة أخرى، لابد أن يقمعها، طالما ما تزال أنفاس تتردد في صدره.
أطرقت "أشلي" بزفرة متنهدة، وابتسامة شاحبة تسأل خادمتها:
"كنتِ لا تستلطفيني كثيراً "بريانكا" أليس كذلك؟"
وافقتها الخادمة بهزة من رأسها:
"ربما كان في الماضي سيدتي، عندما كنت تعاملينا كالعبيد، لا أخفي عليكِ
سراً كنا نكرهك، أنا وكل الخدم في الفيلا"
التمعت عينا الفتاة وهي تتابع بتردد
"أما الآن فأنتِ مختلفة، لا
أدري كيف ولكنكِ امرأة أخرى حنونة ورقيقة، ليت سيدي يدرك كم تغيرتِ حقاً، آه يا
إلهي سيدي.. لقد أسرفنا في الثرثرة، هيا أسرعي كي لا يغضب وتضيع كل مجهوداتنا سُدى،
آه.. انتظري ضعي بعضاً من هذا العطر".
ثم ساعدتها في وضع الدثار الحريري على أكتفاها، وشجعتها مرة أخرى بابتسامة
وهي تسير معها حتى أوصلتها لغرفة مكتبه، وقفت على الباب بينما دخلت سيدتها بعد
طرقة واحدة ووصل لها صوته يأمرها بالدخول.
كان قلبها يدق بعنف عندما التفت لدخولها وراح يشملها بنظراته الوقحة من قمة
رأسها حتى كل تفصيلة لا يكاد يخفيها الرداء الحريري الأبيض أو يظهرها لعينيه
المحدقتين بوقاحة، فشعرت بالاحتراق وكأنها سقطت في آتون مشتعل، سألته بصوت متردد
قبل أن تطاوعها قدماها وتهرول هاربة من أمامه عائدة لأمان غرفتها:
"هل أرسلت في طلبي؟"
رد بصوت صارم جاف لا أثر فيه للرقة، والعبوس يحتل خطوط وجهه بخطوطه
الكثيرة، بالإضافة لقلة الضوء في الغرفة أظهرته بوجه مخيف أرعبها:
"نعم، إجلسي".
أخذ دورة كاملة يلف حولها يدقق النظر فيها مرة أخرى، جالسة يديها ترتعش في
حجرها مطرقة برأسها تخشى مواجهته، لإحساس غامض يستولي عليها أن سبب استدعائها ليس
شوقه إليها بالتأكيد، ثم سألها بنبرة مهددة محتقرة:
"ألم تجدي ملابس أكثر عُرياً من هذه لتتمشي بها في أنحاء الفيلا أمام
الخدم، هل تدني مستواكِ لحد إغوائهم؟".
صعقتها ملاحظته ، رواح العرق البارد يتسلل من جبينها، ودقات قلبها تزداد
خفقاً، وتذكرت نصائح "بريانكا" فتماسكت وردت بهدوء مصطنع:
"الوقت متأخر وأنت استدعيتني، أتريدني أن أبدل ثيابي وأتأنق لمجرد أنك
طلبت لقائي في غرفة مكتبك في هذا الوقت من الليل".
سألها بصوت أقل حدة وإن لم يتخلَ عن صرامته:
"لما لا تتحلي بالشجاعة الكافية لتعترفي أن غرضك ببساطة هو... إغوائي".
نظرت حولها لتُضيع تأثيره عليها قائلة متصنعة اللامبالاة.
"عزيزي "ليام" يقيني أنك لست بحاجة لهذا النوع من الإغراء
فمنذ تزوجنا ونحن نعيش كالأغراب تحت سقف واحد وكل منا يعمل ما يحلو له، ولست على
يقين تماماً أي ملابس أرتديها قد تشكل أي أهمية بالنسبة لك، أغلب ظني أني لن أؤثر
بك قدر شعرة ولو وقفت أمامك متجردة من أي ثياب".
برقت عيناه بشكل مخيف قائلاً:
"هذا عظيم أرى أن ذاكرتك قد بدأت تنتعش، ولكن أنتِ على حق في أمر
واحد، أنتِ فقدتِ أي تأثير يمكن أن يحرك شعرة واحدة برأسي" وندت عنه زفرة ساخرة وهو يردف
"ولا أقصد بالطبع ذلك التأثير الذي ربما يكون قد شطح به خيالك، فأنت
لم تملكي أياً منه في الماضي لتستطيعي نيل به ولو مجرد نظرة رضا مني، وما أقصده
هنا هو ذلك التأثير الآخر، أبسطه قدرتك على إغضابي، وإفقادي السيطرة عليك أو
عليك".
أومأت برأسها متيبسة من الخوف الذي سمرها في مكانها كتمثال من الشمع، ولم
تخبره أن "بريانكا" هي مصدر كل معلوماتها عن حياتها الماضية، فليظن ما
يشاء، يبدو أنه أصدر حكمه مسبقاً على كل حال، أردف وهو يلقي لها بدفتر أمامها:
"إذن لابد أنكِ ستحتاجين لهذا ليساعدك على ملئ الثغرات الفارغة
بذاكرتك كما تدعي".
حدقت به دون، ملقى أمامها عن المكتب، حوافه المهترئة تبين أنه لم يكن
محفوظاً بعيداً عن الاستعمال، أمسكت يديها ببعضهما خوفاً من أن يدفعها فضولها أن
تمسه أو تقترب منه، وأفكارها راحت تتخبط في عقلها بخوف، وكأنها شعرت بغريزتها أن
هذا الدفتر لا يحمل بين صفحاته إلا كل الشّر الذي تحاول الإختباء منه من لحظة
ملامسة قدميها لأرض المطار.
"ما هذا؟"
"ألا تذكرينها... إنها مذكراتك العزيزة".
التقطتها بأصابع مرتجفة بعد تردد دام لحظات، وأخذت تقلب في صفحاتها البالية
بصعوبة وتقرأ مقتطفات بلهفة، راحت عيناها تتطاير على الكلمات المتتابعة، وما أبشع
ما قرأت حتى وصلت للحلقة المفقودة التي تبحث عنها، ولم تستطع "بريانكا"
إخبارها عنها فلم يكن زواجها عن حب أبداً بل كان بالخديعة والخسة، أمسكت بالدفتر تلوح به بعصبية وهي تصيح لاهثة:
"من الواضح أنك قرأته كلمة كلمة، بل أنك أبليته من كثرة تصفحه".
هز رأسه بدون أن يكلف نفسه عناء الرد فعادت تتساءل بإندهاش:
"لماذا لم تحرقه؟ لماذا احتفظت به كل هذه السنوات؟"
قلب شفتيه بإزدراء قائلة بلا مبالاة:
"لست أدري ربما رغبة مني بتعذيب نفسي كي لا أقع في ذات الخطأ مرة أخرى".
أغلقت الدفتر بهدوء على عكس العواصف الهائجة التي تكاد تطيح
برباطة جأشها. وسألته:
"ماذا تريد مني... الطلاق؟"
ندت عنه زفرة ساخرة مريرة.
"أنتِ تعرفين مثلي أن هذا مستحيل، في عائلتي الإنفصال لا يتم إلا
بالموت".
احتدت بنبرة أعلى أدهشته بعد أن كانت محافظة على هدوءها:
"كلا يا "ليام"، المستحيل أن يقيد شخصان ببعضهما كارهان
علاقتهما لا لسبب إلا لتقاليد بالية، وأنا لن أصمد طويلاً على هذا المنوال دون
حياة ودون سعادة ولا حب".
قهقه فجأة وهو يبتعد عن ظهر المقعد ليقترب من حافة المكتب وكأنه يريد
الوصول لها برأسه قائلاً بإستمتاع مريب بكلماته:
"لمَ الشكوى الآن والتذمر، وهي الحياة التي سعيتِ لها بنحت الصخر
بأظافرك، وبالخداع والحقارة وكل ما أمكنكِ لتحصلي عليها، وهي الآن ملكك، ولكن
بشروطي أنا".
هزت رأسها بدموع متجمدة ترفض الإنهمار:
"ليس في هذا الحاضر ولا المستقبل الذي أنشده".
سألها باستغراب:
"ما معنى هذا الحديث وإلى أين يفضي؟ هل تطلبين الإنفصال حقاً والطلاق؟
أم أنها مجرد لعبة جديدة تلعبينها ولكن بقناع مختلف هذه المرة".
ابتلعت غصة توقفت في حلقها بصعوبة وهي تهز رأسها وتقول بصوت غريب:
"أنا أعني كل كلمة قلتها، أنا لا أريد الحياة معك، هذه هي الحقيقة بكل
بساطة".
فكر للحظات في موقفها الغريب ثم وكأن فكرة أنارت له الطريق فاتسعت ابتسامته
الشيطانية وهو ينحني فوقها متمتماً:
"لعلكِ تعولين على رصيدك الضخم في البنك الذي جمعته خلسة من وراء ظهري، آه اسمحي لي أن أزف إليكِ هذا الخبر لقد تم تحويله كله
لحسابي بعد إعلان خبر وفاتك رسمياً".
سألته بدهشة مصدومة:
"أي رصيد أنا لا أذكر شيئاً عن أية أرصدة لي!!!".
"بالطبع لم تتوقعي أن أعرف عنه لأنكِ أصررتِ أن يكون الحساب سرياً،
كما أبلغني مدير البنك، ولكنهم اضطروا لإبلاغي به بعد إعلان الخبر".
اعتصرت أصابعها بين قبضتيها محاولة التحكم بإرتجاف جسدها المنتفض من هول ما
تسمع.
"رغم كل ما تقول، ما زلت مصرة يا "ليام" أن حياة الكُره التي أعيشها معك أصبحت لا تلائمني".
حدجها بنظرات غاضبة متسائلاً:
"أية لعبة تلعبينها الآن؟؟!!، ربما تكوني قد تعرفتِ على صيد ثري في
تلك الجزيرة، لذلك أصبحت حياتي المتواضعة لا ترقى لمقامك الرفيع".
ردت بإقتضاب:
"إن كان هذا التفكير يريحك فهو كذلك لن أمنحك الشعور بالرضا لمخالفتك".
"آه دعيني أخمن مرة أخرى، لو لم نصل لاتفاق يريضيك ستهدينني طفلاً ليس
من صلبي عقاباً لي على عدم تنفيذ طلباتك، كما كان يحلو لكِ دائماً تهديدي"
احتد صوته فجأة ليصبه أشبه بزئير أسد على وشك افتراس ضحيته مردفاً
"ولكن إليكِ المفاجأة، ليتكِ تفعلين حتى يكون ذبحك شرف يتطلع له كل
زوج يجري في عروقه دماء حارة".
عاودتها آلام الصداع المبرحة وهي تصيح بصوت متقطع من بين أسنانها:
"ما هذا الذي تقوله؟ أنا... أنا لا يمكن أن أفكر بهذه الطريقة القذرة،
أنت تتحدث عن مخلوق بشع كريه هي ليست أنا، من المستحيل أن أكون أنا".
رد بتسلط غير سامح لنفسه أن يتأثر بدموعها السخية وبمظاهر الآلام الواضحة
على ملامحها:
"أنتِ.. ومن غيركِ سممتِ حياتي، أنتِ هنا في بيتي بمساعيكِ الخاصة ولن
تتركيه إلا برغبتي أنا، ولو كان جحيماً فليكن جحيمك الذي سعيتِ له بكل وسيلة قذرة
ممكنة".
إنتبه بعد سيل كلماته الغاضبة على وضعها المتألم وقد ارتكنت برأسها على
المكتب تئن بصوت متقطع، فسألها بتكبر دون أن يسمح للشفقة
أن تتسلل إليه:
"ماذا بكِ؟"
تمتمت بأنفاس متقطعة من الألم:
"صداع مؤلم، أرجوك أعطني أي سُم ليُسكن هذا الألم الفظيع".
تردد لبعض الوقت ليتأكد أنها لا تُمثل دور جديد، ثم أدرك أنها حتى هي لا
يمكنها التمثيل بكل هذه الإجادة فجسدها ينتفض من شدة الآلام، عزم رأيه وغاب خلف
المكتب للحظات حيث دولاب زجاجي يحتفظ به بقناني مختلفة الألوان والأشكال من
الأدوية ثم عاد إليها بحبتين وضعهما أمامها على المكتب قائلاً بصوت بارد:
"تناولي هذه ستُسكن الألم، لا شك أنه عائد للفترة التي كنتِ فيها بلا
ذاكرة، كان عقلك في أجازة من الشّر، والآن يبدو أنه يحاول استعادة وضعه الأول بشتى
الطرق".
أمسكت الحبتان بأصابع مرتجفة وابتلعتهما
بلهفة، لاحظت يده الممدودة بكوب الماء فتقبلتها بإمتنان صامت، حاولت إيقاف إرتجافها
كي تتمكن من رفع كوب الماء لفمها فبالكاد ابتلعت شربة منه ووضعته شاكرة بصوت ضعيف:
"شكراً وأعتذر لأني لن أستطيع إكمال هذه المناقشة الشيقة معك ربما في
وقت آخر".
راقبها بمزيج من عدم التصديق
والدهشة تُغادر مكتبه بخطوات مترنحة وكاد أن يُقدم لها يد المساعدة ولكن "بريانكا"
كانت بانتظارها، تلقفتها قبل أن تتعثر وساندتها إلى غرفتها ولم تتركها إلا غائبة
عن الوعي في نوم عميق.
كان صباحاً هادئاً في تلك الغرفة الفسيحة الهادئة وساكنتها
النائمة بعد أن لملمت جيوش الظلام كل أسلحتها الفتاكة وهربت مع أول غزو لأشعة
الشمس الذهبية، ولكنها لم تبتسم لذهبيتها، ككل صباح من السنوات الثلاث الماضية،
عندما كان هناك من يسأل عنها ينتظرها، ويعشق ابتسامة صباحها، كان "جيري"
الصياد الفقير.
قفزت صورته لعقلها تتذكره بوجهه
الأسمر الضاحك على الدوام وقميصه البالي وبنطلونه الممزق الأرجل، وكانت دائماً
تسخر من منظره فيصيح مدافعاً متفاخراً:
"أنا صياد سمك، لا تليق بي البذلة الحريرية ورباط العنق المتأنق،"
تذكرت بألم عندما كانت تركب معه مركبه الصغير فيدخل بها لعرض البحر يقضيان اليوم
في صيد الأسماك والضحك، وكم كان رقيقاً عندما أشهدَ شمس الغروب على حُبه لها وقبل
أن تنهل من نبع السعادة المتفجر تحت قدميها بسخاء اصطدم رأسها بصخرة عندما كانت
تهرب من مناكدة عاشقها الولهان، ومنذ تلك اللحظة وكل شيء لم يعد كما كان فلم تستطع
أن تتجاهل أن لها حياة أخرى في مكان ما وزوج ربما ما زال الحُزن يُمزقه لفراقها،
وكان "جيري" المسكين هو الضحية.
كانت تمشط شعرها الأشقر الطويل عندما دخلت "بريانكا" برأس مطرق.
"صباح الخير سيدتي".
ردت بابتسامة هادئة
"صباح الخير "بريانكا"، ارفعي رأسك ليس خطأك أن نصائحك
الثمينة لم تُثمر مع رجل مصمم على كرهي".
أطرقت الخادمة رأسها بخجل قائلة بصوت خافت
"عفواً سيدتي السيد ينتظرك على مائدة
الإفطار".
رفعت حاجبيها بدهشة:
"هكذا إذن يبدو أنه استعذب الحديث معي خاصة عندما ينتهي اللقاء بانهياري، حسناً "بريانكا" بلغيه أنني
سأنزل فوراُ".
كان يُطالع الجريدة عندما دخلت بهدوء فأنزلها ليشملها بنظراته الجارحة وقلب
شفتيه ممتعضاً فلم تعجبه ملابسها البسيطة المكونة من بنطلون جينز وتي شيرت أبيض
خفيف، حاولت تجاهله وهي تجلس في مقعدها وتبدأ بتناول الطعام، دون أن تدع نظراته
تؤثر على شهيتها، ففاجأها بسؤاله:
"كيف حال صداعك اليوم؟"
ردت ساخرة:
"ظننتك أعطيتني سُماً فعلاً عندما عجزت عن رفع رأسي عن الوسادة حتى
الصباح".
رد ببرود:
"لم يأتٍ أوان هذا بعد،"
راقبها وهي تأكل بهدوء غير مكترثة
لنظراته وتعجب من نفسه فمنذ أسبوع واحد فقط كان ينوي رميها في الشارع ولكن الآن
هناك تراجع غريب في شعوره نحوها ولكن لا يمكن أن تتغير لهذه الدرجة، فما هي إلا
حية ولكن بجلد جديد.
رفعت رأسها فجأة لتُفاجأ بمراقبته، فسألته بحذر
"هل انتهيت من التحديق بي؟"
سألها متجاهلاً سؤالها:
"لماذا إصرارك على إرتداء هذه الملابس البسيطة ودولابك حافل بــ..."
قاطعته بازدراء وبصوت غريب حتى على أذنيها:
"بالملابس القديمة البالية التي انتهت صلاحيتها وموضتها منذ سنوات مضت".
انتفض بحماس وقد برقت عينيه بانتصار وكأنه ما ينتظره قد تحقق:
"الآن هذا هو الحديث، تساءلت كثيراً عن الوقت الذي سيستغرقك لتتواءمي
مع جلدك الجديد، ويخرج معدنك الصدئ على سطح ذلك القناع البراق الذي تحاولين تغيير
حقيقتك العفنة خلفه، ولم تُخيبي أملي وما هي الخطوة التالية؟ دعيني أخمن فقد أصبحت
أجيد هذه الأشياء، تريدين مالاً لتتسوقي أليس كذلك؟".
نظرت في وجهه الجذاب الفاتن وتساءلت بألم. "لماذا لا أكرهه كما يجب أن
يكون الكُره في هذه اللحظة". ردت بهدوء تحاول مجاراته:
"وماذا تقترح يا دكتور؟"
رد بصوت صارم دون أن تهتز نظراته المحدقة بها
"على كل حال لابد أن تشتري لنفسك ثوباً جديداً فكل العاملين بالمستشفى
دعوا أنفسهم لحفلة في الفيلا بمناسبة عودتك، لا تظني أنهم يقيمون هذه الحفلة حُباً
فيكِ فلا أحد أحبك هناك يوماً، ولكن الحفلة على شرفي أنا".
صرخت منفجرة بألم مكبوت:
"إن كنت ذلك الكلب المسعور لما لم يطلق أحد علي الرصاص لترتاحوا مني
ومن شروري؟".
نهضت من مكانها متجهة للشرفة تشهق بالبكاء، ولم تشعر به خلفها ظلت للحظات
تحدق بالمساحات الخضراء أمامها إلى أن شعرت بوجوده فتماسكت ثم التفتت إليه بحدة
غلبها ضعفها مرة أخرى عندما طغى عليها بطوله الفارع وهو يتقدم نحوها ويديه في جيبي
بنطاله، تكلم بإستعلاء وكأن شيئاً لم يحدث:
"لم تخبريني عن الموعد الذي يناسبك للحفلة؟"
هزت كتفيها قائلة بضعف وكأنه استنفذ كل طاقتها في مواجهته:
"في أي وقت تشاء لا أهتم".
"هل ستتولين أمر إعدادها بنفسك كالعادة؟"
"لا... لا أعتقد أنني أستطيع".
حدق بالفراغ أمامه وهو يعلن بابتسامة ناعمة لونت ملامحه المتجهمة:
"إذن ستقوم صديقة لي بهذه المهمة".
رفعت رأسها تسأله بسذاجة دون أن تدرك ما يحدث:
"صديقتك؟"
رد ببرود وتبجح وهو يحدجها من بين دخان سيجارته:
"نعم صديقتي الحميمة هل تمانعين؟".
ثم مد يده يناولها مفاتيح:
"هذه مفاتيح سيارتك أرجو ألا تصابي بخيبة أمل عند رؤيتها فقد بعت
سيارتك الفارهة واشتريت لكِ أخرى صغيرة، واتصلت بدار
الأزياء التي تتعاملين معها وهم بإنتظارك اليوم لتنتقي ثوباً ملائماً للحفل، انتقي
ما تشائين فحسابي مفتوح هناك".
تشدقت بكلمات ساخرة:
"لا أظن أن الحساب مفتوح لوالدتك؟!!".
حرك إصبعه في وجهها محذراً بغطرسة:
"لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ، وانتبهي من الآن فصاعداً كل قرش سأدفعه
لرفاهيتك من كدي سأجعلكِ تدفعين ثمنه أضعافاً مضاعفة.... بطريقتي الخاصة".
أرعبها تهديده ولم تعرف ما يقصده ولكنه كان جاداً كما لم يكن أبداً، تأملت
مفاتيح السيارة بيدها واعتصرتها حتى الإحساس بالألم الذي يبدو أنها أصبحت مدمنة
عليه فلا يكاد يمر يوماً دون أن تُقاسي بأي شكل من الأشكال وكل هذا بسبب امرأة لا
تكاد تذكُرها، امرأة على ما يبدو أنها ارتكبت كل الشرور في العالم وتركتها هي
لتتلقى العقاب عنها، خرجت من الفيلا متوجهة للجراچ حيث أشار
لها البواب عندما سألته عن مكان سيارتها أشار لها عليها في زاوية الجراج، وقفت
أمامها مدهوشة وبحركة طفولية تحسست سطحها الأملس البارد وراحت تُحدثها وكأنها تحدث
طفلتها:
"هل أنتِ سيارتي الجميلة التي تعطف زوجي بشرائها لي، يا جميلتي
الصغيرة لقد حدثني عنكِ وكأنكِ عقابه الجبار، ما رأيكِ أن نلهو سوياً اليوم فقد
وقعت في غرامك، وأتمنى أن تحبيني ولا تعامليني مثلهم، وسوف أعتني بكِ، هيا
بنا".
*****
لم تهتم بتغيير ثيابها وانطلقت بسيارتها الصغيرة عبر الطُرق المبتعدة عن
المدينة وراحت تتوغل في الممرات الصاعدة للجبال دون أن تشعر بالوقت أو المكان
فكانت دموعها أبلغ من أي حديث عن حالتها النفسية، ومقدار ما تشعر به من ألم في
رأسها، ضغطت على المكابح فجأة عندما مر راعي بأغنامه يقطع الطريق، فترجلت وأخذت
تراقبهم بصمت مستمتعة برؤية المشهد وقد أنساها لبعض الوقت سبب الدموع في عينيها،
اقترب منها الراعي فبادرته بابتسامة:
"مرحباً، تملك قطيع جميل".
رد الراعي بابتسامة فخورة ذكرتها بـ"جيري":
"شكراً لكِ يا آنسة وآسف إذ عطلت الطريق".
"لا بأس لستُ في عجلة، وعلى كل حال أنا مستمتعة بالمشاهدة".
"أنتِ كريمة جداً يا آنسة، بعض الناس يقفون ويصرخون، وأغنامي مدللة لا
تحب من يتعجلها، هل أنتِ بخير يا آنسة؟"
تمتمت بصوت خفيض محاولة السيطرة على الألم المتزايد في رأسها:
"صداع مؤلم يهاجمني بين الحين والآخر".
رد الراعي بفخر:
"عندي دواءك، هل تسمحين بأن تقبلي دعوتي".
لم تفهم قصده عندما أوقف قطيعه بجانب الطريق فلحقت به تراقبه بفضول، غاب
بين حيواناته وعاد بعد قليل يحمل آنية فخارية وقدمها لها بابتهاج:
"تفضلي اشربي هذا لبن الماعز الطازج، ليس أفضل منه لمعالجة
آلامك".
تراجعت محرجة:
"شكراً لك ولكني لا أستطيع".
هتف بحزن:
"سوف تحزن عنزتي إنّ لم تشربي لبنها، إنه هدية لكرمك وصبرك على قطيعي
المدلل".
جلست على صخرة ومدت يدها بتردد لتمسك الآنية الفخارية وراحت تشرب حتى أتت
على كل ما بالوعاء، وصاحت بدهشة:
"إنه لذيذ شكراً لك".
"من دواعي فخري وفخر عنزاتي يا آنسة".
حياها وانطلق في طريقه يجمع عنزاته الشاردة والسعادة والرضا ترسمان ملامحه
بدقة متناهية، وكأنه لا يطمع بأي شئ آخر في العالم.
عادت لسيارتها متخذة طريق العودة لسجنها الكبير تتنهد بيأس، لم يكن زوجها
قد عاد بعد عندما دخلت الفيلا استقبلها "جان" بتهذيبه المعتاد رغم أنه
أصبح أكثر اُلفة شأنه شأن جميع الخدم عندما لاحظوا اختلافها وتحسن معاملتها لهم.
"هل تأمرين بتحضير الطعام سيدتي؟"
"لا شهية لي يا "جان" لقد أشبعني لبن الماعز".
تساءل الخادم بصدمة:
"لبن ماعز... سيدتي؟؟!!"
ضحكت برقة قائلة وهي تتجاوزه صاعدة لغرفتها:
"إنها قصة طويلة يا "جان"، قل لـ"بريانكا" أن لا
تدّع أحد يزعجني فأنا متعبة وسأنام للأبد... ربما".
دخلت غرفتها ثم توجهت مباشرةً للحمام لتُحاول تهدئة آلام الصداع اللعينة
بدش بارد ثم اكتشفت بابتسامة باهتة أن لبن الماعز لم يسكن آلامها كما ظن الراعي
الطيب أنه سيفعل، حاولت النوم وأخيراً نجحت بفعل الإرهاق الشديد والتعب، وكي تضمن
أحلاماً سعيدة راحت تتذكر وجه "جيري" الطيب الحنون.
لم تفلح "بريانكا" في إيقاظها رغم محاولاتها المستمرة وعندما
فشلت عادت لسيدها الفارغ صبره.
"أين هي ألم تبلغيها؟"
ردت "بريانكا" بهزة من كتفيها:
"كلا سيدي.. حاولت إيقاظها ولكنها لم تصحو".
شخر غاضباً:
"وكيف لم تصحو هل ماتت؟"
"لا.. لا أعتقد سيدي... فهي تتنفس ولكن يبدو أن آلام الصداع تفتك
برأسها، فهي شاحبة وجبينها متعرق، لا شك أن مشوار اليوم أتعبها لتعود على هذه
الحالة".
تساءل بدهشة:
"خرجت... إلى أين؟ لقد تأكدت بنفسي أنها لم تذهب لدار الأزياء".
سألته بحذر:
"هل تريد الاطمئنان عليها بنفسك سيدي؟"
نظر لها بتردد ثم هز رأسه:
"لا... لا أعتقد قد تكون إحدى مكائدها لتصل لهدف قذر من أهدافها
الشريرة، مَن يصدق أن ملعونة مثلها تُصبح فجأة طاهرة بريئة، الإنسان قد يتغير شكله
الخارجي ولكن شخصيته، يُولد ويموت بها، لن أجاريها في لعبتها الجديدة وأقوم
بالخطوة التي تتوقعها مني كما كانت دائماً، لا تخبريها أني طلبتها، أو سألت
عنها".
هزت "بريانكا" كتفيها بإحباط وعادت تاركة الطبيب في حيرته.
شعرت أخيراً في الصباح ببعض التحسن وبصفاء الذهن بعد ليلة سيئة من الكوابيس،
تعجبت أن "بريانكا" لم تمر عليها اليوم فنزلت بعد أن اغتسلت لتزيل عنها
آخر آثار الليلة الماضية، توقفت على الدرج مذهولة من الحركة الدائبة في كل مكان
ويبدو أن الإعدادات للحفل قائمة على قدم وساق وجميع الخدم بلا استثناء يعملون بهمة
ونشاط تحت إمرة تلك الحسناء التي يعلو صوتها على ضجيجهم بالأوامر، ولم يحتاج الأمر
لذكاء كبير لتعرف من هذه الآمرة الناهية في بيتها، لا شك أنها من أسماها "ليام"
بــ "صديقته الحميمة" وأخيراً انتبهت الصديقة لوجودها فتقدمت نحوها
بغيرة لا تخفي على من حولها وسألتها بكلمات أكثر برودة من الصقيع وعيناها تتوهجان:
"إذن أنتِ هي، "العائدة من الموت"".
حاولت تجاهل ما تشعر به من غيرة هي الأخرى لا مبرر لوجودها، فلا حُب متبادل
بينها وبين الزوج محل النزاع.
"نعم أنا هي، وأنتِ تكونين...؟"
رد ذلك الصوت الذي جمدها في مكانها وهو يتقدم من الخلف ليضم الصديقة لصدره
من كتفيها قائلاً بحنان:
"هذه "فراني" صديقتي الحميمة".
وتنهد بزفرة ألم وهو يتابع:
"وكنا نخطط سوياً خططاً طويلة المدى لولا حدوث ظروف مفاجئة".
سألته بغباء:
"أتعني أنكما كنتما على وشك الزواج.... لولا عودتي".
رد بوقاحة:
"نعم "أشلي" إذا أردتِ الكلام بوجه مكشوف،
"فراني" هي المرأة الوحيدة التي اخترتها وأحببتها وأردت من كل قلبي أن
تكون شريكة حياتي".
تحملت طعنته النجلاء في كبريائها كأنثى وزوجة، وحاولت لملمة ما تبقى من
كرامتها التي بعثرها تحت قدمي صديقته فردت بصوت منكسر:
"آه... مع الأسف فقد عادت الزوجة لتُفسد على العشاق خططهم فمَا الحل برأيكم؟".
ردت "فراني" رامقة "ليام" بهيام:
"حبي لـ"جيري" يُحتم عليّ التخلي عن الشكليات وعلى استعداد
لأن أعيش معه في أي مكان وتحت أي ظروف، الحُب هو ما يجمعنا وهو الأهم، أليس كذلك
يا حبيبي؟"
رد ضاحكاً يقبلها بقوة أمام زوجته قاصداً مناكدتها:
"طبعاً حبيبتي، ما رأيكِ أن نضع كلماتك في حيز التنفيذ، غرفتي بحاجة
لبعض لمساتك الساحرة".
لكمته ضاحكة:
""ليام" إن كنت تنوي إقامة الحفل الليلة عليك أن تنساني
حبيبي ولو لبعض الوقت فكثيراً من الأعمال الغير منتهية ما زالت على عاتقي".
"سأتركك حبيبتي ولكن ليس لوقت طويل، فأنا أشتاق لكِ بجنون".
أهداها قبلة ساخنة استغرقت بعض الوقت، قبل أن يفلتها تعود لعملها متجاهلة
الزوجة التي تحترق كمداً، وقف "ليام" ينظر لزوجته بتحدي سافر لأن تعترض
بأي شكل ولكنها لم تُمكنه من هذا الشعور بالانتصار، فرفعت رأسها قائلة بصوت ساخر:
"لا أعتقد أنكم بحاجة لمساعدتي هنا فالآنسة... تقوم بالعمل بشكل جيد
داخل وخارج الغرف بنفس الكفاءة، سأكون في غرفتي أستعد للحفل".
ذهبت شامخة بأنفها بتعالي، وتركته واقفاً يراقبها بنظراته الساخطة وكأنه لا
يصدق ادعائها اللامبالاة.
أغلقت الباب بالمفتاح وهي تكتم شهقة كبيرة بيدها خافت أن تُفلت فيسمعها من
يبلغه بحالتها، وراحت تدور حول نفسها تائهة تبحث عن أي مكان يضمها بحنان فكل مكان
على الأرض أضيق من أن يسعها برحابة وهي لا تريد الآن إلا أضيق مكان تشعر فيه بأمان
الجدران تحوطها من كل جانب، أخذت تتخبط كالفاقدة لتوازنها حتى وجدت ما تبحث عنه
داخل دولاب الملابس الكبير أزاحت بعض العلب ودخلت تجلس القرفصاء في زاوية منه ثم
أغلقت الباب ليعم الظلام ويسكن كل شيء حتى الآلام ولم يتبقى إلا صوت نحيبها وأمطار
دموعها سيولاً، بعد لحظات أو ساعات أو حتى أيام لم تدري، نفذ مخزونها من الدموع بعد
أن تيبس حلقها ولم يبقى إلا الطنين المؤلم في رأسها، يزداد كلما طافت صورته
بخيالها، زوجها يحتضن صديقته بحُب وتملك، يعطيها بكرم وسخاء ما حرمها منه، يمنّ
عليها بصفاء ابتسامته التي بخل بها عليها منذ عودتها ويسعدها بضحكاته ورقته خاصاً
زوجته بالجفاء والقسوة وسوء المعاملة، تمنت لو لم تعد لها الذاكرة، أو لو تعود كما
كانت قبل أن تفقدها فعلى الأقل لن تشعر بالوحدة والظُلم، لن تجلس مقهورة في الظلام
تلعق جراحها كحيوان جريح يئنّ من آلامه الموجعة، بل كانت ستجد لنفسها ألف طريقة
لتثأر لنفسها بها كما اعتادت "أشلي" القديمة أن تفعل دائماً، أما تلك
الفتاة المهزومة فكل ما تستطيعه أن تقبع في ركن مظلم كشيء حقير تبكي وتنعي حظها
يمزقها الصراع بين الحاضر والماضي فلا تستطيع إلا أن تتأوه من الآلام حصيلة
المعركة، اشتدت عليها آلام الصداع لدرجة الصراخ والآنين، ففكرت أن علاجها الوحيد
في مكتب "ليام" أي أن عليها أن تمر بالحفل كي تصل إليها، حاولت الصمود
ولكن الألم المتزايد أجبرها على تغيير رأيها.
نهضت من مكانها وكل عظمة تئن من جلستها الغير مريحة، لم تفاجأ عندما وجدت
الليل قد أرخى أستاره السوداء على الكون وصوت موسيقى وضجيج في الأسفل، على ما يبدو
أن الحفل في أوجه، وعلى ما يبدو أنهم نسوا دعوة نجمة الحفل، لابد أنه يتألق بنجمة
أخرى تتوهج بين ذراعي الطبيب الوسيم، أغمضت عيناها بألم تفكر بطريقة تمكنها من
دخول غرفة مكتبه بدون المرور بالحفل، ولكن كان هذا هو المستحيل بعينه فلا طريق
إليه إلا عبر القاعة المكتظة بالضيوف.
نظرت في المرآة لتقابل ظلالاً كانت يوماً امرأة يلتف الرجال حولها كملكة
النحل، غضت بصرها عندما هيء إليها أنها ترى صورة "جيري" الطيب بوجهه
الحزين يتوسل إليها ألا تؤذي نفسها من أجله.
ابتعدت عن المرآة وفتحت الدولاب بتصميم وجذبت أول ثوب وقع بين يديها،
ارتدته على عجل قبل أن تخونها شجاعتها ويفتر عزمها؛ ارتدته دون أن تهتم إنّ كان
مناسباً أم لا، فقد كان وسيلة ليس أكثر لتصل لهدفها، أغلقت سحاب فستانها الأسود
الضيق على الجسم وكأنه جلد ثاني لها، ضايقها قصره فقد وصل لركبتيها طولاً وفتحة الصدر مغلقة تماماً بالمقارنة بفتحة الظهر الكبيرة،
حاولت بعدة ضربات من الفرشاة وأحمر الشفاه أن تزيل آثار البكاء فكانت المهمة شبه
مستحيلة بجانب ارتعاش أصابعها، رفعت شعرها بعشوائية وعقدته بدبوس ماسي على رأسها
تاركة بعض الخصلات تتهادى بعفوية على عُنقها العاجي، نظرت باستحسان للنتيجة فلولا
ما حباها الله به من طبيعة جميلة’ لما استطاعت الظهور بهذه النتيجة مع كل ما تشعر
به من بؤس، كانت اللمسة الأخيرة الحذاء المناسب للفستان بكعبه العالي الذي تمنت لو
تسحق تحته رأس الأفعى.
وقفت تراقب كل هذا الحشد على رأس الدرج كان الجميع منغمس في الضحك والرقص
وبعضهم يراقب بانتقاد المجموعة الأولى وها هو زوجها الطبيب الوسيم يقف بثقة كبيرة
وقد تعلقت بذراعه كالعلقة وكأن لها كل الحق بالتواجد جواره، أما هي الزوجة
الحقيقية.....
لم يشعر أحد بوجودها فراحت تتمشى بين الضيوف كمن يرتدي طاقية الإخفاء وكانت
قد بدأت تشعر أنها ستنجح للوصول لهدفها دون أن يلاحظ أحد وجودها عندما التفتت
نحوها إحدى الفتيات بدهشة:
""أشلي" أهذه أنتِ يا إلهي كدت لا أتعرف عليكِ".
تلعثمت وهي تحدق بالفتاة تعتصر ذاكرتها إلى أن قفز اسمها فجأة على طرف
لسانها:
""ماري"... أنتِ "ماري" أليس كذلك؟"
ردت الفتاة ضاحكة:
"بالطبع أنا هي، أممممم ولا يمكن أن تنسيني أنا بالذات؟؟!!"
لم تعرف مغزى كلماتها ولم يسعفها الوقت لتفعل فقد التف حولها الكثير ممن
تعرفوا عليها من زميلاتها القُدامى وقد اعتصروها أسئلة، وكم بدت تائهة وغير واثقة
من نفسها وهي تحاول الرد عليهم جميعاً حتى اخترق "ليام" الجموع بوجه
محتقن غضباً ثم سألها بتهذيب مفتعل وابتسامة لم تبتعد عن حجم شفتيه:
"حبيبتي لقد افتقدنا وجودك، هل أنتِ أفضل حالاً الآن لقد أخبرتني
الخادمة أنكِ تعانين من صداع مؤلم، وأنكِ لن تستطيعي مشاركتنا الاحتفال".
ردت باقتضاب:
"أنا بخير الآن، لم أود أن يفوتني هذا الاحتفال الذي أقيم لي بصفة
خاصة، على الأقل لأشكركم".
احتواها بذراعيه بطريقة متملكة ثم دفعها دفعاً بعيداً عن الملتفين حولها
موزعاً ابتسامات باردة حتى تخلص منهم جميعاً ووجدت نفسها تواجه شرارات غاضبة من
عينيه وأصابعه تقسو على مرفقها وهو يدفعها أمامه دفعاً.
فصرخت متألمة محاولة نزعها:
"ارفع يدك عني لقد آلمتني".
صاح بصوت هامس ولكن محتقن بالغضب:
"عليكِ اللعنة أين كنتِ؟"
ردت بسخرية:
"كما قلت لضيوفك أعاني من صداع مؤلم".
صاح بدون تصديق:
"ومع مَن كنتِ تعالجيه؟"
سألته بتردد غير واثقة من هدفه:
"ماذا تقصد بمع مَن؟ كنت في غرفتي لم أتحرك منها طول اليوم".
دمدم بصوت مكبوت خوفاً أن يسمعهم أحد:
"أنتِ تختبرين صبري يا "أشلي" وأنصحكِ ألا تفعلين، "بريانكا"
لم تجدكِ هناك عندما أرسلتها لتستدعيكِ".
نفضت ذراعيها بعيداً عنه صائحة بحدة:
""بريانكا" لم تستطع دخول غرفتي لأنها كانت موصدة من
الداخل".
سألها مستفسراً بدهشة:
"ولماذا لم تردي على طرقاتها هل كنتِ ميتة؟"
رفعت حاجبيها وعقدت ذراعيها على صدرها قائلة بزفرة ارتياح مزيفة:
"وهل يسعدك هذا؟ من فضلك أعفني من الإجابة التي أعرفها جيداً، فعلى
الأقل الموت سيخلصك من زوجة تكرهها وتحتقرها لتتزوج ممّن تُحب ربما قبل أن تتأكد
من دفني".
أجابها متشدقاً بابتسامة مقرباً وجهه منها حتى لفحتها أنفاسه الحارقة:
"كم يسعدني تقديرك الجيد لوضعك بالنسبة لي، ولكن لفظ الكُره والاحتقار
هما نقطة في بحر لما أشعر به نحوكِ فلا تزيدي الطين وحلاً بوقاحتك".
استدار برأسه دون أن يبتعد بجسده عنها عندما اقتحم عليهما خلوتهما هذا
الشاب الفضولي.
"هل ستستأثر بزوجتك الجميلة فترة أطول يا دكتور، جميعنا متيقنون أنك
لم تشبع من وجودها بعد، ولكنها دائماً معك ونحن هنا لليلة واحدة وقد نسمح لك برقصة
واحدة لافتتاح حلبة الرقص وبعدها لا تسأل عنها؟"
همس في أذنها قائلاً بابتسامة متكلفة:
"لو يعدني بهذا، أعد بدوري أني لن أسأل أبداً؟ بل ربما أرسل له بطاقة
شكر".
لم تستطيع الرفض فهو لم يستأذنها، فسحبها خلفه كالبقرة العنيدة ورغماً عنها
لف ذراعيه حولها ليراقصها على إيقاع الموسيقى التي لم تسمعها فقد كان لقلبها
نغماته الخاصة التي أصمت أذنيها عن ما حولها عندما اقترب منها زوجها بجسده للحد
الذي لم يفصل بينهما إلا ملابسهما وقد احتكت ذقنه بجبهتها فولد شرارة لم يشعر بها
أحد سواها وارتكبت أول خطأ عندما رفعت عيناها لشفتيه فارتبكت لتقترف الخطأ التالي
على التوالي عندما أخطأت في إحدى الخطوات، وكادت تتعثر لولا أن أحكم ذراعه حول
خصرها، أحست بزفرته ونفاذ صبره وكأنه بالكاد يحتمل وجودها وهو يراقصها كالآلة
وعيناه قد استقرتا بعيداً في آخر القاعة حيث "فراني" الجميلة تراقبهما
بِحِقد وغلّ، لاحظت مسار نظراته وشيء ما تحرك داخلها يشبه بركان من الغضب فالأنثى
داخلها تمردت وطالبت بما هو ملكها وكم أخافها هذا الشعور، ولكن أنقذها منه في
التوقيت المناسب ذلك الصوت الملائكي مرة أخرى.
"هل تسمح لي يا دكتور لقد تجاوزت وقتك".
آلمها مجدداً زفرة الارتياح التي سمعتها بوضوح وهو يتخلص منها ويُسرع
ليراضي صديقته الغاضبة، وقد احتواها بين ذراعيه يكاد يلتهمها بعينيه، انتبهت
أخيراً لرفيقها يهزها بخفة:
"سيدة "ماجواير"، أحدثك منذ وقت طويل".
ردت بشرود:
"آسفة لم أنتبه".
"لن أسألكِ بالطبع عمن شتت انتباهك فالإجابة واضحة".
أشاحت بوجهها لتطلع في وجه مراقصها الوسيم.
"لا تتحاذق عليّ يا دكتور... عفواً لم أعرف اسمك ما زلت أعاني من ضعف
في الذاكرة".
"لا بأس فلن تتذكريني على أي حال فعندما تزوجتِ الدكتور كنت في سنتي
الأولى للإمتياز".
"آه لهذا السبب".
"أتعرفين أن الدكتور "ماجواير" بحاجة لوضع نظارات طبية فهو
لا يستطيع التفريق بين البريق الزائف الذي يتطلع إليه والجوهرة التي يملكها
فعلاً".
ردت بابتسامة متكلفة:
"شكراً دكتور لا تدري كم كنت بحاجة لكلماتك ولو كانت من باب
المجاملة".
رد ضاحكاً:
"إذن اهربي معي وسأغمركِ في بحر عاصف من هذه المجاملات فأنا أملك منها
مجلدات، ولكنها الحقيقة وليست مجاملة أبداً".
أخيراً عرفت الابتسامة لشفتيها طريق، ولكن يبدو أن القدر حرم عليها حتى
الابتسام فهاجمتها آلام الصداع مرة أخرى، اعتذرت لمحدثها ولم تنتظر لتجيب على نظرة
القلق في عينيه وهي تأخذ طريقها لغرفة المكتب، حيث تسللت بهدوء وكادت تمسك مقبض
الباب ولكن أوقفها ذلك النداء المهلل باسمها.
"مرحباً "أشلي" الجميلة ما أجمل عودتك مرة أخرى لعالم
الأحياء لنستعيد الأيام الخوالي...."
حدقت في وجه محدثها الرجولي الجذاب تحاول تذكره فمن المستحيل أن تنسى أي
امرأة رجلاً مثله يفيض حيوية وجاذبية مطلقة يكاد يساوي "ليام" في وسامته
لولا أن زوجها تميزه الحدة في نظراته والقسوة في ملامحه خاصةً في تعاملاته معها،
تمتمت بصوت مبحوح غير واثق:
"دكتور "ستيفانوس"!!!"
صاح بثقة زائدة بالنفس:
"أعلم أنكِ لم تنسيني عزيزتي في خضم مشاغلك الكثيرة، وانتظرت مكالمتك
بعد عودتك ولكن يبدو أن الوغد "ماجواير" عاد ليضيق عليكِ الخناق مرة
أخرى، فلم يتاح لكِ الوقت لتتواصلي معي، أليس هذا ما حدث؟"
فغرت فمها مصدومة وفقدت النطُق تماماً.
