من أنت..ومن أنا؟؟
من بعيد كان
مجرد بناء أبيض كبير ساكن هادئ وكأن لا حياة فيه ولكن الحقيقة أنه بداخله كل أنواع
الحياة والموت أيضاً، كانت الحركة في أروقته وممراته البيضاء الشاحبة، دائبة دائمة
تتوقف ولا حتى مع صرخات الموت.
مجرد حركات خرساء صماء كفلتها أحذيتهم المطاطية
كي لا تسبب الإزعاج للمرضى المقيمين في هذا المشفى الكبير، وربما كي لا تقلق مضجع
الأموات أيضًا.
خطواته
المحسوبة كانت تنحت بلاط الممرات الشاحبة، ولكنه توقف فجأة يستمع لاسمه يتردد عبر
مكبرات الصوت المنتشرة في كل أنحاء المكان، ويطلب منه الرد على اتصال مباشر من
الهاتف العمومي المنتشر في أروقة المشفى.
التقط أقرب
سماعة هاتف إليه وهو يرد بصوت أجش زائد الثقة بالنفس:
ـ دكتور "ماجواير"
يتحدث.
ـ نعم دكتور
معك قسم الشرطة.
تساءل الطبيب
الشاب بدهشة:
ـ الشرطة!!! هل
من خطب ما؟
ـ لا تتعجل
دكتور "ماجواير" ستعرف كل شيء فور أن تمر لزيارتنا اليوم.
رد الطبيب بصبر
نافذ وملامح وجهه تتشكل لترسم العبوس المسيطر عليها:
ـ في الحقيقة
يمكنك إبلاغي بما تريد على الهاتف، فكما تعلم وقتي ليس ملكي وأنا في خضم اجراء عدة
عمليات جراحية و...
قاطعه صوت
الشرطي الصارم:
ـ آسف دكتور
ولكن الأمر جد خطير، ولكني أسمح لنفسي أن أطمئنك أن مفاجأة سارة بانتظارك.
وضع الطبيب
سماعة الهاتف مكانها وقد انشغل فِكره بالمفاجأة التي يمكن أن يجدها في قسم الشرطة.
أطرق رأسه مستنداً على الجدار فظهر شعره الكثيف
الأسود لوجهه الأسمر الجذاب وقد زادت عيناه البراقتان من حدة ملامحه لينتهي بفمه
المرسوم باعتداد فيهيئ لمن يتأمله دافئ حنون، معطاء في الحب، ومن يجد الشجاعة ليزداد
اقترابًا منه يُصدم عندما يصطدم بقسوته وفجاجته الساخرة معظم الوقت، وفي بعض
الأحيان يقذف حمماً بركانية بدل الكلمات في أوقات غضبه.
رفع رأسه بحدة
علي صوت ناعم أيقظه من فكره الشارد:
ـ دكتور "ماجواير"
هل أنت بخير؟
رد بقسوة
شاملاً الممرضة المتطفلة بنظرات محتقرة:
ـ لا شأن لكِ
بي، وفري اهمامك لمرضاك وعملكِ.
وقفت مغتاظة
تراقبه يقطع الممر الطويل بخطوات رشيقة سريعة ترغي وتزبد بحدة:
ـ لم أدنس هالة
هذا المغرور المتعالي ليعاملني هذه المعاملة وكأنني قمامته.
ردت صديقتها
ساخرة:
ـ إنه ما
تستحقين، هذا الوغد الجميل مشهور بأنه عدو الممرضات لِمّ حشرتِ نفسك بالتطفل على
شئونه الخاصة؟
صاحت بغيظ:
ـ حتى أعرف سره
لن أتركه أبداً، ولو كان هذا آخر عمل لي في الحياة.
قهقهت صديقتها
بسخرية:
ـ أيتها
المسكينة لا أحد يعرف سّره، ولكننا جميعاً نعلم أنه لا يكره في هذا العالم قدر
كرهه للممرضات، ابذلي ما بوسعكِ فلن تحصلي منه على أكثر مما أعطاكِ منذ قليل.
بدل ملابسه
وأسرع خطاه خارج المستشفى دون أن يرد على إيماءات الممرضات الوقحة، فقد كان حقًا
لا يكن لهن إلا كل احتقار وازدراء، رغم كل هذه المشاعر تجاه ملائكة الرحمة، ولكنهن
لم ولن يشغلن أي حيز من أفكاره، ليس الآن.
إنها تلك
المكالمة الغريبة من قسم الشرطة والتي أخرجته عن هدوءه المعتاد حثته على الإسراع ليعرف
أي مفاجأة بانتظاره، قد لا يتعدى الأمر مخالفة مرورية، ولكن أي مخالفة ممكن أن
تكون مفاجأة سارة لصاحبها.
تعب من التفكير
فأغلق عقله وقاد سيارته الفيراري الحمراء بأقصى سرعة مسموح بها إلي أن وصل لقسم
الشرطة.
استقبله الضابط
بترحاب زاد من قلقه ملامحه التي يبدو عليها وكأنه لا يكاد يصبر حتى يخبره بخبر
صادم:
ـ تفضل دكتور "ماجواير"،
نعتذر على إزعاجك ولكن لا شك أنك ستوافقنا أن الموضوع يستحق اهتمامك وبالتالي بعض
وقتك.
تساءل بلهفة
وقد بلغ فضوله النهاية:
ـ نعم... نعم
ما الأمر.
رد الضابط بحذر:
ـ أرجو أن
تتماسك يا دكتور فالخبر جدّ خطير، نقر الطبيب على المكتب بأصابعه دليل على فروغ
صبره، ففتح الضابط ملفاً أمامه ثم أخرج منه صورة قدمها له:
ـ هل تعرف هذه
المرأة؟
لا شك أن
الشرطي مر عليه الكثير من الحوادث المشابهة، ولكنه لم يكن مستعدًا على الإطلاق لرد
فعل الدكتور الشهير مطلقًا وهو يتطلع للصورة.
تراجع الطبيب
بنفور وهو يطالع صورة امرأة غاية في الجمال بشعرها النحاسي الأحمر وأناقتها
المكتملة كما كانت لآخر لحظة في حياتها، أشاح بوجهه عنها برّدة فعل زادت من دهشة
المحقق، وكأنها ستقفز من الصورة لتمسك
بخناقه، بعد نظرة أخرى حاول أن يسيطر فيها على بوابة الجحيم التي استعرت في جسده وهو يتمتم بحدة:
ـ نعم.. نعم
بالطبع هذه زوجتي الراحلة، وكانت الحادثة منذ ثلاث سنوات، لا أفهم لماذا تُفتح
القضية مرة أخرى بعد كل هذه السنوات، ثبت للنيابة العامة أن الحادث قضاءًا وقدر؟
وضع المحقق
الصورة جانباً قائلاً:
ـ صبراً يا
دكتور نحن لم نصل للخبر المثير بعد.
ثم أخرج صورة
أخرى من ذات الملف وعرضها عليه.
ـ وهذه هل
تعرفها.
تطلع إليها
بعدم اهتمام، كانت لفتاة نحيفة غير مهندمة شعرها مسترسل بدون أي قيود كاد أن يرد
الصورة لمحدثه بعلامات الرفض وعدم المعرفة، ولكنه توقف فجأة يعيد النظر إليها بحذر
وفجأة اتسعت حدقتاه بقلق وهو يصيح:
ـ إنها هي "أشلي"،
ولكن على ما يبدو، صورة قديمة، أو أكيد امرأة تشبهها.
استعادها
الضابط منه قائلاً بابتسامة كبيرة وكأنه يزف إليه بشرى سارة:
ـ بل هي جديدة
تماماً عمرها ثلاثة أسابيع فقط!
شحب وجه الطبيب
وهز رأسه غير مصدق ما يسمع:
ـ ولكن هذا
مستحيل، زوجتي ماتت منذ ثلاث سنوات غارقة في الكاريبي مع أصدقائها، عندما كانوا في
رحلة هناك، لقد أقمت لها جنازة و...
أجابه المحقق
بتفهم:
ـ نعم يا سيدي
نذكر جميعاً هذه الحادثة المؤسفة، ولكننا لم نعثر على جثتها وظننا وقتها أن البحر
ابتلعها، ولكن منذ يومين أرسلت لنا سلطات هذه الجزيرة التي تظهر في خلفية الفتاة
الصورة وتشرح لنا وضعها الشائك هناك، وقالوا أنها تدعي أن اسمها "أشلي ماجواير"،
وبتعرفك على الصورة أصبح لا مجال للشك أنها فعلاً زوجتك الراحلة وقد عادت للحياة.
حدق فيه المحقق
بريبة فلم يبدو على الزوج السعادة المتوقعة لعودة زوجته بل بدا مذهولاً حائراً
وربما نادماً لتعرفه على الصورة، سأله أخيراً بصوت منهك:
ـ وأين كانت كل
هذه السنوات؟
تنحنح المحقق
ليقدم تفسيره:
ـ يقولون أنها
كانت فاقدة الذاكرة ومنذ أسبوعان بالتحديد حصل لها حادث، فتذكرت فجأة من هي ومن أي
بلد، سأبرق لهم الآن لأخبرهم أنك تعرفت عليها، وأنها هي فعلاً السيدة "ماجواير"
أليس كذلك يا دكتور؟؟؟!!!
همّ بأن ينطق
بالكلمات السحرية التي ستخلصه من هذا الكابوس مرة أخرى وللأبد، سيخبره أنه أخطأ
وأنها ليست زوجته لتبقي في مكانها ولا تعود لتمارس هوايتها بتعذيبه مرة أخرى
بحقدها وشرّها المطلق على كل من حولها.
ـ دكتور "ماجواير".
نهض واقفاً
قائلاً باقتضاب بصوت شارد قبل أن ينصرف:
ـ افعل ما ترّاه
مناسباً.
صاح منادياً
ليسمعه قبل أن يخرج:
ـ سأتصل بك يا
دكتور لأخبرك بموعد وصولها لتكون في شرف استقبالها.
دخل زميله
متسائلاً:
ـ ماذا بك تصرخ
بصوت مرتفع من هذا الذي كاد يوقعني وهو يهرول خارجاً من عندك مسرعاً.
رد المحقق
بتكشيرة مفكراً:
ـ لنّ تحذر
أبداً، هذا هو الطبيب الذي زففت إليه خبر عودة زوجته من الموت.
صاح زميله
بدهشة:
ـ ولكنه لم
يبدو عليه السعادة للخبر.
ـ نعم وهذا ما
يزعجني وكأنه كان يتمنى أن تظل في قبرها، ولا يسمع عنها خبراً.
تأمل صورتها
وقد طير الهواء شعرها الذي لم يفقد بريقه وقد لوحته شمس الجزيرة فأضفى عليه
لمعاناً جذاباً، ورغم ابتسامتها التي تأسّر قلوب الرجال كانت نظراتها ضائعة تائهة.
ـ لا بد أنه
مجنون فمثل هذا الملاك يستحق الحياة لا الموت.
..............................
جلس في سيارته
غير مصدق بعد المفاجأة التي ألقاها الضابط في وجهه وكأنه يهديه هدية، راح يهمس
بذهول.
""أشلي"
على قيد الحياة كيف تعقل هذه اللعنة أي شيطانة هي التي يخاف الموت من الاقتراب
منها، يعلم الله أنها لا تستحق أقل من الموت لكل شرورها التي تفرزها مع ابتسامتها
الشيطانية"
وعادت به
الذاكرة أربع سنوات، للمرة الأولى التي وقع نظره عليها عندما عملت ممرضة في نفس
القسم الذي يعمل به ولكن جمالها لم يلفت نظره فقد أدرك من أول نظرة، أنها خاوية من
الداخل فمكان قلبها قبعت قطعة من الصخر، وعيناها كانتا تومضان بشرّ لا حدود له،
وغالباً ما كان يستمع لنميمة الممرضات عنها فهي لم تكن محبوبة بينهم لكونها متعالية
وقحة وتفعل المستحيل لتكون قرب الأطباء الشباب، وتترك أمر كبار السن لبقية
الممرضات المتطلعات، وربما نجحت في جذب انتباه معظم زملاءه ولكنه ظل صامداً أمام
نظراتها الواعدة، ولم يحاول تشجيعها ولو حتى بنظرة ساخرة، حتى ذلك اليوم الحافل
بالعمليات الجراحية، كان في غاية الإنهاك والتعب فقد ظل واقفاً لمدة عشرة ساعات
متواصلة في عملية واحدة استنفذت كل طاقاته، دخل غرفته الخاصة بالمستشفى منهكاً
يكاد لا يرى أمامه من فرط الإنهاك عندما لفت نظره ذلك الجسد الممدد على فراشه وقد
التف بملاءته وتبعثرت ملابسها الداخلية والخارجية على الأرض، حدق بها باحتقار
مخفياً بمهارة إعجابه بجمالها الباهر.
ـ هل تبحثين عن
شئ في فراشي أيتها الممرضة؟
ردّت بصوت ناعس
خدر حواسه:
ـ لما لا توصد
الباب جيداً لأخبرك في أذنك عما أبحث عنه دكتور "ماجواير".
وأي رجل لا
ينهار أمام كل إغراء حواء فتبع نصيحتها واستلقى في أحضانها المغرية والتي يتمناها
كل رجل في المستشفى طبيباً أو مريضاً ولكنه هو من فاز بها، عندما استيقظ كانت
ترتدي ملابسها وهي ترمقه بنظراتها المنتصرة:
ـ شكراً دكتور
على وقتك الثمين، وأحب طمأنتك أنني وجدت ما كنت أبحث عنه.
مد يده وتناول
محفظته ثم أخرج منها بضع وريقات مالية ألقاها لها بازدراء بصوت كسول:
ـ إحشي فمك
بهذا المال ولا تدعيني أرى وجهكِ هنا مرة أخرى.
خطت على المال
بحذائها لتنحني فوق الطبيب المستلقي، فعاد عطرها لينفذ لمسامه ويخدره مرة أخرى وهي
تهمس له بغنج ودلال:
ـ وهل رفقتك
تقدر بالمال يا "ليام" لقد
أبخستني قدري.
انتفض من مكانه
محذراً:
ـ إسمعي أنتِ
لم أسمح لكِ بنزع الألقاب ولا يصور لكِ عقلك أنكِ قد تصلين إلى أي مكان من هنا.
لم يكترث وقتها
بنظراتها الشيطانية التي التمعت بمكر وابتسامتها الصفراء وهي تومئ له برأسها:
ـ بالطبع يا
دكتور.. بالطبع أنا مجرد ممرضة قضيت معها وقتاً سعيداً، ولا شيء أكثر، سعدت
بالتعرف عليك يا.... دكتور عن قرب.
وقبل أن تغادر
غمزت له بعينها بطريقة أشعلت النار في جسده فنهض ليغسل آثارها عن جسده ووعد نفسه
ألا يترك نفسه تحت رحمة سحرها الشيطاني مرة أخرى مهما بلغت درجة إغراءها.
ومنذ تلك
اللحظة نسيها تماماً.
انتبه من شريط ذكرياته على تبدل إشارة المرور
وأبواق السيارات خلفه تزعق بقوة فانطلق بسيارته الفيراري الفارهة بأقصى سرعة ينفض
عنه ذكريات الماضي الأليم.
فتحت بوابة
الفيلا اليكترونياً عند اقترابه منها فتقدمت السيارة من خلال باحة كبيرة حتى بوابة
الفيلا الضخمة المؤلفة من دورين، دخل ساهماً فلم يرّد على تحيات البواب ولا الخادم
الذي استقبله بوجهه البشوش وانتظر ليناوله معطفه كالعادة ولكنه استمر في التقدم
وهمّ بصعود الدرج وسط دهشة الجميع عندما استوقفه ذلك الصوت الحنون بعتاب:
ـ "ليام"،
ولا حتى تحية المساء لأمك المشتاقة لك طوال النهار.
أطرق برأسه
خجلاً متوجهاً للسيدة الأنيقة التي ما زالت محافظة على مظهرها الفتي رغم سنوات
عمرها الستين وقبل يدها باحترام:
ـ أعتذر يا أمي
الحبيبة، ذهني شارد، مساء الخير يا حبيبتي.
سألته بصوت قلق:
ـ ماذا بك يا
عزيزي لم أرك بهذه الحالة منذ وقت طويل، ربما منذ ثلاث سنوات بالتحديد.
أردفت هامسة
متوجسة شراً:
ـ قلبي يخبرني
أن شرّاً يقترب منك يا بني.
غمغم قبل أن
يودعها متمنياً لها ليلة سعيدة:
ـ نعم هو شرّ
يا أمي.
أغلق الباب
خلفه متهالكاً على فراشه وقد اعتصرته الذكريات مرة أخرى لذلك اليوم الذي عاد فيه
من عمله ليفاجأ بالحية الرقطاء مع أمه وقد جلست منكسرة وآثار الدموع في عينيها
فثار غضبه متهجماً عليها:
ـ أيتها
الملعونة ألم أحذركِ من الاقتراب مني، ما الذي تفعلينه هنا؟
أوقفته أمه
بكلمة واحدة وهي تنهض واقفة بملامح صارمة:
ـ "ليام"
تعالى معي.
مشى خلفها وقد
اشتم رائحة لعبة قذرة عندما التمعت عينا الشيطانة بمكر.
أغلقت أمه
الباب فسألها بسرعة:
ـ ماذا تفعل
هذه الشيطانة هنا أخبريني يا أمي؟
تجاهلت سؤاله
وهي تسأله بحدة:
ـ قل لي يا
ولدي وأصدّقني، هل كانت لك علاقة بهذه الفتاة؟
صاح بحدة
معترضاً:
ـ أمي.
احتدت غاضبة:
ـ الإجابة إما
بنعم أو لا.
غمغم باحباط:
ـ نعم.
زفرت بغضب
وصاحت باستياء:
ـ منذ شهران.
ردد بدهشة:
ـ وماذا قالت
لكِ الحية أيضاً.
ـ هي حامل يا "ليام".
صرخ مصعوقاً:
ـ ماذا، حامل
وصدقتها، وصدقتِ أني الأب.
ـ قد تكون
ملعونة ماكرة ولكني لا أظنها غبية فهي تعرف جيداً أنك كطبيب قادر على فضح أي كذبة
قد تختلقها.
حاول تهدئة
أعصابه وسألها:
ـ أمي ما الذي
تحاولي إخباري به، لا لا يمكن أن يكون ما خطر ببالي أمي أنتِ لا تعرفين ما يقال عن
هذه الملعونة في المستشفى فكيف تكون زوجة لي.
ـ هل أنت متأكد
أنها على علاقة بشخص بعينه.
ـ لا، مجرد ما
يشاع عن أنانيتها وطمعها وشرها.
أمسكت بيده
تخاطبه بعاطفة الأم:
ـ إنها تحمل
طفلك يا "ليام" حفيدي ولن أسمح أبداً أن يموت هذا الطفل أو أن يترّبى على
يد رجل غيرك أرجوك يا بني لا تدع هذا يحدث.
كان توسل أمه
هو أمر دونه الموت، وبعد هذه المحادثة بأيام تم أكثر شيئاً كرهه في حياته، وأكثر
قرار ندم عليه عندما قرن اسمه باسم تلك الشيطانة، وكي يمنع أي احتكاك بها أطلق
يدها للتصرف بكل شيء، مكتفياً بالمراقبة من بعيد لتعيش حياة البذخ والترف لأبعد
الحدود ومن فرط حقدها أخبرته في إحدى شجاراتهم أن قصة حملها كذبة كي تصل إليه
وتتزوجه وهي متيقنة أنه لن يهين نفسه بإجراء تحاليل كما أن تقاليد عائلته العريقة
تمنع الطلاق، أخبرته بكل هذا بتبجح ووقاحة حتى تمنى الموت على أن يرّاها، ولم
تحتمل أمه تصرفات زوجة ابنها وتطاولها وخشيت أن يقتلها "ليام" لو لاحظ
معاملتها الفظة لها، فسافرت لتعيش مع ابنتها مبتعدة عن جحيم "أشلي".
أفاق من لعنة
الذكريات على طرقات متوالية على الباب فنهض متكاسلاً وفتح الباب الذي أوصده قبل أن
ينام كي لا يقلقه أحد وجد الخادم يقف بيده الهاتف:
ـ مكالمة لك
سيدي، لقد أحضرت لك الهاتف يبدو أن هاتف غرفتك معطل.
أخذ منه الهاتف
وطرده ببرود فوقف الخادم مسمراً:
ـ عفواً سيدي
ولكن السيدة ترجو منك أن توافيها لتشرب معها الشاي بعد أن تنهي مكالمتك.
هز رأسه:
ـ أخبرها أني
سألحق بها فور أن أغتسل.
وضع السماعة على
أذنه قائلاً بصوت خشن:
ـ "ماجواير".
ـ أه دكتور
"ماجواير" معك قسم الشرطة.
ـ نعم... نعم
هل من جديد؟
ـ نعم دكتور
لقد بلغنا منذ قليل أن السيدة "ماجواير" ستصل غداً على متن طائرة الساعة
الثانية عشر ظهراً.
غمغم "ليام"
باقتضاب قبل أن يغلق السماعة بغضب:
ـ شكراً لك.
شعر ببركان
يكاد يتفجر منه فصرخ بقوة وقذف الهاتف ليصطدم بالحائط محطماً، دخل الحمام ليغتسل
لعله ينسى ولو لبعض الوقت مع رذاذ الماء الفاتر حاول أين يبدو طبيعياً وهو يحي أمه
ويقبل يدها.
ـ مساء الخير
يا أمي العزيزة أما زلتِ غاضبة مني؟
ـ تناول عشائك
أولاً ثم نتحدث يا بني.
ولاحظت بقلق
متزايد أنه لم يتناول سوى لقيمات صغيرة ولم تلح عليه وانتظرت حتى جلسا في الشرفة
يحتسيان الشاي كعادتهما في نفس التوقيت كل ليلة وقبل أن تسأله بادرها.
ـ سأخبركِ بكل
شيء، أمي الحبيبة أرى من الأفضل أن ترحلي في الوقت الحاضر أعلم أنكِ تشتاقين لأختي
وبقائكِ معي كان رغماً عنكِ كي لا تتركيني وحدي.
ـ "ليام"
ما هذا الحديث السخيف هل أغضبك تصرف مني؟
ـ كلا يا أمي
الحبيبة ولكن، على كل حال لابد أن تعرفي، أمي.. "أشلي" لم تمت، هي لا
تزال على قيد الحياة.
شهقت الأم
وصاحت شاحبة:
ـ لم تمت، كيف
لقد مرّت سنوات؟
ـ نعم يا أمي
يبدو أن الأمواج جرفتها على شاطئ جزيرة ما وظلت فاقدة للذاكرة كل هذه السنوات
والآن استعادت الذاكرة وتذكرت زوجها المليونير وستعود غداً لذلك أفضل بقائك بعيداً
حتى أسوي أموري معها.
ـ فيم تفكر يا
بني؟
ـ لست أدري يا
أمي، فكري مشوش، المفاجأة كانت فوق احتمالي، بعد أن ظننت أنني تخلصت من الشيطانة
الملعونة وألاعيبها للأبد.
ـ أنت لا تفكر
بالطلاق أليس كذلك يا بني؟
صاح بحدة:
ـ أمي أرجوك لا
تحدثيني عن تقاليد العائلة ليس الآن وقد احتملت ما يكفيني لسنوات من أجل تقاليد
العائلة، لدرجة أنها هددتني يوماً إن امتنعت عن الإنفاق على حفلاتها الماجنة
وسهراتها المشبوهة أن تهديني طفلاً ليس من صلبي، اللعنة لقد ظننت أني نسيت كل هذا
العذاب بعد أن ألقيته في جبّ عميق وردمت عليه جبال النسيان ولكنه عاد من جديد مع
عودة الشيطانة.
ـ "ليام"
أرجوك ترفق بنفسك يا ولدي.
ـ أمي ستسافرين
غداً لأختي سأحجز لكِ علي أول طائرة وسأتصل بها لتستقبلك، وأنا سأقدم علي إجازة من
المستشفى لأتفرغ لها.
غمغمت موافقة
بتنهيدة:
ـ كما تشاء يا
ولدي، ولكن أرجوك خذ الأمور بروية.
استراح بشكل
نسبي بعد أن طارت الطائرة حاملة أمه على متنها.
كانت الساعة قد
قاربت الثانية عشر عندما قابل الضابط الذي حدجه بنظرة متسائلة فتجاهله "ليام"
متطلعاً للطائرة الصغيرة التي تقترب منهم، ولآخر لحظة تمنى لو كانوا جميعاً مخطئين
وأن زوجته ما زالت مدفونة في قبرها في أعماق الكاريبي.
كانت مجرد آمالاً واهية راحت أدراج الرياح التي عبثت بشعرها الذي تطاير
خلفها بعشوائية خطفت قلب كل رجل في المكان، وبعفويه أزاحت الخصلات عن وجهها لترى
موطئ قدمها أثناء نزولها الدرجات القليلة للطائرة، تطلعت حولها بفضول حتى توقفت
نظراتها على ثلاث رجال على ما يبدو أنهم متلهفين للقائها ما عدا واحداً يراقب
تقدمها بحذر رغم أنه الشخص الوحيد الذي تعرفت عليه من بين الموجودين
"زوجها"
مع خطواتها المقتربة كانت آماله تتضاءل حتى مات تماماً فها هي بملامحها
الجميلة تدير رؤوس الرجال حتى وهي غير متأنقة بملابس رخيصة نحيلة شاحبة أكثر بكثير
مما اعتاد على رؤيتها، ساوت شعرها الأسود المائل للاحمرار بيد مرتجفة وهي تلتقط
برادارها الأنثوي كل إشارات الرفض من هذا الرجل، أفاق كلاهما على صوت الضابط
المستنكر اللقاء البارد:
ـ سيد "ماجواير" ألن ترحب بزوجتك؟
مد يده بطريقة آلية ليصافحها متمتماً بكلمات باردة:
ـ مرحباً بكِ.
هزت رأسها تخفي إحراجها بابتسامة مترددة كانت غريبة على سلوكها المعتاد،
فإن لم تخونه ذاكرته فهو لم يرّى حمرة الخجل على وجنتي زوجته أبداً، صاح الضابط
بترحاب مغيظ:
ـ أهلاً بكِ سيدة "ماجواير" أرجو أن تعذري زوجك فيبدو أنه لا يصدق
حظه للآن بعودتكِ سالمة بعد أن ظن أنه فقدكِ للأبد.
التفت "ليام" للضابط يحدجه بنظرة صارمة أخرسته ثم أردف من بين
أسنانه:
ـ أعتقد أن السيدة زوجتي متعبة من رحلتها، سأصطحبها للبيت إن لم يكن لديك
مانع بالطبع.
ـ بالطبع ليس عندي مانع يا دكتور وأنا واثق أنك ستعتني بزوجتك جيداً،
وقريباً سأمر لأطمئن على استقرارها ولأكمل تقريري.
لم ترّق له تلميحات الضابط فقبض علي ذراعها بأصابع فولاذية متمتماً:
ـ هيا بنا، السيارة من هنا.
اضطرت للركض تقريباً كي تلحق بخطواته الواسعة السريعة إلى أن وصلا لسيارته
ففتح الباب ودفع بها بشيء من الخشونة، دون أن يبالي بنظراتها المرتعبة، وبعد لحظة
واحدة كان ينطلق بسيارته بسرعة زادت من رعبها، فأسرعت تقول قبل أن تخونها شجاعتها:
ـ "ليام"، يبدو أن خبر عودتي كان صدمة... غير متوقعة لك.
كادت أن تفلت منها كلمة "غير سارّة" فعلى الأقل هذا كل ما تشعر به
الآن من خلال لقاء زوجها البارد، أنها مجرد خبّر غير سار وربما... قاطع أفكارها
السوداء رده البارد باستخفاف مرير:
ـ نعم يمكنكِ أن تقولي هذا بضمير مستريح، هذا لو ما زلتِ تملكين بعضاً منه،
أعني الضمير بالطبع.
ردت بصوت متقطع حزين:
ـ كان يجب أن أبقى ميتة، لقد شكلت حياتك بدوني، وعودتي ستهدم خططك، أليس
كذلك؟
صرخ ساخطاً:
ـ منذ متى وأنتِ تفكرين في أي مخلوق غير نفسك؟
أطرقت تلتهي بالعبث بأصابعها وهي تتمتم:
ـ ربما عندما أغرقني شعورك أنك تبدو في خير حال بدوني وأن عودتي تثقل عليك
بشكل ما.
رد بصوت هادر وكأنه بركان على وشك الانفجار:
ـ اسمعي "أشلي"، أرجئي كل هذه المناقشات العقيمة في الوقت الحالي،
نعود للبيت أولاً ثم نحاول الوصول لخطط جديدة ترضي الطرفين.
وأطبق شفتيه وكأنه أصدر مرسومه الملكي بعدم الكلام، انزوت بجانب الباب
مبتعدة عنه لأقصى ما تستطيع شاعرة بالنفور الذي يصدر منه وغرقت في أفكارها
وتساؤلاتها وهي تتابع المشاهد من نافذة السيارة تتوالى أمام عيناها، ومن حين لآخر
تختلس نظرة لوجهه المتجهم وملامحه المحتدة وفجأة شعرت وكأن قلبها يعتصر بقبضة من
جليد وهي تتساءل بصمت:
"ولكن لماذا يكرهني لهذا الحد، ردة فعله لرؤيتي ليست مجرد صدمة بخبر عودتي، يبدو أنه تمنى أن أكون مجرد كابوس
سيستيقظ منه بعد ليلة عاصفة، ولم أكن أبداً الزوجة التي حلم بعودتها وخسر لفقدانها،
ولكن.. لماذا؟؟!!"
بدأت رحلة السيارة ولكن "أشلي" شعرت بها وكأنها بداية لرحلة
عذابها، فوجه زوجها المتجهم لا يبدو وكأنه سعيد لعودتها وراحت دوامة التساؤلات
تدور برأسها.
"لماذا يكرهني لهذا الحد، ردة فعله لرؤيتي ليست مجرد صدمة بخبر عودتي، يبدو أنه تمنى أن أكون مجرد كابوس
سيستيقظ منه بعد ليلة عاصفة، ولم أكن أبداً الزوجة التي حلم بعودتها وخسر الكثير
لفقدانها، ولكن.. لماذا؟؟!!"
وظلت تساؤلاتها عالقة برأسها لا تجد لها أي إجابات!!!
اقتربت السيارة من الفيلا، أضيئت الصورة في ذهنها، وكأنها كانت تحاول
استعادتها بصعوبة، فصاحت بسعادة تلقائية كطفلة صغيرة فرحة بعودتها لبيتها بعد وحشة
الغربة:
"نعم هذا بيتي أتذكره الآن جيداً، واو يبدو أكبر مما تخيلت".
أهداها نظرة جانبية محتقرة لم تلاحظها وهي تسرع لمغادرة السيارة كطفلة
صغيرة سعيدة بعودتها لدفء جدران بيتها بعد رحلة غربة طويلة.
فتح رئيس الخدم الباب بكياسة ولم يبدِ عليه المفاجأة، فقد أعدهم "ليام"
لها وأخبرهم بخبر عودتها قبل أن يذهب لاستقبالها، هز الخادم رأسه بتحية مقتضبة
ولكنه فوجئ بتحيتها الحارة وهي تحتضنه بسعادة.
"أوه "جان" كيف حالك؟ تبدو بخير".
رد بذهول:
"مرحباً بعودتك سيدتي".
دارت حول نفسها في المكان ثم صاحت:
"هل تصدق "ليام"، عندما كنت فاقدة الذاكرة كنت أحلم بهذه
الردهة وبهذا المكان".
غمغم وفمه يلتوي بسخرية:
"أنا متأكد من هذا".
التفتت مصدومة من سخريته تحاول أن تستشف قصده، ولكنه أسرع بإلقاء أوامره
للخدم بتحضير الغداء ثم التفت إليها:
"يبدو أن ذاكرتك في تطور مستمر وأعتقد أنكِ تستطيعين تذكر مكان غرفتك
من دون مساعدة".
استدارت لتشير لأعلى الدرج قائلة:
"نعم إنها في الجانب الشرقي و...، غرفتك في الجانب الغربي، هذا
غريب!!!".
لم يسمع كلماتها الأخيرة، إذ شغل نفسه بأمور أخرى وتركها تصعد مستكشفة
المكان وحدها، رغم خيبة أملها، إذ كانت تحلم بيوم عودتها لبيتها ولزوجها السعيد،
صعدت لغرفتها بعد أن ساورها شعور غريب، أن هذا هو واقع الحال بينها وبين زوجها
دائماً.
بخطوات مرتبكة مترددة خطت لداخل غرفتها الفاخرة، ثم شهقت بدهشة إذ كانت
أكثر تكلفاً مما تتذكر، كل قطعة كانت تصرخ رفاهية وفخامة، السرير المودرن بحاشيته
المنفوشة من رياش النعام، وأغطيته من أفخر أنواع الحرير والستائر المخملية الداكنة
تغطي معظم حوائط الغرفة، وفي الجانب الآخر منضدة للزينة بمرآة أثرية بذات الزخارف
التي تزين السرير، وكافة ما يمكن أن تتخيل من أدوات الزينة موضوع بترتيب على
المنضدة وكأنها لم تغب يوماً واحداً، همست بتعجب وهي تتلمس الزجاجات الملونة
الفاخرة بأنامل مرتعشة:
"هل كنت أستعمل كل هذه الأشياء؟"
هزت "بريانكا" رأسها مؤكدة:
"كل ما ترينه أمامك هي أدواتك الخاصة سيدتي، التي اشتريتها بنفسك
قبل... عفواً أعني ....قبل الحادث".
جلست "أشلي" تتطلع لكل أدوات الزينة والتبرج الباهظة بذهول، ثم
نظرت في المرأة لتحدق بملامحها وتتساءل وهي تتحسس وجهها.
"منّ أنا؟؟؟ ومنّ أنتِ؟؟"
انتبهت من رحلة شرودها على هزات من يد الخادمة على كتفيها:
"سيدتي، هل أنتِ بخير؟"
رفعت رأسها بابتسامة مرسومة ببراءة تعجبت لها الخادمة فهي لم ترى مثل هذه
الابتسامة أبداً على وجه مخدومتها.
"أنا بخير "بريانكا"، شكراً لسؤالك، ولكني فقط مشوشة، كل ما
حولي يبدو غريباً، أشعر أن امرأة غيري كانت تسكن هنا".
سألتها "بريانكا" بحذر:
"ولكن سيدي أخبرنا أنكِ استعدتِ ذاكرتك".
تلاعبت بملامح وجهها بشقاوة قائلة:
"حتى رأيت... زوجي ودخلت لهذه الغرفة كنت أعتقد هذا، ولكن ليس في هذه
اللحظة، أعتقد أنني..... آه حسناً.. أفتقد الكثير من الذكريات".
هزت كتفيها واتجهت للحمام، وهناك تلقت صدمة أخرى جديدة، فقد كان أكثر غرابة
من أي حمام تخيلته، عبارة عن تحفة أخرى ولم تصدق فعلاً أنها كانت محاطة بكل أسباب
الرفاهية الفاحشة لهذه الدرجة، فالحمام مغطى بالكامل بالفسيفساء الزرقاء المخضرة،
يتوسطه جاكوزي ضخم مزود بالمياه الساخنة والباردة، وقد اصطفت عليه الشموع المختلفة
الأشكال والألوان والروائح، بالإضافة لزيوت الجسم المعطرة وأملاح الماء في عبوات
مزخرفة فارهة.
انتبهت على طرقات الباب لتفيق من ذهولها ثم دخلت خمس خادمات ينحنين لها
باحترام وتزمت واضح كأنهن تماثيل من الشمع.
فردت تحيتهن مندهشة من هذا التجمع المريب:
"مرحباً يا فتيات، أنا أذكركن أنتِ "جولي" وأنتِ "بريانكا"
أعرفك طبعاً و... آه عفواً لا أذكركن جميعاً أنا سعيدة برؤيتكن ولاحتفائكن بي".
ردت بريانكا بوقار:
"لا بأس يا سيدتي نحن في خدمتك".
لم يرّق لها جمودهن في معاملتها فسألتهن ببشاشة:
"في خدمتي... عفواً أنا لا أتابعكن، في أي شيء ستخدمونني؟"
صاحت الفتاة بدهشة:
"سيدتي كنتِ لا تتخلي عن خدماتنا أبداً في الحمام، والتدليك والعناية
بأظافرك والمكياج والشعر و...."
صاحت بذهول:
"توقفي، باختصار، هل تخبريني أنني لم أكن أستطيع التنفس إلا بمساعدتكن".
نظرت الفتيات لبعضهن نظرات دهشة ثم قررن بدأ العمل رغم أسلوب سيدتهن الجديد
في المعاملة.
"سيدتي سنبدأ الآن "جولي" ستعد الحمام و"ماي"
ســ.."
صاحت مرة أخرى:
"توقفي "بريانكا"، أنا آسفة حقاً لكُن جميعاً، ربما كنت
أستعين بكُن في الماضي في كل أموري بهذه الطريقة الـــ.. غريبة، وكأني عاجزة، لا أستطيع التصرف إلا بمساعدتكُن، ولكن،
أحمل لكن أخبار جديدة، لقد أصبحت امرأة أخرى، صدقتن أم لا ولكني في الآونة الأخيرة
اعتدت الاعتماد على نفسي في أغلب أموري، وخاصة، الخاصة جداً، أحب الاعتناء بنفسي
فيها أرجو ألا أكون قد جرحت مشاعركُن، ولكني أرفض كل هذا التجمهر لمجرد أني سأغتسل
وأبدل ثيابي، من فضلكُن ابحثن عن عمل غيري".
صاحت "بريانكا" تدافع:
"ولكن سيدتي...".
صاحت "أشلي" بنفاذ صبر:
"إبقي أنتِ فقط "بريانكا" سأحتاج إليكِ، واصرفي الأخريات من
فضلكِ، وأعتذر لإزعاجكُن".
غمغمت الفتيات بكلمات مبهمة أثناء انصرافهن، ولكنها شعرت أخيراً بالراحة
فتنفست بعمق قائلة متوجهة لـ "بريانكا" بابتسامة متوترة:
"والآن يا صديقتي العزيزة".
رددت "بريانكا" بدهشة:
"أنا سيدتي!"
"نعم أنتِ يمكنكِ أن تبدئي بتذكيري، كيف يعمل حمامي هذا، لأني نسيت
لقد ابتعدت فترة كافية وهو ليس كبقية الحمامات المعروفة، لا بد أن يكون معه لوحة
تعليمات للتشغيل ألا توافقيني الرأي؟"
هزت "بريانكا" رأسها ضاحكة باستغراب:
"سيدتي إنكِ تدهشيني لقد تغيرتِ كثيراً".
هزت كتفيها باستخفاف
"ربما لم أتغير كما يخيل لكِ، ولكني ابتعدت مدة كافية عن هذه الرفاهية
كي أعيش بدونها بدون أن أشعر باختلاف، والآن أخبريني كيف أستحم بأبسط طريقة ممكنة".
خرجت "بريانكا" من غرفة سيدتها وهي تكاد تقسم أن هذه المرأة لا
يمكن أن تكون مخدومتها السابقة أبداً.
استمتعت "أشلي" بحمامها المتدفق بعد أن أصرت "بريانكا"
على تزويد مياهه بالأملاح المعطرة برائحة الياسمين، وندمت على اعتراضها في بادئ
الأمر، ولكن عندما وجدت عضلاتها المتصلبة تسترخي، تنفست بعمق وراحت تستمتع بكل
لحظة فيه، ولكن تفكيرها لم يسترخي فما زالت مقابلة زوجها الفاترة تؤرقها، عاد
رأسها يغتم بتساؤلاته مرة أخرى عن علاقتهما كيف كانت قبل الحادثة، واعتصرت ذاكرتها
ورغم ما بذلته من جهد لتتذكر فلم تُذكر إلا ومضات صغيرة لا تكفي لتكوين رؤية كاملة
عن كيفية لقاءهما وزواجهما، فتحت دولاب الملابس الضخم داخل الجدار لتفاجأ بهذه
الكميات الهائلة من الملابس والحقائب والأحذية، مجموعات كاملة منها لمختلف ساعات
النهار والليل، فجأة داهمها شعور مفاجئ وكأنها تتطفل على خصوصيات امرأة أخرى.
دخلت "بريانكا" بعد طرقة خفيفة على الباب فوجدت سيدتها تقف
مذهولة كالتائهة أمام دولابها الخاص.
"سيدتي، هل أستطيع مساعدتك بشيء؟"
ردت بلهفة وهي تمسك بذراعها مشيرة للدولاب الحافل:
"آه "بريانكا" أنقذيني رجاءاً وقولي لي أن كل هذه الملابس
لم تكن لي!!!!".
ردت بريانكا ببساطة تقر بالواقع
"بل هي كلها لكِ سيدتي، لقد اشتريتها بنفسك قطعة قطعة، والباقي في غرفة الملابس
فدولابك لم يتسع لها كلها".
تهاوت على فراشها وهي لا تزال تحدق بالملابس المعلقة من كافة الألوان
والأشكال ثم هزت رأسها وهي تشيح بوجهها لتنظر في وجه الخادمة المدهوشة:
"ولكن....، أنا لا أشعر بأنني من النساء اللاتي من الممكن أن يمتلكن
كل هذه الثياب، هل كنت من هذه النوعية من المتذلفات بملابسهن وأصباغهن، التي أسخر منهن
دوماً".
أطرقت برأسها مستغرقة في ذهولها، فربتت "بريانكا" على كتفها:
"سيدتي، هل أنتِ بخير؟"
هزت رأسها بدون أن تنطق وبعد لحظات تمتمت:
"حسناً، هل تسمحين بأن تخرجي لي ملابس مناسبة لأول عشاء لي مع زوجي
بعد طول غياب".
التفتت بعد لحظات لتُفاجأ بما أخرجته الخادمة، ثوب أقل ما يقال عنه أنه
تحفة كما يبدو أنه كلفها ثروة.
"ما هذا؟"
"ألا تذكرينه سيدتي؟"
تلمست قماشه الأرجواني الناعم يلمع بحبات ماسية وقد اتسعت فتحة الصدر بجرأة
كبيرة فانقبضت وهي تشيح عنه بوجهها.
صاحت باحتجاج:
"لا.. لا "بريانكا" هذا لن يصلح، هذا مجرد عشاء مع زوجي في البيت، وليس كأننا سنسهر في الأوبرا، ثوب
بسيط سيناسبني، وليس تحفة في عالم الأزياء".
حدقت الخادمة بسيدتها بغرابة ثم قلبت شفتيها وراحت تبحث عن طلب سيدتها التي
أوقفتها بسؤال طرأ فجأة على ذهنها:
""بريانكا"، هل سبق وتناولت العشاء مع زوجي بهذا الثوب؟"
بدون تعليق هزت الخادمة رأسها بالموافقة.
فتهالكت "أشلي" على السرير متمتمة:
"لماذا أشعر أن امرأة غيري كانت تعيش هنا؟"
أخرجت لها أخيراً ثوباً أبيض طويل مشقوق على الجانبين وقد ارتفع خصره ليصل
للصدر بفتحته المتوسطة كان يبرز بياض عنقها البضّ بجاذبية غير مقصودة.
ساعدتها "بريانكا" لتجمع شعرها على جانب دون تقييد كما أمرت
خادمتها وأنهت لمساتها برذاذ من عطر الياسمين العطر الوحيد الذي أحبت رائحته من مجموعتها الثمينة.
نهضت واقفة معلنة بابتسامة:
"أنا جاهزة".
صاحت "بريانكا":
"ولكنكِ لم تضعي أية مساحيق".
أجابتها ببساطة
"أنا أفضل وجهي طبيعي بدونها".
تجاهلت دهشة الخادمة وهي تغادر أمامها برأس مرفوع فعلى ما يبدو أنها ستدهش
كل من حولها في كل تصرفاتها المستقبلية وتمنت بشكل خاص ألا تدهش إلا "ليام"
زوجها.
كان "ليام" يجلس ساهماً على مائدة الطعام بانتظارها، ولم يظهر
عليه أي تغيير بقدومها، ما عدا اختلاج عضلات فكه بانقباض، وانتظر حتى جلست وبدأ
بتناول الطعام بصمت مطبق، ازدردت لعابها بصعوبة وحاولت لفت نظره بأي محادثة خطرت
ببالها.
"كيف حال العمل بالمستشفى؟"
رد باقتضاب:
"على ما يرام".
مدت يدها ووضعتها بحنان على يده وهمست باستجداء:
"ليام".
ولم تكمل جملتها إذ صعقها بريق عيناه، فرفعت يدها عنه كمن مسها الكهرباء
متراجعة، وهو يصيح بصوت متحشرج كالفحيح مع شرارات ملتهبة تندفع من عينيه:
"إياكِ أن تلعبي هذه اللعبة معي، لقد تغيرت ولم تعد ألاعيبك تؤثر بي،
لست أدري حقاً ما يشغل تفكيرك الآن ربما تحاولين استعادة الماضي بخلق مستقبل جديد
لكِ، ولكني أحذركِ لم أعد ذلك المتهاون أيتها الملعونة ولن أسمح لكِ أبداً
باستغلالي مرة أخرى هل فهمتِ أم..."
صاحت بأنفاس لاهثة:
"أنا لا أفهم أي شيء ولا أعرف عن أي شيء تتحدث، "ليام"
أرجوك".
لم يترك لها الفرصة لتكمل فقاطعها بكلمات اخترقت جسدها كطلقات الرصاص
"إدعاء الغباء وفقدان الذاكرة لن يفيدك، خاصة معي أنا، أحفظك وكل
ألاعيبك القذرة عن وجه قلب".
أغمضت عيناها وهي تهمس بصوت كالأنين:
"يبدو أنني فعلاً كنت بغاية الغباء عندما اعتقدت أن عودتي لبيتي وزوجي
هي الحلقة المفقودة من السعادة التي أبحث عنها".
قهقه ساخراً بقسوة:
"منذ متى وأنتِ تبحثين عن السعادة في البيت ومع الزوج، بعد أن كانت كل
سعادتك في الماضي بجمع المال بجشع معشوقك الأوحد والوحيد".
همهمت بصوت ضعيف:
"هل كنت امرأة سيئة لهذا الحد؟ لماذا تزوجتني إذن؟"
رد وكأنه يبصق الكلمات في وجهها باحتقار:
"أنتِ أكثر دراية بظروف زواجنا اللعينة".
صاحت بنحيب
"أقسم لك أني لا أذكر أي شيء".
سألها مرتاباً:
"ألم تستعيدي ذاكرتك؟"
"لم تعد بكاملها ما زالت هناك ثغرات، توقعت أن تمتلئ بعودتي".
رد مقهقهاً:
"أها... حيلة جديدة ترى ماذا تخفي جعبة الساحرة الشريرة أيضاً؟"
نهضت لتغادر المكان قبل أن تخونها دموعها، ولكنه أمسك بيدها يضغط عليها
بقسوة ويهددها بصوته الآمر:
"لا تعودي لألاعيبك القديمة أشلي، هذه المرة لن أغفر أبداً وسيكون
قصاصك عادل".
استعادت ذراعها المتورم من ضغط
أصابعه الفولاذية بعد أن نفضها عنه بقسوة وكأنه يشمئز من مجرد لمسها، فركضت مسرعة
عائدة لغرفتها لا تكاد ترى طريقها من الدموع التي تجمعت غيوماً، انهارت على فراشها
تبكي بحرقة، مستقبلها الذي توسمته في الصباح مشرقاً مزهراً بعودتها أخيراً لزوجها
وبيتها بعد غياب سنوات، والآن أصبح غامضاً أقرب لأن يكون مظلماً مع زوج يكره مجرد
فكرة أن تعود لحياته، وشبح امرأة ترى إنعكاس صورتها في المرآة ولا تشعر أنها
تعرفها أبداً رغم إصرار الجميع أنها هي.
وأثبتت لها الأيام التالية صدق حدسها
فلم تقع عيناها عليه بعد تلك الليلة، ولم تغادرغرفتها منذ المواجهة الأخيرة،
كانت الخادمة تأتي لها بالطعام في موعده، ولم يبدو أنه قد شعر بفراغ لغيابها فلم
تصلها منه أي دعوة لتناول الطعام، أو حتى ليتأكد إذا ما كانت ما تزال على قيد
الحياة، فقد تأكدت من "بريانكا" أنه لم يسأل عنها أبداً، رغم أن الخادمة
الأمينة حاولت اختلاق الأعذار لسيدها ولكنها علمت من نظراتها المرتبكة أنه لا يفكر
فيها أبداً، وربما يحاول تجاهل وجودها، ظلت حبيسة غرفتها لأسبوع كامل فتطوعت "بريانكا"
للثرثرة معها وحكت لها عن حياتها معهم قبل الحادث وكيف كانت معاملتها سيئة لكل من
حولها، حتى زوجها الذي لم يسلم من سوء طباعها، فأدركت أنه ربما يكون على حق في
معاملته القاسية، وعدم تصديقه للصورة الجديدة التي عادت بها، شعرت بصراع رهيب في
عقلها بين الشخصية القاسية المتسلطة الكريهة التي تحكي لها "بريانكا"
عنها، وبين ما تشعر به من رفض ونفور لكل ما يقال، فمن غير المعقول أن تكون هي
نفسها المخلوقة الأنانية التي تُروى عنها القصص في الشر، وكانت النتيجة آلام
الصداع المبرحة التي تكاد تفتك برأسها لدرجة الصراخ في بعض الأحيان، ورغم معاناتها
من الآلام المبرحة كل ليلة ولكنها منعت "بريانكا" أن تخبره بحاجتها
لدواء مسكن.
وقفت في الشرفة في وقت متأخر من الليل لعلّ هواء الليل المنعش يرطب من
نوبات الصداع المؤلمة، انتحت بجانب الجدار عندما لاحت أضواء سيارته الكاشفة من
بعيد، راقبته بقلب كسير متسترة بالظلام كي لا يكشف موقعها لمراقبته وهو يترجل من
سيارته الحمراء، يتحرك بعنفوان وثقة من تكوينه الجسدي الرشيق الذي يضعه في مصاف
أكثر الرجال جاذبية في العالم، أغمضت عيناها بألم ودخلت لترتمي على السرير وقد زاد
الصداع من حدته، وكأنها تحاول مواجهة عدو يحاربها بكل قوته من دون أن تراه.
اقتحمت "بريانكا" الغرفة بعلامات الفرحة والابتهاج على وجهها:
"سيدتي، لن تصدقي، ولكن سيدي يطلبك!!!!".
انتصبت في مكانها مدهوشة تتساءل:
"يطلبني!! ولكن لماذا؟ هل أنتِ متأكدة؟"
"بالطبع سيدتي، لقد سألني عنكِ، أقسم لكِ، ثم طلب مني أن توافيه في
غرفة مكتبه".
ردت بنبرة يائسة:
"عجباً أمازال يتذكر وجودي؟ حسناً "بريانكا" سأبدل ملابسي
وألحق بكِ".
ردت "بريانكا" بنظرة ماكرة:
"أرى من الأفضل ألا تغيري ثيابك، إنه زوجك ولا ضرر أن تقابل المرأة
زوجها بثياب النوم، أم نسيتِ أنكِ ما زلتِ زوجته؟؟!!"
صاحت "أشلي" باستنكار:
"أقابله بثياب النوم".
هتفت الخادمة بحماس:
"إن ثوبك ملائم كما أرى، رائع، أبيض، شفاف يبرز جمالك الهادئ بشكل
مثير".
هتفت باستنكار:
"لا لا لا مستحيل، "بريانكا" قد يظن أنني أحاول إغواءه".
غمزت الخادمة بعينها بمكر:
"وهذا هو المطلوب يا سيدتي، فأنتِ زوجته وقد آن الأوان للزوج أن يشعر
بوجودك بطريقة مختلفة لتصححا الأوضاع بينكما".
