الوجه الآخر لها
***********
"أنا
قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار... أنا قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار..."
ظلت الكلمات
تتردد في رأسها مراراً وتكراراً، والدموع تسيل على وجنتيها كالفيضان، وزاد من
شعورها بالقهر ذراع زوجها التي كانت تلثم خصر رفيقته باتحاد أبدي.. وقد ظن أنها
تجاهلته.. ولكن الحقيقة أنها قد فاض منها الكيل.. وما عاد في كأسها مكان يتسع
لقطرة ألم تزيد من إنفجارها الوشيك.
وقف ماثيو
مذهولاً مما يسمع لدرجة أفقدته النطق تقريباً.. قطع حبل صمت التحدي بين الطبيبان
صوت الحسناء الناعم التي أعلنت عن وجوها بنبراتها المتأففة:
ـ ليام حبيبي..
لو كانت زوجتك تحب هذا الطبيب الشاب، لماذا تقف بطريق سعادتهما؟.. خاصة أنها كما
تقول تحمل منه طفلاً.. امنحها الطلاق.. حبيبي.. لنستأنف حياتنا التي توقفت بعد
رجوعها المفاجئ.
رد ليام وهو
يرمق ماثيو بنظرات محتقرة:
ـ وأكافئهما
على خداعي وخيانتي!!.. أهذا ما تطلبينه حبيبتي؟!.. قد أفعل ما تقولين، ولكن بعد أن
أعمل على أن يفقد كلاهما ما هو أغلى من حياتهما!!.. وبعد أن يدفعا ثمن خيانتهما
كاملاً.
هم ليام
باستئناف سيره، عندما أوقفه صوت ماثيو المتهكم:
ـ
لأول مرة أُدرك مدى صدق أشلي في كل ما أخبرتني به عنك.. فهي لم تبالغ بأي حرف وصفت
به قسوتك وغرورك وقدرتك اللامعقولة على استنتاج النتائج الخاطئة.. أنت لست أكثر من
وغد متعالي.
لم
ينتظر ماثيو ردة فعله فدفعه جانباً واتخذ طريقه مبتعداً عنهما شاعراً بقرف شديد من
كل ما يحدث.
اتجه
فوراً ليسأل عنها في قسم جراحة الأطفال حيث تعمل، فأخبرته كبيرة الممرضات، أنها
ولأول مرة تعتذر عن المناوبة لشعورها بالمرض، وأنها عادت لبيتها..
انتابه قلق شديد أن تنفذ فكرتها المجنونة التي
تجول برأسها المشوش، فاعتذر عن مناوبته وانطلق متوجهاً إليها.
بعد
طرقات متوالية ومصرة على الباب كاد أن ينخر اليأس عزيمته من وجودها في البيت، وأول
ملاحظة له بعد أن فتحت الباب، أنها ما تزال داخل شرنقة الشرود والكآبة التي تدثرت
بهما بعد سماعها خبر حملها في الصباح..
ـ
تفضل ماثيو... ماذا تشرب؟
ـ
لا شيء.. جئت أطمئن عليكِ.. أنتِ بحاجة لعناية وتغذية مناسبة لــ... لحالتك.
صرخت
بحدة مبالغة:
ـ
أرجوك.. الموقف لا يحتمل أي سخرية.
ـ
أنا لا أسخر منكِ.. أشلي، أنتِ فعلاً بحاجة لعناية.. ما رأيك أن تعودي لبيتي؟..
أمي ستفرح بكِ كثيراً.. ولا تقلقي من ناحيتي كما قلت لكِ من قبل.. سأذهب لأبيت لدى
أي صديق، أو في سكن الأطباء.. لن تكون مشكلة بالنسبة لي، ولن أزوركم إلا كضيف ثقيل،
يمكنك تحاشيه بالتواري عني في غرفتك.
حدقت
به متسائلة بنزق:
ـولماذا
تكبد نفسك كل هذا العناء؟.. وأنا التي عاملتك بطريقة سيئة.. أنا لا أستحق أن تفكر
بي.. ولو للحظة.
أمسكها
من كتفيها يهزها برفق:
ـ
أنتِ تستحقين أحلى ما في الدنيا يا أشلي.. لا يدخلك الشك بهذا أبداً.. مهما قال لك
زوجك هذا أو حاول تحطيمك بطرقه القذرة.. أما ما حدث من قبل كان الخطأ من جانبي أنا..
واستحققت عقابي، فبعادي عنكِ كان أكثر من عقاب، والآن ما رأيك أن نبدأ صفحة جديدة؟..
وامنحي عرضي فرصة أخرى للتفكير.
هزت
رأسها بالرفض:
ـ
آسفة.. حقاً لا أستطيع القبول به، كما لا أستطيع الاحتفاظ بــ... هذا الطفل.
تنهد
يائساً.. وحاول مرة أخرى أثناءها عن عزمها، ولكنه كان كمن يضرب رأسه بجدار حجري..
فتركها بعد أن استخلص وعداً منها أن تتريث حتى يجد لها طبيباً يساعدها على ما تريد،
كآخر محاولة منه لكسب بعض الوقت.. فوافقته على مضض.
في
مساء اليوم التالي.. وبعد مناوبة عملها التي انتهت بعد منتصف الليل، وقبل أن تفتح
باب شقتها منهكة تتوق لأن تلمح فراشها الصغير لتستلقي فوقه تريح عظامها المتألمة،
فُتح باب الشقة المجاور وظهرت جارتها ذات الشعر المصبوغ والعلكة التي لا تفارق
فمها قائلة وهي تلوح بورقة في يدها:
ـ
حبيبتي.. لقد اتصل والدك وترك لكِ رسالة، كان صوته غريباً يبدو مريض أو.. مخمور،
هذه هي الرسالة.
غمغمت
أشلي وهي تلتقط الورقة بإنهاك:
ـ
شكراً لك.
استدارت
الجارة.. وقبل أن تغلق الباب عادت لتلتفت لأشلي قائلة بنبرة متعالية:
ـ
أخبريه ألا يتصل بعد الساعة العاشرة، فهو أزعجني باتصاله المتأخر.. لقد ندمت
لسماحي لكِ إعطائه رقم هاتفي، لم لا تدعين صديقك الغني الذي رأيته عندك في تلك
الليلة يشتري لك هاتف خليوي؟..
تجاهلت
الرد على فضول جارتها المقيت، وهي التي ظنت أن ليام تسلل دون أن يراه أحد، وعلى ما
يبدو أنه لم يمر دون أن تتفحصه نظرات جارتها الفضولية.
فتحت
الباب وأغلقته فوراً بعد دخولها مستندة عليه بإنهاك، وهي تعتصر الورقة بين أصابعها
النحيلة، ثم حدقت بها تتأملها بعينين دامعتين..
حركت أقدامها المنهكة بصعوبة حتى الأريكة التي
لم تكن بحال أفضل منها، وألقت بجسدها عليها وهي تسمع خشبها المهترئ يئن من ثقلها،
بأنامل مرتعشة فضت الورقة وقرأت الرسالة، وكما توقعت لم تحمل بين حروفها القليلة
إلا هماً جديداً على عاتقها..
تمتمت بصوت مخنوق:
ـ
تريد مالاً!!.. وماذا ستريد غير المال مني؟
أخرجت
محفظتها من حقيبتها وراحت تعد ما تبقى من مال معها.. اهتزت شفتيها برغبة عارمة في
البكاء، لم تتح لها الفرصة لتتملكها وهي تنهض من مكانها مرة أخرى متجهة للباب، وقد
عقدت العزم لتذهب لأبيها، لم ترغب زيارته في هذا الوقت من الليل، ولكنها في الغد
لن تجد الوقت الكافي لإعطائه المال الذي طلبه.. كان الطريق للوصول له صعباً، خاصة
أنها لا تملك المال الكافي لسيارة أجرة فاستخدمت وسيلة المواصلات العامة، واضطرت
بعدها لتمشي مسافة ميلين حتى وصلت للحي الذي يقطن فيه..
استقبلتها رائحة الخمر على الباب فأصابتها
بالغثيان.. قررت أن تلقي له بالنقود
وتغادر فوراً..
كان يستلقي على فراشه وقد احتضن زجاجته يعب منها
عباً بوعي غائب، نبهته لوجودها بصوت ضعيف، فهب مترنحاً يحاول التحديق في وجهها ثم
هلل بصوته الخائر:
ـ
آرني.. حبيبتي.. لماذا تأخرت؟
ـ
كــ... كيف حالك يا أبي؟ تفضل بعض النقود التي طلبتها، ورجاءً لا تتصل بجارتي في
وقت متأخر مرة أخرى.
حدق
بأوراق النقود القليلة التي تمد يدها بها إليه ودمدم باستياء:
ـ
ألا تستطيعي إعطائي المزيد؟.. لقد ارتفع ثمن هذا المشروب اللعين.
صاحت
بانفعال:
ـ
أنا لست مسئولة عن إمدادك بالشراب الذي تسمم به حياتك وجسدك، فقط هذا ما أقدر علي
توفيره لك، وهو للأسف لن يتعدى هذا المبلغ الذي أقتطعه من قوتي.
اعترض
بعبوس:
ـ
أنتِ زوجة رجل غني وطبيب مشهور، باستطاعتك الحصول على براميل من الذهب والأموال
بإشارة واحدة من إصبعك.
تحول
انفعالها لصراخ هستيري وهي تصرخ:
ـ
قلت لك مائة مرة، لقد تركته.. تركته هو.. وأمواله.. وقصوره.. ولن أعود له أبداً،
لماذا لا تكف عن طرق سيرته كلما أعطيتك مالاً؟
تمتم
بصوت خفيض وهو يرفع ذراعه وكأنه يحمي نفسه من غضبها:
ـ
آرني.. حبيبتي.. لماذا تصيحين بوجه والدك العجوز؟.. لقد ظننتك عدت طيبة.. مثلما
كنت.
عضت
على شفتيها حتى الألم عندما انقبض قلبها ألماً من منظره وكأنه على وشك البكاء:
ـ
بابا... أنا آسفة، حقاً آسفة.. لا أعرف ما الذي دهاني؟.. سأذهب الآن، هل تريد
شيئاً آخر؟.. غير المال.
ازدردت
لعابها بغصة مؤلمة عندما لم ترق لها نظراته العابثة التي راحت تمسح جسدها ببلادة
وهو يحدثها باستكانة:
ـ
آرني.. حبيبتي.. ألم تفتقدي والدك العجوز؟ لقد أصبحت شابة يافعة جميلة، لم لا تضمي
والدك العجوز وتشعريه بدفء حنانك؟!..
تنهدت
بتذمر:
ـ
أبي.. لقد كبرت على أن أصدق ما تقول.
وفجأة
دبت في جسده المترهل قوى شيطانية، فقفز نحوها مانعاً إياها من الوصول للباب..
سبيلها الوحيد للهروب.. فتراجعت أمام هجومه صارخة بحدة وتوسل باكية:
ـ
أرجوك يا أبي.. لا تكرر ما فعلته معي مرة أخرى، لا أريد أن أعود لتلك المرأة التي
صنعتها تصرفاتك في الماضي.
ولكنه
لم يسمعها ولم يرى دموع توسلاتها وهو يعاود هجومه عليها ممزقاً ملابسها..
كانت تقاوم ببسالة بما تبقى لديها من قوى خائرة،
وشعور الغثيان الذي راح يتزايد باطراد مع توغل رائحته الخانقة لأنفها مع إزدياد
اقترابه منها..
لم تتمكن من مقاومته عندما أمسك بها وطرحها على السرير
بقوة وعيناه تلمعان بتوهج الذئب على فريسته، وقد أصبحت شبه عارية بين يديه.. وقبل
أن يستغل ضعفها ويجهز عليها.. كانت عاصفة أخرى تقتلع الباب من مكانه بدفعة من قدمه..
ومن
خلال الغشاوة على عينيها رأت وجه ليام بملامحه السوداء من الغضب الأعمى الذي احتل
كيانه، وقد جذب والدها من ملابسه وراح يكيل له اللكمات.. بالكاد استطاعت الوقوف
لتحول بينه وبين أن يقتله وهو في فورة غضبه، ولكنه لم يرها وهو يدفع بقبضته في
وجهها أثناء إعتراضها لطريقه.. فصرخت بألم وهي تتراجع حتى الحائط لاهثة بأنين..
ولكن عينيه لم ينطفئ بريقهما وهو يصيح بصوت
أعمته الخيانة التي يظنها:
ـ
أهذا الشيء... هو ما فضلته علي.. أنا؟!.. لقد خيبتِ أملي فيكِ، كم أن ذوقك وضيع!!..
والآن تمتعي برؤيتي وأنا أغسل شرفي بدمه قبل أن ألحقك به.
صرخت
بآخر طاقة في جسدها المتألم:
ـ
ليام.. توقف.. أرجوك هذا.. هذا أبي...
توقفت
قبضته في الهواء محملقاً بها، وقد ارتمت في زاوية الغرفة من عنف ضربته تبكي بحرقة..
وردد كلامها بذهول محدقاً بها تارة وبالرجل الذي يمسكه من تلابيبه تارة أخرى:
ـ
ماذا؟!!.. اللعنة!!..أهذا.. أهذا الكائن.. أباكِ!!.. وقد كاد أن.... ألهذا السبب
كنت تمتنعين عن زيارته؟؟.. لأنه...
اظلمت
عيناه تتوهجا بمزيج من مشاعر القرف والازدراء، عادت قبضته تتكور وتنطلق باللكمة
الأخيرة إلى وجهه المخضب بالدماء، وتركه يسقط أرضاً بلا حراك، وراح ينفض يديه
قائلاً وكأنه يبصق الكلمات:
ـ وددت لو قتلته.
ثم
اتجه نحوها.. فانكمشت تحاول التواري من غضبه عندما مد يده إليها:
ـ
أرجوك.. أنا لم أفعل شيئاً.
هز
رأسه بتأثر ثم خلع معطفه، حملقت به بذهول وهو يلفه حولها وينحني ليحملها بين
ذراعيه:
ـ
لا تخافي مني.. أشلي، لا تخافي مني أبداً.. هيا بنا.
صاحت
متلعثمة:
ـ
ولكن... أبي...
رد
وهو يركله بقدمه قبل أن يغادر المكان:
ـ
لا تخافي.. لا يزال على قيد الحياة.
أغمضت
عيناها تستمتع باللحظات القليلة التي يضمها فيها، وتمتع حواسها بوجودها بهذا القرب
جوار قلبه.. حتى حرمها متعتها بوضعها في السيارة فانتفضت ممانعة:
ـ
لا.. أرجوك.. موقف الباص قريب، لا داعي لأن تتكبد مشقة توصيلي و....
شملها
بنظرة صارمة أخرستها، ثم أغلق الباب واستدار ليعتلي مكانه خلف المقود..
التزم
كلاهما الصمت للحظات من الهدوء لم تستطع أن تحتمل الألم الذي تشعر به بدون أن تئن
ولو بصوت مكتوم..
ـ
رغم مهارتك في التمثيل ولكني متأكد أنكِ متألمة.. ذلك الوغد المجنون لو بيدي
لكنت..
ـ
ليام.. أرجوك.. أبي لم يكن يدري ما يفعله، تلك الخمر الملعونة لعبت برأسه.. لم
يرني أو يسمعني.
صرخ
بتقزز:
ـ
لا تدافعي عنه.. الرجل الذي يسمح لنفسه أن يكون عبداً باختياره، لا يستحق أن يكون
أباً أو زوجاً.. أو رجلاً من الأساس.. ولا يستحق أن تدافعي عنه لأي سبب.. يا إلهي..
أتدركين ما الذي كان سيحدث لو لم أتدخل في الوقت المناسب؟؟.
همست
بشهقة باكية:
ـ
لقد أنقذت نفسي منه من قبل، عندما كان عمري خمسة عشر عاماً وفي موقف مماثل تهجم
على، كانت أمي في عملها، لم أخبرها أبداً عن سبب هروبي ولكن هذه المرة رائحة الخمر
أصابتني بالغثيان و... وفقدت القدرة على المقاومة.
هز
رأسه قائلاً وكأنه يحدث نفسه:
ـ
فهمت الآن سبب عدم ذكرك له، أو زيارته.
ـ
نعم.. وهو السبب في تحولي لامرأة تسعى لنيل كل شيء دون أن تضحي بأي شيء، عندما
تهجم علي.. وأنا صغيرة، وأنقذت نفسي منه بأعجوبة، أقسمت يومها.. ألا أكون ضعيفة
أبداً، وألا أكون لقمة سائغة في فم أي رجل، قد يظن أنني أنثى ضعيفة.. بل أقسمت
يومها وأنا أهرب من هذا البيت أن أكون أنا.. الشريرة التي يخافها الجميع، وسعيت
لهذا بكل جهدي، ولم أندم يوماً على تصرفاتي.. فقد ظننت أنني أحصل على حقي في
الحياة الذي لن أتمكن منه إلا بمخالبي، وكنت المرأة التي تزوجتك بحيلة قذرة.... ليام..
عندما دخلت.. هل ظننت؟.. أنني.. وهو؟... ألهذا تبعتني؟.. وأنت تظن أنك ستكشف
خيانتي..
تنهد
بصعوبة ووضع وجهه بين كفيه ثم نظر إليها:
ـ
أشلي.. لابد أن نتحدث عن كل ما حدث، ولكن لا الوقت ولا الزمان يسمحان الآن.. فلا
أستطيع الذهاب من هنا قبل أن أطمئن على هذا الكائن، أحياناً أكره مهنتي التي تحتم
علي معالجة أمثاله!!.. ولكن المبادئ لا تتجزأ.
سألته
بذهول:
ـ
أتعني أنك ستصعد إليه مرة أخرى؟
غمغم
بتنهيدة:
ـ
نعم سأطمئن أنه بخير وسأعود فوراً، بعدها ستعودين معي إلى الفيلا لنتحدث، لن أتأخر.
كاد
أن يذهب.. توقف ينظر ليدها الممسكة بكم بذلته متشبثة بأنامل متشنجة:
ـ
انتظر... قبل أن تذهب... أريدك أن تعلم أنني حقاً آسفة.. لقد كنت سيئة وعذبتك معي
بدون ذنب.. ولكن تصادف أنك الرجل الوحيد الذي شعرت معه بالراحة، هذا كل ما يمكنني
تذكره..
سألها
بعينين تجولان عليها بقلق:
ـ
لماذا هذا الكلام الآن يا أشلي؟؟
اضطر
لأن يفك أصابعها واحداً واحداً من على كمه، وأردف:
ـ
أشلي... ستكونين بخير لا تخافي...
تمتمت
بصوت مختنق بالدموع:
ـ
بل أنا خائفة أن أفقدك مرة أخرى..
ـ
ولماذا تفقديني؟.. لم تعد هناك أسرار بيننا أليس كذلك؟؟
ـ
ما تزال هي بيننا يا ليام...
ـ
من هي؟؟
ـ
هي السبب في كل ماحدث... كم أكرهها!!.. وهي تكره ابننا، وستؤذيه أعلم أنها
ستفعل...
وضع
يده على بطنها مطمئناً:
ـ
أنت وابننا بأمان.. أضمن لكِ هذا بعمري.. لن أدع مكروهاً يصيبكما أبداً..
ـ
ليام.. أنت قلت ابننا!!!..هل تصدق الآن أنه ابنك؟؟.. هل تصدقني؟؟..
ـ
نعم.. يا أشلي.. أصدقك.. وأصدق أنه ابني.. وإذا أردتِ الحقيقة.. فأنا متأكد منذ
البداية من ذلك.. ولكني كنت بحاجة لصدمة قوية، وقد تكفل والدك بمنحي إياها..
لاحقته
بعينيها حتى غاب داخل بوابة البيت المحطمة، وسمعت خطواته تسرع على الدرج لينهي
مهمته الإنسانية..
ضمت
نفسها بين ذراعيها بقوة، تناست آلامها بين موجات الفرح والسعادة وهي تفكر:
ـ
أخيراً... ليام سيعيدها معه للفيلا، يريد أن يتحدث معها، لقد رآها على حقيقتها،
وعرف الحقيقة... هل عرفها حقاً؟؟..
انكسرت ابتسامتها التي ملأت وجهها للحظات،
والهواجس تهاجمها، تنخر في سعادتها الهشة التي مازالت في المهد مولودة منذ لحظات
فقط، وهاهي توأد حية، تكافح من أجل الحياة الهشة التي أملتها..
ضحكة مغناج رنت في أذنيها وكأنها تحدثها:
ـ
أصدقت أنه قد يسامحك على ما فعلته أنا به؟؟.. نعم.. وربما يضمك لصدره الدافئ
ويغمرك بحبه.. ربما يحدث هذا، ولكن أتعلمين لماذا؟
هزت رأسها برفض شديد وهي تضع يديها على أذنيها
ترفض سماعها، ولكن الصوت وصل إليها، وأحرق آمالها الهشة وهي تكمل بقهقهتها الساخرة:
ـ لا يريدك أنتِ أيتها البلهاء، ولكن ما تحملينه
في بطنك.. ألم يعدك بالأمان من أجل ابنه الغالي؟...
صرخت
بصوت عالي:
ـ
اخرسي.. لا أريد أن أسمع منكِ شيئاً، اخرسيييييييي.
فُتِحَ
درج القفازات عفواً وهي تضرب بقبضتيها.. فتوقفت عن ما تفعل وهي تطالع العلبة
الصغيرة التي ظهرت لها من العدم، وقبل أن تمد يديها وتفتحها كانت تعرف تماماً ما
بداخلها، ولكنها رغبت بذلك السهم الأخير لتقتل كل ما بقي من زهور أحلامها الوردية،
ففتحتها بأنامل مرتعشة.. لتبرق الماسة بوهج قوي وتتحداها أن تدعي أنها لم ترها.
ـ
أرأيتِ!!.. لقد اشترى لصديقته خاتم الخطبة، تأكدتِ الآن من كلامي أيتها البلهاء..
همت
بإعادة العلبة مكانها، عندما عاد الصوت يحدثها برنين التعقل:
ـ
أما هذا فقد يساعدك على التخلص من ذلك الجنين، ولم لا وأنت لا تملكين أي مال
ليساعدك؟.. إلا إذا قررت إنتظاره والعودة معه، وسماع خطته للزواج بصديقته الحميمة
والاحتفاظ بابنه في صفقة واحدة.
أخرجت
الخاتم ذو الماسة الكبيرة ورأت فيه خلاصها.. فقبضت عليه بأصابع متشنجة، وبيدها
الأخرى فتحت باب السيارة وحثت الخطى لتبتعد قبل أن ينزل ويراها، فأسرعت بالتواري
كاللص الخائف من أن يُمسك بجريمته.
نفض
ليام يديه بعد أن أعاد الرجل الذي وجده ما يزال مكوماً على الأرض في مكانه، وكأنه
لم يعي بعد ما حدث له، وللمرة العاشرة ربما يحاول ليام ألا يستمع لأفكاره التي
تطالبه بالتقهقر وتركه ليتعفن في جحره..
لم يجد مشقة كبيرة في رفعه على فراشه البالي
وأجرى له إسعافات سريعة اطمئن من خلالها أنه ليس بحاجة لأكثر مما قدم له، فسكب
زجاجة الخمر التي وجدها بجواره على وجهه.. لينتفض مذهولاً و يحدق به بعينين ضيقتين
وكأنه يحاول التحقق من شخصيته..
شده
ليام من تلابيبه قائلاً بصوت متحشرج من الغضب:
ـ
أتعلم.. ماذا يستحق أمثالك؟... لا... ليس الموت.. فهو راحة لا تستحقها، أن تعيش
هكذا.. كجيفة تتنفس، وتموت كجيفة متعفنة.. هذا هو ما يستحقه أمثالك، من أشباه
البشر.. ولعلك لا تشعر أنك حطمت حياة ابنتك الوحيدة، بعد أن سرقت منها طفولتها، وكدت
تسرق برائتها.. وأنت مع الأسف الشديد والدها.
تمتم
الرجل بصوت لاهث متقطعة:
ـ
هل.. هل أعرفك؟
ـ
لا.. لا تعرفني.. ولن تعرفني أنا.. أو زوجتي.. ابنتك التي حطمت لها حياتها، ومع
الأسف شاركتك أنا في التحطيم دون أن أدري.. لا تدري كم أحاول التحكم في غضبي كي لا
أقصف لك عنقك!!.. ولكني سأتركك.. وأتمنى ألا أسمع عنك بعد هذه اللحظة، هذا ..لو
أردت ألا يكون قتلك بيدي هاتين.
دفعه
وكأنه يتخلص من قذارة علقت بيده وخرج مسرعاً ليهبط درجات السكن بسرعة.. ولكنه توقف
مذهولاً أمام باب سيارته المفتوح وزوجته التي اختفت.. دقات قلبه التي عصفت بصدره
كالخناجر مزقته ألماً وخوفاً من فقدها، تلفت حوله بلهفة.. بأمنية واحدة.. لم يتمنى
سواها منذ زمن بعيد، أن يراها.. ليحتويها على صدره المتعطش لحضنها، ودفء نظراتها
وهي تنعم بالأمان الذي توسلته دائماً منه.
زرع الحي كله على قدميه يبحث بين الوجوه،
عن من حطمت حياته بعودتها من الموت، ومزقت قلبه بهروبها.
عاد للسيارة متلهفاً ربما يجدها قد عادت،
ولكنه ارتمى لاهثاً على السيارة
وقد ملأه إحساس مظلم وكأنه لن يراها أبداً.. واعتصرت هذه الفكرة ما تبقى من روحه
المتعلقة ببارقة أمل، عادت لتشتعل من جديد عندما تذكر شقتها، ركب السيارة وقادها
على عجل، وما لبث أن غادر منكس الرأس بعد أن أكدت له جارتها أنها لم تعد بعد..
فعاد يجر أذيال هزيمته ليطرق الباب الأخير...
فوجئ ماثيو بمن
يشده من تلابيبه أثناء تناوله طعامه في مطعم المشفى، كان الهدوء هو ما يميز هذا
المكان خاصة في هذا الوقت من الليل، والذي بدده ليام بغضبه وهو يهدد ماثيو بقبضته
التي راح يلوح بها في وجهه وهو يصيح:
ـ أين زوجتي يا
هذا؟
ردد ماثيو
سؤاله الذي صدمه أكثر مما فاجأه:
ـ أشلي!!... هل
هي مختفية؟؟.. لا أعرف حقاً يا دكتور، ولكن، لماذا تسألني أنا عنها؟
رد ليام بصوت
أجش من بين أسنانه:
ـ لأنها في كل
مرة تهرب لا تلجأ إلا لك، أليست هذه كلماتك لي؟؟..
رد ماثيو بتهكم
رغم عنقه الذي ما يزال بين أصابع الزوج الغاضب:
ـ إذن فقد هربت
منك مرة أخرى، أليس الهروب المتكرر منك دائماً له دلالة ما؟؟.. يا... دكتووووور..
راح ليام يهزه
بدون وعي صائحاً بصوت هادر:
ـ علاقتي
بزوجتي لا شأن لك بها، والآن أجب عن سؤالي.. هل تعرف أين أجدها في مكان غير شقتها،
فهي ليست هناك.
رد ماثيو
هازئاً:
ـ نعم... ربما
في أي عيادة مشبوهة لعمليات الإجهاض.
اشتدت قبضة ليام
على عنقه بيديه وقد احمر وجهه باحتقان، وشعت عيناه بشرار:
ـ ماذا تقول؟!
رد ماثيو
بصعوبة:
ـ لست أنا الذي
أقول يا دكتور، بل هي زوجتك التي تبحث عنها.. فهي مصرة على إجهاض جنينها.
خفف ليام من
قبضته ساهماً متمتماً بذهول:
ـ غير معقول أن
تفكر بالإجهاض، لقد تحدثت معها وطمأنتها أنها ستكون معي بأمان.. إلا إذا لم يكن
طفلي كما سبق وأخبرتني.. تلك اللعينة.. لقد تلاعبت بي للمرة الثانية..
استغل ماثيو
فرصة شروده ودفع يداه عنه ليحرر نفسه من قبضته قائلاً بحدة:
ـ أحقاً تصدق
نفسك فيما تقول؟!.. أي امرأة في العالم تجاهر بخيانتها بكل هذه الجرأة؟.. ولمن؟
لزوجها الذي لم تلمح منه منذ عودتها بارقة أمل أن يعاملها بأي مشاعر غير الغضب والإنتقام
الأعمى.. إلا إذا أرادت تضليله.
تردد ليام
للحظات ووقف عقله أمام كلمات ماثيو متسائلاً:
ـ ماذا تعني؟
ـ ألم تفهم بعد!!..
زوجتك أنقى امرأة في العالم.. وإن لم تساعدها ضاعت منك، لقد أحبت الجنين لأنه ممن
تحب، ولكنها لم تجد من يحبهما معاً، حتى والد جنينها يتنكر لها كما لو كانت مرض
معدي، ومع الأسف رفضت بساط الحب الوردي الذي افترشته تحت قدميها، والحياة الكريمة
التي وعدتها بها بعيداً عن حياة الذل وعدم الكرامة التي لم ترى سواهما في الحياة
معك.. لو كنت جدياً في البحث عن زوجتك ربما تجدها قد عادت لشقتها، فهي لا تملك أجر
عملية الإجهاض بعد، ولكنها لن تيأس ستظل تحاول حتى لو تسببت بقتل نفسها، التي
أصبحت فاقدة لهويتها بعد أن فقدتك.
ود لو يلكمه
لكمة يفقده فيها بعض أسنانه، ولكن رغبته في العثور عليها كانت أقوى.. فانطلق من
فوره ولم يهتم بطريقه بأي إشارات أو مخالفات.. وكاد أن يصطدم أكثر من مرة بسيارات
من الجهة المقابلة، إلى أن وصل لعنوانهامرة أخرى، فأوقف سيارته في منتصف الشارع..
كان لاهثاً متعباً وهو يطرق باب شقتها بإلحاح
وبقبضات متوالية قوية، ورغم ذلك لم يسمع أي صوت يدل على وجودها.. حتى تأكد أنها
غير موجودة، فجلس علي الدرج واضعاً رأسه بين يديه يشعر وكأنه أضاعها من بين يديه
مرة أخرى.. إلى أن انتبه للباب الذي فُتِحَ في الجهة المقابلة، وأطلت الجارة
بوجهها المصبوغ بالألوان وسألته متشدقة بالكلمات في فمها كالعلكة:
ـ ألم تجدها
بعد؟
هز رأسه بدون
كلام فقد شعر أن مجرد حرف يخرج من فمه قد يجعله يبدو أمام هذه الجارة بمظهر الرجل
المنهار على ضياع امرأته منه..
فعادت تتشدق بكلماتها:
ـ لقد عادت منذ
قليل.
الآن فقط..
استولت على انتباهه، فقفز من مكانه وكأن قوى شيطانية استولت على جسده المتراخي،
وراح يهز الجارة من كتفيها:
ـ تكلمي.. أين
ذهبت؟.. ماذا قالت لك؟.. هل أخبرتها أنني ابحث عنها؟
لم تكلف نفسها
بالرد على تساؤلاته، فقد كادت تلتهمه بعينيها المكحلتين بوقاحة.. وهي تتفرس في
وجهه بإعجاب تكاد ترتمى على صدره بطلب وقح وواضح.. أن تنام في فراشه، لتتوسد هذا
الصدر العارم بالعضلات..
ولكنه عاد يهزها بقسوة لتفيق من أحلام يقظتها
وهي تصيح بصوت نزق:
ـ لست أدري فيم
تهافتك على هذه النحيلة؟.. وأنا هنا قد...
عاد يصيح من
بين أسنانه:
ـ تكلمي
وإلا...
شعرت بالرعب
لجديته الواضحة في تهديده، فازدردت لعابها بصعوبة وهي تتمتم:
ـ لم تقل لي..
حملت بعض أغراضها وذهبت.
ـ هل أخبرتها
أنني أبحث عنها؟
ـ نعم أخبرتها..
وقالت لي.. أن أبلغك أن تكف البحث، فلن تجدها أبداً، وقالت لي.. أن أخبرك أن
تعتبرها قد عادت للموت، فلن تضايقك بعد اليوم.
صرخت عندما
اشتدت أصابعه على كتفيها في فورة غضبه وهو يصرخ بدوره:
ـ اللعنة...
ـ اتركني..
وإلا أبلغت الشرطة.. هل أنت مجنون؟
رفع يداه عنها
متمتماً بكلمات اعتذار لم تسمع منها شيئاً وهي تصفق الباب في وجهه بكلمات سب بذيئة.
عاد لسيارته
شارداً في كلماتها..وضع رأسه على المقود يشعر بهموم كالجبال تكاد تحني ظهره، ثم
انتصب فجأة متذكراً كلمات ماثيو..
"لا تملك
أجر عملية الإجهاض.. بعد... بعد.. بعد"..
ثم تذكر كلمات
الجارة...
"كف عن
البحث فلن تجدها أبداً، وقالت لي أن أخبرك أن تعتبرها قد عادت للموت، فلن تضايقك
بعد اليوم".
هز رأسه يكاد
يحترق من التفكير، وبدون أن يعرف لماذا اتجهت عيناه لدرج القفازات، امتدت يده
المرتجفة لتفتحه ثم تناول العلبة المخملية، ولم تكن صدمة كبيرة عندما وجدها خالية
من محتواها، ولكن آخر أمل انطفأ داخله وهو يرى بعيني خياله شبح الموت يقترب من
زوجته التي فضلت الموت مرة أخرى على أن تفرض عليه وجودها...
. تمتم بنبرة
ألم :
ـ أين أنتِ.. أشلي؟؟..
وماذا ستفعلين بنفسك؟
رغماً عنك.. أحبك!!..
****************
منذ
ثلاث سنوات....
ـ دكتور
ماجواير.. دكتور ماجواير.. من فضلك توقف
لحظة عن المشي بهذه السرعة، أنا متأكدة أن ماراثون الركض في ردهات المستشفى لم
يبدأ بعد!!!
توقف
الطبيب عن الحركة وهو يلتفت بملامح يعلوها التعبيرات الملولة فلحقت به محدثته
وتوقفت لاهثة، واستغرقت لحظات حتى هدأت أنفاسها..
ثم رفعت رأسها لأعلى لتتمكن من التواصل مع عيني
الطبيب المتذمر:
ـ شكراً
لك يا دكتور.. أكان يجب أن أركض خلفك بطول المشفى وعرضها حتى وافقت على محادثتي؟!..
رد
من بين أسنانه محاولاً التحكم في أعصابه كي لا يفقد هدوءه أمام محدثته التي تكاد
تلتهمه بعينيها:
ـ كلي
آذان صاغية يا دكتورة.. ما هو الأمر البالغ الأهمية الذي دفعك لتلاحقيني بهذا
الإصرار؟!..
شملته
بنظرات مسحت بها جسده من قمة رأسه الفاحم السواد حتى.....
أجلت صوتها وردت بنعومة متعمدة:
ـ ألم
تعد زوجتك من رحلتها في الكاريبي بعد؟
عقد
زراعيه على صدره متسائلاً:
ـ زوجتي!!..
هل أنتِ متأكدة أن هذا هو الموضوع الهام الذي عطلتني للحديث عنه؟.. أم تريدين
التأكد إن كان فراشي ما يزال خالياً لاستقبالك؟!..
هتفت
بحدة:
ـ أنت
مغرور ووقح!!.. مدير المشفى يطلبك في مكتبه.
ارتسمت
شبح ابتسامة هازئة في جانب شفتيه وهو يتابعها بنظراته حتى توارت عن عينيه وقد
احمرت من شدة الغضب، لدرجة أنه شعر أنه أصبح في عداد القتلى.
دخل
غرفة المدير بعد طرقة واحدة ووقف بالباب متسائلاً:
ـ هل
طلبتني؟!
أشار
له المدير بيده ليتقدم بينما انشغل بحديث هاتفي..
لم يكن الصبر من شيمه وقد طالت المكالمة، وكلما هم بالخروج أصر عليه المدير بالبقاء.. فيضطر
للجلوس متذمراً، أخيراً وضع الرجل الأكبر سناً سماعة الهاتف جانباً والتفت لينتبه
للطبيب الفاقد صبره..
ـ عفواً
دكتور.. هل عطلتك؟.. يبدو عليك الانشغال.
هز
ليام رأسه بالموافقة:
ـ نعم..
في الواقع فأنا أتابع حالات حرجة حالياً، عدا عمليتان جراحيتان متعاقبتان.
فوجئ
الطبيب الشاب بمديره يمد يده ليعطيه سماعة الهاتف قائلاً:
ـ اتصل
بالطبيب لورنس أو الطبيب شيبرد، ليتوليان مهامك.
حدق
ليام بالهاتف ولم يمد يده ليأخذه، ثم رفع رأسه لمديره:
ـ ولكن!!..
هل تحمل لي أخباراً سيئة؟!
أطرق
المدير برأسه وهو يهزها بالموافقة وبعد تنهيدة من الأعماق:
ـ اتصل
بي منذ لحظات مندوب سفارتنا في جزر الكاريبي...
ظهر
الاهتمام أكثر على الطبيب الشاب والمدير يتابع بصعوبة:
ـ ليام..
أتمنى أن تتمالك أعصابك.. لقد غرق اليخت الذي على متنه زوجتك وأصدقائها، لم
يتمكنوا من إنقاذ أي واحد منهم.. واجهتهم عاصفة عاتية أغرقت اليخت، لم تكن أمامهم
أي فرصة للنجاة، أنا آسف...
انتفض
ليام من هول الصدمة:
ـ أتعني؟..
أتعني أنها.. أشلي.. ماتت؟!!
أجابه
المدير بلهفة ظناً منه أنه يعاني من صدمة فقده لزوجته:
ـ يمكنك
أخذ اليوم وباقي الأسبوع إجازة كي تتمكن من إجراء ترتيبات الجنازة و...
فوجئ
المدير بالطبيب الشاب يقف وقد رسم على ملامحه تعبيرات لا يمكن أن تكون لرجل فقد
زوجته للتو:
ـ ليام!!...
قاطعه
ليام:
ـ شكراً
لتعاطفك يا دكتور.. ولكني لست في حاجة لإجازة وسأوكل محامي بعمل الإجراءات في مثل
هذه الحالات، أؤكد لك أني لا أعاني من أي صدمة!!.. أنا بخير، كما لم أكن منذ فترة
طويلة!!.. سأذهب لأستأنف عملي.
ردد
المدير بذهول:
ـ ولكن..
ولكن..
لا
يمكن أن ينسى مثل هذه اللحظة أبداً، شعوراً جارفاً بالحرية المفعمة بالحياة.. لقد
تلقى لتوه خبر موت زوجته، وكل ما يشعر به هو الراحة التامة!!.. وكأنه كان مصاباً
بمرض عضال وقد برأ منه للتو!!.. ولا يمكن أن ينسى كيف قضى تلك الليلة في سيارته
يجوب شوارع المدينة حتى شروق شمس اليوم التالي، كان يرى كل مكان حوله وكأنه يراه
لأول مرة بعين جديدة.. وإحساس جديد.. وروح جديدة، ولم يشعر بالذنب ولو للحظة، لأنه
على قيد الحياة وهي ميتة.. غارقة في أعماق الكاريبي، فهذا هو عقابها القدري الذي
استحقته عن جدارة لكل مساوئها وأخلاقها المنحطة.
وها
هو وبعد ثلاث سنوات يجوب نفس المدينة بكل شارع فيها يتمنى ألا تشرق شمس الغد أبداً
إلا وهي معه في أمان قربه!!.. ولكن تمنياته ظلت هواجس في عقله فها هي ضاعت منه مرة
أخرى.. ولكن هذه المرة سرقت قلبه ومعه كل أسباب الحياة، بالإضافة لطفله الذي يعيش
في أحشاءها..
تفرس في كل الوجوه، رآها في كل امرأة تشبهها ولا
تشبهها، وعندما استبد به اليأس عاد للمشفى، لأن الفيلا ستذكره بها وهو يريد ذهنه
صافياً ليتمكن من التفكير في المكان الذي من الممكن أن تتواجد به.
دخل
غرفته في المشفى دون أن يرد على أياً ممن لحقوا به، كانت رئيسة الممرضات، ومدير
المعدات الطبية، وممرضة أخرى لم يسمع منها ما تريد..
ما إن وصل إلى غرفته حتى أغلق الباب في وجوههم
جميعاً دون أن يرد بكلمة واحدة، استلقى على فراشه الضيق يحاول استجماع شتات نفسه،
ثم نظر جواره وضاقت عيناه والتقى حاجبيه ببعضهما وهو مستغرق في التفكير، يحاول استجلاب
ذكرياتها معه هنا على هذا السرير الصغير.. ولكن الومضات الخافتة التي كانت بالكاد
يلتقطها عقله.. مشوشة.. شبه معدومة، بعد أن وضع رأسه على الوسادة وهي تقترب
بشفتيها من شفتيه في قبلة غالبه شكه أنه تلقاها على الإطلاق، ثم ازداد وهج الومضات
بعد أن استيقظ وقد أوهمته بكل لغة بجسدها الأنثوي أنها وهو كانا في علاقة كاملة..
ومن شدة إنهاكه في ذلك اليوم لم يتذكرها!!.. خاصة وأنه يحتقر نفسه لمجرد استسلامه
لمفاتنها الآثمة.
استفاق
من نومه على طرقات جادة على بابه، فتح عينيه بصعوبة ليجد ماثيو أمامه فهب إليه
متلهفاً بالسؤال:
ـ هل
وجدتها؟؟
هز
ماثيو رأسه بالنفي وهو يرد محبطاً:
ـ جئت
لأسألك السؤال نفسه.. ترى أين اختفت؟
أعاد
ليام رأسه على الوسادة مغمغماً:
ـ لا
أدري.. أشعر أني فقدتها مرة أخرى، ولكن هذه المرة الشعور مختلف، وكأني طائراً فقد
جناحيه، وكبل بأغلال اليأس والألم للأبد.
ظل
ماثيو ساهماً شارداً لبعض الوقت ثم هتف فجأة:
ـ أنا
أعلم أين يمكن أن نجدها.
انتفض
ليام مرة أخرى من مكانه يحدج ماثيو بنظراته القاتلة فأوقفه ماثيو عن التقدم نحوه:
ـ قلت
لك يمكن وليس أكيد.. إذا بحثنا عن العيادات التي يمكن أن تلجأ لها أشلي، فسنجدها
محصورة في سبع أو عشر عيادات تقبل بهذا النوع من الإجهاض، وأنا أعلم من يمكنه
مساعدتنا في مثل هذا البحث.
********************
قفزت
من مكانها تحدق بجارتها في لهفة.. أخذ النبض في شرايينها يزداد قوة لدرجة الوجع
وهي تنتظر نتيجة اللقاء، ولكن جارتها راحت تلعب بأعصابها وهي تتجاهلها ببرود لتجلس
بساقين متعاقدتين:
ـ لقد
ذهب.. المسكين سيصاب بالجنون لو لم يعثر عليك.
أخذت
ترتجف من رأسها حتى أخمص قدميها وهي تتخيل ليام بكل لهفته وغضبه يبحث عنها حتى
يصيبه الإحباط عندما تكلل مساعيه بالفشل.. أفاقت من أفكارها على جارتها تسألها
بكلماتها المتشدقة:
ـ ماذا
ستفعلين الآن؟.. طبعاً لا يمكنك البقاء هنا.. هذا الرجل لن يكف عن البحث عنكِ ولا
أحب مواجهته عندما يعرف أنني كذبت عليه وخبأتك في شقتي.
مسحت
أشلي وجهها من الدموع قائلة وهي تزفر الهواء بصعوبة من صدرها
ـ لا
تقلقي.. سيلا.. سأجد مخرجاً، ولكن لابد أن أبيع هذا الخاتم أولاً.
وأخرجت
الخاتم من حقيبتها، ولم تلاحظ عينا جارتها اللتان كادتا تخرجان من محجريهما
ولسانها يتدلى وهي تحملق بالخاتم الذي التمعت ماسته ببريق خاطف للأبصار، فشهقت وهي
تختطفه من يدها:
ـ ما
هذا؟!.. هل.. هل هذه ماسة حقيقية؟
ردت
أشلي بشرود:
ـ نعم..
وأنوي بيعها لأدفع تكاليف عملية الإجهاض، ولأجد لنفسي مكان يؤويني حتى أجد عملاً.
صاحت
الفتاة بحدة مبالغة
ـ لا...
وعندما
حدقت بها أشلي بدهشة، تراجعت عن حدتها وهي ترسم ابتسامة وتكاد تتقطع أنفاسها من
اللهاث وازدراد لعابها على الماسة التي تحتضنها على صدرها:
ـ لا
تتعبي نفسك بالتفكير في أي شيء، أنا سأدبر لكِ كل ما تطلبين.
سألتها
أشلي بدهشة:
ـ ماذا
تقصدين؟؟
أخذت
الفتاة نفس عميق وعبأت به صدرها قائلة بهدوء بعد أن تمالكت نفسها وإن التمعت
عيناها ببريق الماسة التي لم تغادر مخالبها بعد:
ـ هل
تظنين أنكِ تستطيعين بسهولة الذهاب لأي عيادة للإجهاض؟؟
سألتها
أشلي وهي تزداد دهشة:
ـ وما
المشكلة؟.. أنا ممرضة.. وأعرف بعض عناوين هذه العيادات التي أطمئن للتعامل معها.
شهقت
الجارة:
ـ وهل
تظنين أن صديقك هذا لن يجدك في أي عيادة من هذه العيادات؟.. ألم تخبريني أنه طبيب
معروف؟.. أراهن أنه اتصل بهم جميعاً الآن، وأعطاهم أوصافك ليبلغوه فور أن تطأ
أقدامك أي عيادة منهم.
تراجعت
أشلي شاحبة ذاهلة:
ـ أنتِ
على حق.. كيف لم أنتبه لهذا الأمر؟.. يا إلهي.. ماذا أفعل؟؟
بعد
لحظات تركتها الفتاة في دواماتها تبكي وتبحث عن حل لمشكلتها، جلست جوارها وسألتها
بنبرة الصديقة الصدوقة:
ـ أخبريني..
أليس لك أهل؟.. أو أصدقاء مقربون؟
هزت
أشلي رأسها بأسى:
ـ لا..
ماتت أمي.. وأبي الوحيد على قيد الحياة من كل أهلي الذين أعرفهم.
صاحت
الفتاة بسخط:
ـ ذلك
الثمل!!.. الذي لا يطلبك إلا ليطلب منكِ مالاً.
غمغمت
أشلي:
ـ نعم..
هو.
ضمتها
الفتاة لصدرها بحنان زائف:
ـ أيتها
المسكينة.. لماذا لم يتزوجك صديقك الطبيب؟.. آه.. فهمت.. أنتِ أقل من مستواه،
ولكنه يبحث عنكِ ويبدو مهتماً.
ردت
أشلي بصوت جامد:
ـ لا
يريد سوى ابنه.. وأنا.. أنا لا أستطيع إكمال هذا الحمل.. لا أستطيع.
شهقت
بالبكاء فعادت تضمها وتهدئها وبكل هدوء ألقت لها قنبلة:
ـ ما
رأيك؟.. أنا أعرف من يستطيع مساعدتك.
رفعت
أشلي رأسها متسائلة بلهفة:
ـأحقاً!!..
ولكن كيف؟؟.. لابد أن ليام كما قلت سيتصل بكل العيادات و..
ردت
سيلا بمكر:
ـ ولكنه
لن يستطيع الوصول لهذه العيادة أبداً!!
حدجتها
أشلي بنظرة مرتابة..
فأردفت:
ـ لا
تقلقي.. إن هذا الطبيب هو في الواقع يمت لي بصلة قرابه، ولكنه فقد رخصته لأسباب لا
أذكرها تماماً!!.. لذلك فهو يعمل في مكان مستتر بعيداً عن العيون، ولكنه مأمون..
لقد ساعدني أكثر من مرة، أريدك أن تطمئني تماماً بشأنه.
سألتها
أشلي بتردد:
ـ في
مكان مستتر؟؟!!.. أين تقصدين تماماً؟
تنحنحت
الفتاة قائلة وهي تجلي صوتها بثقة:
ـ في
حي فقير، بعيداً عن العيون.. فقط بشكل مؤقت حتى يستعيد رخصته، لقد كان دكتوراً عظيماً..
ربما سمعت عنه؟.. اسمه الدكتور سامرز.
هزت
أشلي رأسها وهي تقدح زناد فكرها بالتفكير:
ـ لا..
لم أسمع عنه من قبل.
ـ لا
يهم.. ولكنه أملك الوحيد الآن.. ومن المستحيل أن يعرف أي أحد مكانه.
ـ وكم
أجر هذه العملية؟
ازدادات
قبضة الفتاة على الماسة وهي تصيح بانفعال:
ـ لا
تشغلي بالك بهذه الأمور.. سأحدثه على الهاتف وأبلغه بقدومك.
صاحت
أشلي بخوف:
ـ ألن
تأتي معي؟
طمأنتها
الفتاة بابتسامة واسعة:
ـ بالطبع..
لن أتركك أبداً، سأعطيك العنوان.. وبعد أن أبيع هذا الخاتم سألحق بكِ، وقبل أن
يباشر طبيبنا المنقذ بأي شيء، ستجديني أمامك.
هزت
أشلي رأسها متوجسة، ثم تنهدت براحة عندما طمأنتها الفتاة بابتسامتها الواسعة وهي
ترفع سماعة الهاتف وتضرب الرقم.
وبعد
دقائق استغرقتهما في محادثة ممرضة العيادة كما فهمت من كلامها وضعت السماعة وهي
تشير لأشلي بإبهامها علامة النصر:
ـ غداً
صباحاً سينتظروك.. الآن ادخلي غرفتي لترتاحي.
اعترضت
أشلي:
ـ ولكن
أين ستنامين أنت؟؟
ـ لا
تقلقي بشأني.. سأتمدد على الأريكة هنا، فلا رغبة لي بالنوم.. المهم أن ترتاحي أنتِ
فأمامك يوم حافل غداً.
